داود سلمان الشويلي - وكر الدبابير

في ظهيرة يوم تموزي قائظ ، والشمس اعتلت كبد السماء وهي تبعث بنورها الابيض المشرب بلون اصفر باهت ، وباشعتها الحارة كنار جهنم كما وصفت في الكتب ، الى الارض وما عليها ، فتتركها كقطعة صفيح ساخن ، تحرك سلام ، الفتى الاسمر والنحيل الجسم ، تحت وهج هذه الظهيرة وهو ينز عرقا دبقا يسيل بين دشداشته وجلده الملموم على ما تبقى من لحم قليل في جسده الخاوي ، الدشداشة التي حال لونها في حر هذا الصيف الى لون ترابي ، فيما فتح " زيقها " الاعلى الذي قلع ما فيه من " زرارات " صغيرة تلم وتغلق تلك الفتحة العلوية للدشداشة ،و راحت " فردتي " نعاله الاسفنجي المتسخ تتدلى من على رقبته على صدره ، وقد شدهما بحبل ، فجعل منهما ككفتي ميزان .

سلام هذا ياتي كل يوم الى هذه الارض الجافة من طرف البستان الذي ينبض بالحياة من كل جوانبه سوى هذه المنطقة ، حيث استحال لون اديمها الى اللون الملحي ، فيما انزرع فيها بقايا نخلة جافة ، وراح وكر للدباابير يتدلى من على سعفة من سعفاتها الجافة كانه كتلة لحمية نافرة على خد فتاة نضر ، ليبحث عن جحر حيوان يفزعه بضربه بعصاه الخزيران.

انحنى سلام هذه المرة الى الارض الملحية وهو يبحث عن حجارة ،او صخرة صغيرة ، او اي شيء ليرمي به هذا الوكر الذي بات ساكنا ، ساكتا ، لا صوت له ، في ظهيرة بستان مزهو بخضرته لا يبعد عنه سوى مسافة قصيرة وهو ينبض بالحياة ، اصوات الطيور المغردة ،المسرورة ،المبتهجة وهي في ظل سعفات نخيله الكثيفة المتدلية منها اعذاق الرطب الاصفر الناضج.

فكر مع نفسه وردد بصوت مسموع : سالهو قليلا مع هذا الوكر ، ساخرج الدبابير منه بالقوة ، ستهرب بعيدا خارج البستان ، سيكون كل شيء هادئا وسليما .

وجد حجارة صغيرة تركها جفاف الارض تحت وهج الشمس ، انفرجت اسارير وجهه ، وما زال العرق ينز بكثرة من تحت دشداشته الكالحة اللون ، نزل على خديه فشعر بحرارته ، وذاق بشفتية طعم ملحه ... رفع الحجارة الى الاعلى فرحا ،مبتهجا في حر هذا اليوم التموزي ، قال مع نفسه : " ساهجج " الدبابير التي في هذا الوكر ، دبابير لا فائدة منها وقد غادرتها الملكة ، وخلى وكرها من العسل ، والشمع .

طوح بيده في الفضاء الحار المتوهج الذي يملأ الكون ، والحجارة الطينية ما زالت فيها ، وبيد سمراء وقد انداف عليها تراب البستان الحار بعرق شمس الظهيرة هذه ، رمى بالحجارة الى الوكر ،كانت اصابته موفقة ، فاهتز فرحا مسرورا بهذا الانجاز ، اصاب الوكر في المنطقة التي يلتحم فيها مع نصل السعفة الحاملة له ، تحرك من مكانه ، انتظره سلام ليسقط ، لم يخرج منه دبورا واحدا ، تحرك يمينا وشمالا في هذا الجو الوخيم الذي يفتقد لاي نسمة هواء ، وعلى حين غفلة سقط ، سقط على الارض كتلة واحدة ، تهشم كليا مخلفا شضايا من الطين اليابس واعواد التبن ، واغصان صغيرة يابسة .

كان سلام ينتظر ما هو اكثر من هذا ، انه ينتظر فرار الدبابير الساكنة فيه ، انتظر ، وبعد فترة انتظار شعر بها كأن دهرا قد مضى عليه وهو ينتظر، اقترب من الشضايا التي تناثرت على الارض ، خرج دبور واحد وطار الى الاعلى ،اختفى في الافق الشمسي المتوهج ، تبعه بعد لحظات دبور اخر ، واخر ، ورابع.. ثم سكن كل شيء.

اختفت الدبابير في الافق المتوهج الساكن ، راح يقلب الشضايا ، لم يجد اي دبور فيها ، حتى اصوات ازيزها الخافت اختفت ، ومازالت الشمس ترسل نورها واشعتها وتوزعهما على الارض ، و العرق يتصبب من جسمه الاسمر النحيل ، ودشداشته غدا لونها اكثر باهتا ، ونعليه مازالا يتدليان على صدره .

تحرك قليلا وهو جذلا ، فرحا بما عمل ، سمع صوت ازيز في احد صيوانات اذنه ، تحركت يديه لا اراديا لتنش صاحب هذا الصوت ، كان الازيز يحوم في كل جانب من راسه ، لاح له دبورا كبيرا ابيض فاتح اللون ، بعد فترة اختفى الازيز في جهة الغرب ، فرح سلام في سره ، والشمس ما زالت اشعتها تحرق اديم الارض فتحيله الى سبخة لا فائدة منه ، فكر مع نفسه ، قال : ساعود الى البستان ، لقد طردت الدبابير ، سار جذلا وهو يقفز قفزات غير منتظمة ، وقبل ان يصل الى اول ظل نخلة وافرة باعذاق رطبها الاصفر ، سمع دويا هائلا قادما من غرب المكان الواقف فيه، ازيزا عالي الصوت يملأ الفضاء الذي على جنبيه ،ولاحت له من بعيد سرب من الدبابير وهي تسرع نحوه وقد سدت الفضاء امام عينيه ، كثرت الدبابير المتجهة نحوه ، هاج بعضها وماج ، تكاثر صوت الازيز ، امتلأ الفضاء الحار المتوهج باشعة الشمس بالدبابير التي لا لون لها ، كانت اسراب الدبابير الكثيرة تتوافد باتجاهه.

اسراب من الدبابير تتوافد الى البقعة التي يقف عليها ، وهي الحدود الفاصلة بين خضرة البستان النابض بالحياة والارض الملحية الجرداء التي لم تقف فيها سوى تلك النخلة الخاوية ، المتخشبة ، ووكر الدبابير الذي تخلص منه للتو.

انهالت عليه اسراب الدبابير في هجومات متوالية ، سرب ينقض عليه ويوخزه ويطير بعيدا عنه ، ليأتي سرب اخر يهجم عليه بقوة ، فيما الازيز يتصاعد اكثر حدة.

جلس على الارض محاولا حماية نفسه من وخز الدبابير بيدية التي امتلأت بمساحات حمراء من آثار الوخز ، لم يند منه اي صوت ، او نأمة حتى ، كتم صوته ، كان همه الرئيس حماية جسده من هذا الوخز المؤلم الذي يشعر به كأنه النار التي اججت في جسده الاسمر النحيل ، حاول ، و حاول ، خارت قواه امام هذا الوخز المؤلم الذي تكاثر الاف المرات ، فيما الدبابير تتوافد عليه باسراب امتلأت صفحة السماء بها ، فتغير لونها الابيض المصفر الباهت الى لون الدبابير.

سحب دشداشته المغسولة بالعرق وملح الارض وترابها الى اعلى راسه ، إذ ادخل راسه في زيقها المفتوح وسده بيديه .

ما زالت اسراب الدبابير تنقض عليه كالصاعقة ، والوخز المؤلم ما زال على اشده ، غطى راسه بدشداشته ، احكم جيدا اغلاقها.

تحركت يديه في داخل اكمام الدشداشة الطويلة التي تيبس عليها العرق والملح والتراب ، ضم قدميه الى بعضهما تحت الدشداشة ، تكور على جسمه ملفوفا بالدشداشة المعرقة ،خف الازيز ، قلت هجمات الدبابير ، الا انها لم تنته ، ما زال سلام كاتما صوته وهو يحاول تجنب اخر وخزات هذه الدبابير اللعينة ، ظل هكذا وقتا طويلا ، لا يعرف كم مر عليه من الوقت منذ انقطع هجوم الدبابير النشطة ، لم يبق الا الدبابير المسنة والكبيرة وهي توخزه بتكاسل احس به انه اقل الما مما سبق . فتح قليلا الفتحة العلوية لدشداشته امام عينيه ، لمح بعض الدبابير تهجم عليه بتكاسل وهي قادمة من شرق المكان الذي يقف عليه ، فيما انسحبت الدبابير المسنة والكبيرة من المكان ، ظلت الدبابير القادمة من الشرق وهي منتظمة في اسراب قليلة تهجم عليه ، لم تفلح بعمل مؤثر حيال دشداشته التي تصلب عليها العرق والملح والتراب ، الا انها ما زالت تحاول بوخزات حادة ان تقضي على سلام ، فيما كان الدبور الكبير للدبور الابيض اللون الذي مازال يحوم حول الكومة الملتفة بدشداشتها الكالحة اللون وهي تراقب عمل الدبابير القادمة من الشرق ، من داخل البستان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى