حسين محمد شريف - روح الحمــامة

تراءى لروح الحمامة ولاسيما في الآونة الأخيرة بأنها ستموت قريبا، ومع كل الاحتمالات لذلك الموت الوشيك كانت تكابد بجمع الأعشاب المتيبسة لبناء عشها على مقربة من مزرعة العقيد صاحب الجسد النحيل المصفر، والوجه المتيبس الشبيه بجلد ضفدع أنهكته الشيخوخة.
كانت الحرب واحدة من أسوأ أمراض العقيد. لذلك كان كثير التبجح بقدراته الفذة على قيادة الحروب. وليس أدل على ذلك سوى نياشينه وأوسمته النحاسية التي كان يحرص على تعليقها فوق صدره الغائر، وعلاوة على سمات البطش كانت من سمات العقيد البلادة وهي واحدة من مشخصات الحكم في مدينة العناكب السود على اساس أن الشجاعة لن تعرف الطريق إلى قلب المقاتل إلا إذا كان بليدا، طبقا لتعريف السيد الرئيس. وكانت الحرب الأهلية الأخيرة خير اختبار لولاء العقيد بوصفه المترجم لأراء السيد الرئيس الصوفية والمدافع الأوحد عنها كما وصف نفسه ذات مرة أمام وسائل الأعلام إذ مارس أسوأ أنواع البطش مبتدئا بأقاربه الذين يتقاطعون مع اطروحات السيد الرئيس. ولعل من أهم أسباب التمرد التي كان السيد الرئيس يواجهها من الناس في مدينة العناكب السود، هي مسألة الغموض الذي يحيط بأصوله إذ أشيع همسا بين الناس منذ أول يوم مجيئه للحكم عن طريق الصدفة بأنه هجين محتمل لكائن ضاجع أمه بناء على انحرافها الذي عرفت به بين الرعويات اللواتي كن يشمئززن من منظر ارتعاش الدغل الكثيف على إيقاع جسدها وجسد حيوان لم يتم التعرف عليه إلى اليوم، الأمر الذي دفع السيد الرئيس لكي يلاحق الحيوانات حتى بوابات الموت الذي لا يؤمن به كثيرا.
على العموم فأن السيد الرئيس كان يغض الطرف عما تأتيه من تقارير تطعن بأصوله وكأن شيئا من ذلك لم يكن قط. إذ كان يتصرف بذكاء قل نظيره بين من سبقوه إلى الحكم في مدينة العناكب السود فكان يلجأ إلى تصفية الخصوم بطريقة نظيفة لا تثير الشكوك حوله او اللغط. فقد اعتمد على فريق طبي متخصص ومدعوم بفريق علمي مكون من علماء الفيزياء الذرية وعلماء الأحياء المهجرية الدقيقة فضلا عن علماء فسلجة الدماغ والجهاز العصبي. اعتمد على هؤلاء وانشأ بهم مركزا علميا شكله لتطوير الأبحاث ومسايرة العلوم الطبيعية أسوة بباقي المدن، فيما كان جوهره تطوير أسلحة إشعاعية من شأنها أن تقتل عن بعد وبلا جلبة او تناثر من دماء. وكان السلاح فتاكا وأجاد السيد الرئيس استخدامه مع المعارضين له.
وفيما يتعلق بالعقيد فقد كان واحدا من أسوأ الناس خلقا. ولم يعرف عنه حصوله على أية شهادة ولو أولية تؤهله لهذا المنصب الرفيع. سوى انه كان صاحب حانة لبيع المشروب المغشوش في الغالب حين كان فوضويو الحزب الحاكم اليوم يتسكعون عنده في أيام الضنك عندما كانوا معارضين. علاوة على تلك الحانة كان يمتلك ماخورا يعج بالعجائز اللواتي أُخرجن من المهنة كرها بسبب شيخوختهن فاستدرجهن العقيد للعمل في مشروعه الإضافي على الحانة.
يومها كان السيد الرئيس صعلوكا ضاقت به السبل. فبعد أن وجد نفسه بالمصادفة وسط حياة عابثة ليس اقلها جوعا وتشردا اضطر للعمل كقاتل مأجور مع احد تجار القطن وكانت طبيعة الاغتيالات التي يمارسها ذات طابع انتقائي لم يدرك كنهها السيد الرئيس في البدء ولكنه وبسبب ذكائه كما مر سابقا أدرك طبيعة الورطة التي زج نفسه فيها ليفهم بأن تاجر القطن مجرد بيدق بيد مافيا عالية الدقة في التنظيم. وكانت ذا شأن وقدرة في التدخل وتغيير الأنظمة وإعادة خارطة المدن طبقا لما تمليه طبيعة المصالح والصراعات. هكذا استثمر السيد الرئيس علاقته الطيبة مع تاجر القطن ليكون بمقدوره الاقتراب من المافيا وتحقيق أهدافه.
نجح السيد الرئيس بالفعل بما كان يصبو اليه واستطاع الوصول إلى الحكم في مدينة العناكب السود بدعم ودعاية غير مسبوقتين من مافيا القطن. وصار القائد الواحد الذي لا يمكن الإيمان ببديل عنه ولا سيما مع سرعة انجازاته المتوالية بقمع الآخر وتكميم الأفواه وبث الرعب بين الناس عبر آليات نفسية محكمة امدته بها مافيا القطن ليصير الناس آلات تأتمر بآراء السيد الرئيس السديدة.
ومع استقرار تدفق القطن إلى المافيا استقر الحكم للسيد الرئيس وصار يفكر بتغيير الحرس القديم للثورة والإتيان بجيل يستطيع تحمل مسؤولية بناء المدينة وضمن شروطه المغالية بالنزاهة والعلمية كما أشاع بأنه يريد رجالا يؤمنون بقدر الأمة الواحد بشخص الرئيس الواحد صاحب الرأي السديد الواحد لأنه واحد بمعيار الانتماء البشري للإنسان وهو لن يحيد عن الواحدية والاحدية والوحدوية طالما لا توقعه في الشرك بالله حسبما قال مفتي المدينة صاحب الطربوش المنخور.
انطلاقا من تلك الصفات تذكر السيد الرئيس صديقة صاحب الماخور الذي كان يشاركه إحدى الشمطاوات أيام تشرده المر. وأخذه الحنين إلى تلك الأيام، فأرسل بطلب صاحب الماخور ليفي بجزء من دين كان في عنقه تجاهه بوصفه القائد المخلص لعلاقاته السابقة. وبذلك صار القواد عقيدا دفعة واحدة من غير الحاجة إلى تدرج الرتب او الدخول إلى الكلية العسكرية تماما مثل بقيه أركان حكمه.
قاد السيد الرئيس ثورة تصحيحية على الأوضاع الفوضوية التي لم تعجبه. فعمل على إحراق كل المكتبات العامة والخاصة بدافع أن القراءة ترف ليسوا بحاجته مع ازدياد سطوة المافيات على الحياة الاقتصادية للمدينة. فضلا عن أنها تقهر الإنسان ولن تدفعه للنضال لان القراءة أفيون بل أسوأ من ذلك. ثم لجأ السيد الرئيس إلى تصفية كل ذي قرن من الحيوانات لأنها تهدد السلام في المدينة. وخاض حملة ضارية من الإعدامات ضدها وأصدر قرارا يقضي بتسليم كل حيوان يحتمل بأنه سيكون ذا قرن إلى اقرب مركز للشرطة. بعدها قاد بنفسه حملة أخرى لا تقل سوءا حيث اخذ يفتش عن أشياء الذكور الخاصة ويقيسها وكان قد حدد أطوالا على الجميع ألا يخرجوا عنها وعليهم الإذعان والإقرار بأنه صاحب اطول الاشياء الخاصة بين أفراد الأمة. وتتوالى الأحداث والفواجع من دون أن يكون بمقدور الناس صد حماقات السيد الرئيس بل على العكس من ذلك اندرج غالبية الناس تحت رأيه.
من مساوئ الصدف او القدر كان كلا السيدين الرئيس والعقيد يكنان كرها غير مسبوق للحمامة ولا احد يعرف السبب. ربما لأنها كانت ترمز إلى السلام وهو الأمر الممجوج من قبلهما لأنهما دعاة حرب دائمة مع كل شيء مهما بسط. وربما لأن لونها الأبيض كان مدعاة للسخرية بالنسبة إليهما لأنهما اعتادا اللونين الصحراوي او الأحمر طبقا لمواقفهما الثورية من تطورات الأحداث. وربما لأنها كانت رشيقة وهو الأمر الذي لا يتناسب وفهمها للجمال القائم على البدانة والإفراط في نسب الشحم عند ناحية البطن ليضيف المزيد من سحر الحضور على أنظار الأمة الذين يعانون من نقص حاد في الوزن نتيجة التقنين في الغذاء الذي أجراه السيد الرئيس طوال مدة حكمه. وربما لأنها كانت تمتلك رقبة متناسبة مع رشاقة جسدها وهي السمة التي فقداها نتيجة الترهل الذي أدى إلى غوص رقبتيهما نحو قفصيهما الصدري وأحالهما إلى زر معطف روسي قديم. وربما لأنها تمتلك عينين لامعتين في الوقت الذي لم يكونا يمتلكانها نتيجة سهرهما الطويل على أمن الأمة واستغراقهما في التأمل بغية وضع الحلول لكل حدث طارئ!! وربما...... وربما....... لتطول التسويغات ولكن المؤكد أنهما يكرهان الحمام حد الرهاب.
ترجم ذات مرة احد الأساتذة المتخصصين بالأدب الألماني رواية الحمامة للروائي الألماني باتريك زوسكند صاحب رواية العطر ومسرحية عازف الكونترباص وحاول نشرها كمساهمة حاول أن يثري بها المشهد الثقافي لمدينة العناكب السود. فما كان له إلا أن ينتظر مصيرا اسود حين أطعمه السيد الرئيس إلى كلاب قصره الجائعة منذ أسبوع وسط تصفيق الناس وهم يذرفون دموع الفرح بغزارة لموت جاحد أنكر محاسن السيد الرئيس وتآمر على قلب الحكم بمساعدة تلقاها من دولة مارقة. إلى ذلك قرر السيد الرئيس إجراء حملة وطنية للقضاء على بؤر الخيانة والتمرد والإجهاز على أوكار الحمام التي هي أوكار للعدو وساحة باتت مكشوفة لنظر السيد الرئيس الذي كان يشاهد بؤراً سودا أمام ناظره كإشارة من القدر لأن ينتبه إلى المؤامرة الحمامية الشريرة.
طبقا لذلك تقرر الاحتفال سنويا بيوم مكافحة الحمام وهو عيد وطني يمارس فيه البحث عن أية أوكار محتملة للحمام والقضاء عليها. وكان السيد الرئيس قد رصد مكافآت مالية كبيرة لكل من يقطع رؤس اكبر قدر من الحمام. وبالتأكيد كان السيد العقيد هو السباق على مدى أربعة أعوام لنيل درع المدينة لمكافحة الحمام حين استطاع إعدام ألفين من الحمام في يوم واحد فحسب.
وبهذه الطريقة استطاع السيد الرئيس القضاء تماما على الحمام نهائيا، وقطعها عن الوجود في مدينة الموت. حتى أن المناهج التعليمية كانت تصف الحمام ككائنات منقرضة تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ واستمر الحال لثلاثة عقود من حكمه.
وتمر السنون ويهرم السيد الرئيس أكثر فأكثر وكذلك العقيد ليكتفوا بالجلوس على شرفات قصورهم المطلة على بؤس المدينة التي حكموها بالحديد والدم. وعلى امتداد مزرعة العقيد كانت ثمة حمامة قد تسللت إلى احدي زواياها لتضع بيوضها بعد أن جاهدت ببناء عشها سرا. تلك الحمامة الوافدة من ارض بعيدة هاجرت إلى مدينة العناكب السود بالمصادفة. جن جنون العقيد حين رآها تطير على مقربة من عينيه الأمر الذي استدعى تدخلا سريعا من دون العودة لرئيسه خشية أن يتهم بالتخاذل فأسرع إلى بندقيته ذات الطراز الحديث والمزودة بأحدث التكنولوجيا ليمارس من كرسيه المتحرك لعبة مطاردة الحمامة التي تجهل بالتأكيد ما حصل طوال السنوات السابقة في مدينة العناكب السود؟
استمر العقيد بمحاولاته لقتل الحمامة لأسبوعين متواصلين، ليل نهار دون أن يفلح واستطاعت الحمامة بدورها أن تصل إلى مرحلة تأمين ظهور أفراخها عن طريق سعيها الدؤوب في حضانة بيوضها بصبر طويل ولكنها كانت تؤمن بان موتها بات وشيكا إذ اضطر العقيد إلى الاستعانة بعد مشاورات مع السيد الرئيس بفرقة لمكافحة الأرانب التي تم تحويلها إلى هذا التخصص بعد القضاء على الحمام بحسب زعم حاشية السيد الرئيس ليتجهوا بعدها إلى الخراف فالحمير فالعصافير ثم الأرانب، وبعد كر وفر تمكنت أخيرا الفرقة من القضاء على الحمامة وسط جو احتفالي مهيب حضره السيد الرئيس وأقيم في ملعب المدينة الذي يسع لمئة ألف شخص امتلأ عن بكرة أبيه ليقوم بإحراق الحمامة وسط تصفيق الناس وبكائهم الناقم على الحمامة التي كادت توشك أن تقضي على أمل الأمة وهمامها الفارس الأوحد
في هذا الوقت كانت أفراخ الحمامة السبع تمارس المشي المتناغم مع شروق الشمس على مدينة العناكب السود وكأنهم سيعملون بوحي من روح أمهم العظيمة حين تحدت قوانين السيد الرئيس وقالت قولها الفصل حين أسست لعشها بين أرواح ماتت لتبادر إلى إحيائها من جديد.


حسين محمد شريف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى