مصطفى نصر - زواج تولستوى

يسير تولستوي على مهل، لقد أنهكه التعب، فقد بذل مجهودا كبيرا هذه الأيام، يقرأ ويكتب كثيرا، تطارده الأيام بتتابعها، تطالبه بأن يسرع بفعل المزيد.
اقترب من بيت أندريا – طبيبه والمقرب إليه – هو من أسرة فقيرة، أحس تولستوى بمواهبه؛ استيعابه السريع للأشياء، وميله لقراءة كتب الأدب؛ فساعده، أعانه حتى أنهى دراسته للطب.
دق نافذته من الخارج ليوقظه- هو يسكن حجرة في الدور الأرضي في بيت داخل المقاطعة.
هب أندريا فزعا، أطل من النافذة وصاح فرحا:
- سيدي الكونت، تفضل.
سار إليه:
- إنني في حاجة إليك.
- إنني على استعداد لأن أجتاز البحر لو أمرتني.
- لن نجتاز البحر، إنما سنجتاز أهم مرحلة في عمرنا، لقد جهزت صكوك الملكية، سنذهب إلى الفلاحين لنسلمهم الأرض، ستكون معي يا أندريا.
سارا معا في طريقهما إلى أكواخ الفلاحين، ود لو كانت صوفيا معه، وباقي أفراد الأسرة ليشهدوا هذا التحول العظيم في حياته.
قال أندريا:
- لا أستطيع أن أعترض على أمر تصدره لي، لكن أسرتك لن ترحمك.
- إن كانت أسرتي- التي ضحيت من أجلها بكل شيء؛ لن ترحمني- فماذا أنتظر من الآخرين؟!
- الأمر ليس سهلا، فالأرض كعضو في جسد الإنسان، ليس من السهل أن تقتطع جزءً من جسدك وتعطيه للآخرين.
- أعرف هذا جيدا، ولن أهتم بما سيحدث.
كان الفلاحون مجتمعين يتسامرون، وقفوا في احترام شديد عندما اقتربا منهم، ابتسم تولستوي:
- كيف حالكم؟
وصاح أندريا قبل أن يسهبوا في الترحاب:
- الكونت جاء إليكم بمعروف.
صاحت فلاحة:
- يكفينا تواضعه ورحمته بنا وبأولادنا.
قال: جئت لأوزع عليكم جزءً من أرضي.
غمغموا، ضاعت الكلمات بينهم، فهم لا يفهمون ما يقصده الكونت، قال أندريا:
- سيعطي الكونت لكل منكم قطعة أرض صغيرة.
صاحت فلاحة:
- إننا مرتاحون للأرض التي نزرعها الآن يا سيادة الكونت.
- الأمر مختلف هذه المرة، الأرض ستكون ملكا خالصا لكم.
صاح فلاح مندهشا:
- لم يحدث هذا من قبل، لم أسمع بهذا منذ أن ولدت.
وقال أندريا:
- هذه هي الأوراق، كل من يسمع اسمه؛ يتسلم الصك الخاص به.
00
جاء نيقولا على عجل، فقد أرسلت إليه صوفيا ابنة عمه، فهي تريده في أمر مهم وعاجل، ظن أن زوجها ليو تولستوي مريض، أو أن أحد أولادها أو بناتها في خطر، فما الذي يجعلها تلح في طلبه هكذا؟!
لم يكن زوجها موجودا وقتذاك، أولادها وبناتها مشغولون بأعمالهم، اقتربت صوفيا منه وصاحت مترددة وهي تتابع الأولاد خشية أن يسمعوها:
- هناك أشياء تقلقني بالنسبة لتولستوي.
- ماذا به؟
- إنه ميال للانطواء والتأمل الطويل، يتطلع إلى أشياء بعيدة عنا، يدرس كتب الفلاسفة، يهتم بالكتب الإسلامية.
ضحك نيقولا مندهشا:
- ما تقولينه ليس غريبا، فهو كاتب وعليه البحث في كل المواضيع.
أحست بالضيق فهي لا تجد من تشكو له، بناتها لا يهتممن بها ويعجبن بأبيهن، يرون أن ما يفعله ليس غريبا، هاهو ابن عمها – الذي ظنته سيفهمها - يسخر من قلقها وهلعها على زوجها:
- يجنح هذه الأيام نحو أعمال غريبة، يملأ القصر بأدباء ناشئين جاءوا ليعرضوا عليه كتاباتهم، يائسين من الحياة؛ جاءوا ليسألوه عن سر الحياة، طلاب جاءوا يسألونه فيما يدرسون، لا، لم يعد قصري قصرا.
ازدادت صوفيا غيظا وهي ترى نيقولا يضحك قائلا:
- كل الأدباء على هذه الحالة، أنتِ قبل زواجك كنت فرحة لأنك ستتزوجين مؤلفاً وفناناً.
بكت صوفيا بعد أن وجدت ألا فائدة مما تعرضه، الكل يخفف من أثر أفعاله التي تراها أعمالا خطيرة؛ لابد من منعها قبل أن تستشري وتتحول إلى حريق هائل يلتهم كل شيء.
- نيقولا، أفهمني، بلغني أنه تنازل عن حقوق مؤلفاته للهيئة الخيرية العامة.
قال نيقولا وقد قل حماسه في الدفاع عنه:
- حتى لو فعل هذا، فهو ليس في حاجة إلى حقوق مؤلفاته.
00
عاد نيقولا إلى بيت تولستوي بعد أقل من شهر غاضباً، لم يسع إلى مقابلة صوفيا أول ما جاء، دخل فورا إلى حجرة تولستوي الذي رحب به بابتسامتـه الهادئـة، نظـر إليه نيقولا طـويلا ولم يقـل شيئا؛ فتركـه تولستوي جالساً أمامه وعاد لشروده، صاح نيقولا بعصبية وحدة:
- شكت صوفيا لي ولم أصدقها، لكنني فوجئت بمولانا القيصر غاضب هو وسائر الإقطاعيين.
ابتسم قائلا في هدوء شديد:
- لا أدري ما الذي يغضبهم مني؟
- غاضبون لأنك تريد أن توزع أراضيهم على الفلاحين.
- لا أريد أن أوزع أراضيهم، بل أريد أن أوزع أرضي أنا.
- تلك هي البداية، فسوف تشجع باقي الفلاحين على المطالبة بالأرض.
- لقد حسمت الأمر مع نفسي، لماذا أمتلك الأراضي الشاسعة، بينما الفلاحون يموتون جوعا.
صرخ نيقولا فيه غاضبا:
- مالك بهم، هل أنت ربهم؟!
ثم أكمل بهدوء:
- يا صديقي العزيز، الكل يلومونني ويعاتبونني لموقفك، فأنا لست بصديقك فقط، إنما ابن عم زوجتك أيضا.
- إنني مقدر الموقف الصعب الذي تواجهه الآن، لكنني– أنا أيضا – معذور.
وقف نيقولا وقد ازداد غضبا، تحدث بصوت سمعته صوفيا في حجرتها، وسمعه باقي الخدم في القصر الكبير:
- مولانا القيصر نبهني إلى هذا، طلب مني أن أحذرك، كما أنه هدد....
- تلك أمور سخيفة لم تعد تزعجني. كان من الممكن أن أجزع أو أخاف لو أني مازلتْ في جهلي القديم.
قال نيقولا في هدوء وهو يربت ظهره:
- إنك لا تعيش هنا وحدك، هناك زوجتك وأولادها وبناتها، ماذا ستترك لهم عندما توزع أملاكك؟
- لا أستطيع أن أعطيهم ما لا أملك.
سار نيقولا ناحية الباب وهو يصيح في ثورة:
- لقد تعبت معك، سأذهب إلى صوفيا زوجتك.
ظل تولستوى واقفا في مكانه؛ يتابع الباب المفتوح الذي خرج منه نيقولا، ثم عاد ليكمل عمله.
عندما خرج نيقولا من حجرة مكتب تولستوي كانت صوفيا في انتظاره، شدته من يده وابتعدت به حتى لا يسمع تولستوي صوتهما، قالت:
- ماذا فعل ثانية؟
- وزع جزءً من الأرض على الفلاحين.
زفرت في أسى، جلست على أول مقعد قابلها منهارة:
- وماذا ستفعل؟
- إنه يدمر كل شيء، مولانا القيصر وباقي رجال الدولة؛ غير راضين عن أفعاله.
وصاحت صوفيا وهى تلعن في نفسها القيصر وباقي رجال الدولة:
- ما يهمني هي أملاكي وأملاك أسرتي، لذا سآخذ الحراس وأذهب إلى أكواخ الفلاحين واسترد الأرض منهم بالقوة، سأجلدهم بالسياط.
- هذا هو الحل، لو انتظرنا سيقوون ولن نستطيع الوقوف أمامهم.
أسرعت صوفيا ونيقولا بجوارها وخلفهما الحراس يحملون أسلحتهم. دق نيقولا الباب في عنف:
- أخرج أيها الفلاح لأتحدث معك.
فتحت فلاحة الباب، ابتسمت عندما رأت صوفيا ونيقولا، صاحت مرحبة:
- أهلا مولاتي.
دفعتها صوفيا في عنف وصاحت:
- ادخلوا أيها الحراس.
صاح فلاح فزعا:
- أنا وزوجتي وأولادي لم نفعل شيئا.
صاح نيقولا غاضبا:
- بل سرقتم الأرض.
- لم نسرقها، إنما أعطانا إياها سيدي الكونت.
صاحت صوفيا:
- أين الصكوك التي أعطاها الكونت لكم؟
أسرع الرجل إلى كوخه وجاء بالصكوك، ظن صوفيا وابن عمها سيطلعان عليها؛ ويعيدونها إليه ثانية. لكنها أمسكت بها ومزقتها.
00
يخرج تولستوى كل صباح، يسير في الهواء الطلق لمدة ساعة، يستنشق الهواء النقي ويشرد، عندما عاد هذه المرة رأى صوفيا تبحث في صوانه الخاص، تُخرج أشياءه وتضعها فوق مكتبه القريب، تبحث داخل كتبه وأوراقه، صاح بها:
- ماذا تفعلين في صواني؟
قالت في تحد:
- أبحث عن صكوك ملكية جديدة تعدها للفلاحين، أبحث عن وصاياك.
تأملها طويلا ولم يجب، صاحت:
- لماذا تنظر إلىّ هكذا؟
- مازلت أذكر يا صوفيا عندما جئت إلى بيتكم لأخطبك، كنتِ كالملاك وصوتك عذب كالموسيقى، أين ذلك من الصورة التي أراها الآن؟!
صاحت غاضبة:
- ماذا تقصد، أصابتني الشيخوخة وبدوت دميمة؟
- لا أقصد هذا بالطبع، فأنت مازلت جميلة، لكن نفسك تغيرت، تعشقين السلطة والتحكم في الناس، ترتاحين للحياة في المقاطعة بحجة رعاية أملاكك، الحقيقة أنك هنا تجيدين العبيد الذين يأتمرون بأمرك. أتابعك وأنت تعاملين الفلاحين المساكين، تقسين عليهم وتحمّلينهم فوق طاقتهم.
صاحت صوفيا وأشاحت بيدها غاضبة:
- لا تخرج عن الموضوع، إننا نتحدث عن الأرض، فما لك ويوم الخطبة؟!
- لم ابتعد كثيرا عن الموضوع.
- إنني قادرة على حماية أملاكي وأملاك أسرتي، سأتصدى لكل من يحاول أخذ بوصة واحدة من الأرض.
قال: سوف أريحك من كل هذا العناء.
00
سار تولستوي، كان يرتدي ملابس الفلاحين الخشنة، ويضع غطاءً على رأسه يصل لحاجبيه.
ذهب إلى حجرة أندريا، أيقظه من نومه:
- سوف أهرب من هذه المقاطعة، سأذهب بعيدا جدا، ربما خارج روسيا كلها.
- لا يا كونت، لا تفعل هذا.
- أرجوك يا أندريا، الوقت حان ولابد من الهرب قبل أن يصحوا، أريد أن أنجو بنفسي.
- لكن الجو بارد جدا، صحتك لن تتحمله.
كاد يبكي:
- أرجوك يا أندريا، لن أستطيع الذهاب وحدي.
- دقائق وسأكون مستعداً للذهاب معك.
سارا حتى محطة القطار المسافرون قليلون، عدد محدود من أهل المقاطعة، القطار يقف، يتأهب للانطلاق، يخرج دخاناً كثيفا يملأ الجو سوادا.
- هيا يا أندريا قبل أن يتحرك القطار.
جرى حتى أنهكه التعب، جلسا في القطار متجاورين، قال أندريا:
- من يراك الآن لا يصدق أنك كونت، من أسرة القيصر.
ضحك، أحس وكأنه مسجون قد أفرج عنه توا؛ وهو الآن في طريقه إلى بيته الذي حرم منه لسنوات طويلة.
- العديد من فلاحي مقاطعتي مروا بي دون أن يتعرفوا علىّ.
تحرك القطار، النوافذ محطمة، فمن سيهتم بقطار لا يركبه سوى الفلاحين الفقراء؟!
اخترق الهواء البارد عظامه، اخترق ضلوعه فأحس بالألم، صاح بعد أن عجز عن المقاومة:
- أندريا، أحس بتعب شديد، آلام تشق صدري، أختنق.
صاح أندريا فزعا وهلعا عليه:
- أغيثوني يا ناس.
اقترب ناظر المحطة مهتما، نظر إلى وجه تولستوي وصاح فزعا:
- سيدي الكونت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟
وصاح أندريا جزعا عليه:
- أرجوك أوقف القطار، الكونت في حالة صعبة جدا.
- بيتي قريب من هنا، ساعدني يا دكتور على حمله.
نام تولستوي فوق فراش ناظر محطة القطار ، بكى أندريا بجانبه:
- حزين يا أندريا لأنني سأموت قبل أن أحقق ما تمنيته.
- بل ستعيش وتحقق كل ما تتمناه.
وأرسل ناظر المحطة في طلب صوفيا، أخبرها بما حدث، جاءت مسرعة هلعة عليه، بكت:
- أين ليو، حبيبي؟
قال أندريا لها:
- أرجوك يا سيدتي، أرجوك، رؤيته لك ستزيده ألماً وعذاباً.
- لكنه زوجي.
- معذرة، فمشكلته أنتِ.
- لم أقصد إيذاءه، لم أقصد، كل ما أردته أن أنقذ أسرتي، أدافع عن حقوقها، هل أخطأت؟
صاحت صوفيا كالمجنونة، تابعها ناظر محطة القطار وأسرته، تابعتها بناتها اللاتي جئن معها للاطمئنان على أبيهن، صاحت صوفيا ثانية:
- هل كنت أتركه ليوزع أملاكنا كما يشاء، لو فعلت هذا، كنتم ستصفقون لي، لكن هل سيعيد التصفيق أرضي وأرض أولادي؟!
واقترب أندريا منها، ذهب بها بعيدا وهو يقول:
- أرجوكِ يا سيدتي، فالكونت في النزع الأخير.

مصطفى نصر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى