جمال العتابي - دليل الهاتف..

جمال العتابي


وهو يعيد ترتيب كتبه وينفض عنها تراب مسكنه المهجور لسنوات، ويوزعها على رفوف خشبية داكنة اللون شغلت حيزا واسعا من جدران صالة الاستقبال في مسكنه الجديد، فجأة وقع بصره على دفتر بغلاف اسود سميك تأطرت حاشيته بورق لاصق محكم لايشبه الدفاتر الاخرى بقياساتها المعروفة، يوحي منظره بحرص متناه، خشية تلف وضياع مرتقب!!
يترك المهمة التي أعيتة كثيرا سيما بعد ان بدأت الشمس ترسل أشعتها قوية حارقة، منذ ساعات الصباح الاولى، فأحترقت النسمات الخفيفة التي كانت تداعب وريقات شجر قليلة في حديقة المنزل.
حدق في السجل الذي ظل يبحث عنه طوال تلك المدة التي شهدت موجة من العنف والاحتراب موغلة في الوحشية،اضطر بسببها الى الهرب والافلات من الجحيم لينجو وعائلته، ليستقر بمأوى صغير.. بلا كتب، وذكريات واسماء تركها محفورة على جدران منزله البيضاء، ومكتبته التى يأوي اليها في سنوات الحرمان والجوع والاضطهاد، كانت ملاذه الوحيد الذي يخفف عنه احزان الزمن البغيض، أحس كامل بالعرق يتصبب من جبهته، من المؤكد وهو يتحاور مع نفسه، ان كل تلك الاحزان لاتعادل لحظة افتراق مع المكان الذي يشيد بالدموع والهم وعسر الحال، لاتعادل حالة الانتزاع القسري من الوطن او اكراه الانسان بالمغادرة تحت ضغط التهديد حاول كامل أن يتناسى تلك المشاعر المتضاربة التي يجدر به ان يكبحها لانها تشكل وجعا ممضا في حياته.
كان مطمئنا بعض الشىء متمسكا بخيط واه من الامل يعيد له السكينة بعودة كتبه اليه ، ولعل احدى المفارقات التى تدعو للسخرية، ان مكتبته هي الوحيدة التى ظلت محفوظة دون ان تمتد لها ايادي التدمير المجنون.
يعرف جيدا ان القتلة والمجرمين لايعنيهم الكتاب ، ولايكترثون لوجوده، انه بنظرهم سوى كومة من الاوراق جاهزة للحرق متى ماشاؤوا، لتوفر الدفء لاجسادهم الملطخة بدماء الضحايا ، وهم يجتاحون البيوت الخالية من اهلها في ليالي موحشة ومظلمة، حالكة السواد، كسواد قلوبهم الميتة، انها الحسنة الوحيدة ربما ، التي تركها اولئك الاوغاد ، فثمة شعور اختلط فيه الفرح والحزن، وهو يستعيد كنزه الثمين، بعد انتظار مرير.
انتبه كامل الى نفسه، واستدار ليلقي ببصره مرة اخرى الى ذلك الدفتر العتيق، الذي ضم اسماء رتبت حسب تسلسل هجائي بعناية فائقة، تنم عن اهتمام مبالغ فيه، وذوق فني منظم في تسجيل ارقام الهواتف، وعناوين الاشقاء والاصدقاء وزملاء له في العمل، ثمة مشاعر عديدة اجتاحته بوقع سريع موجع مشوب بالحذر والقلق والتردد.
لقد كان كامل يدرك جيدا عدم جدوى تلك الارقام التي باتت معطلة وليست ذات نفع، بسبب ماقدمه العصر من منجزات حديثة في وسائل الاتصال… لأنه على يقين، ان استعادة تلك الاسماء ستختزل له احداث عقود من الزمن ولو بصورها المشوشة، راح يسأل نفسه ويجيبها باعتداد وهو يحاول ان يتشاغل بشىء نافع ومفيد يثنيه عن الرغبة في اكتشاف جديد لاشياء طواها الزمن، على افتراض مسبق بمعرفة الكثير من الحقائق التي عاصرها.. في تلك السنوات، رحل والده، والعديد من افراد عائلته واقاربه، وبعض من اصدقائه، انه على علم بتهجير رشاد وصالح، وقتل سليم، وذبح مراد، واختطاف باقر وكريم، واعتقال عبدالله.. ماذا تضيف له كل تلك الاحداث؟ غير الألم، والفزع من المستقبل.
يتساءل كامل… لقد ظلت ارقام هواتف هؤلاء هي الشاهد الوحيد على تاريخ وذكريات متناثرة عنهم، لم تعد تلك الارقام تشكل مصدرا يروي عطشه كامل لمعرفة المزيد من الحقائق، ولعل وجود هاتف ارضى يوفر له خدمة الاتصال ضاعف من حماسه للاستفسار عن نزار الذي فارقه منذ ثلاثة عقود من الزمن او اكثر.
تنتقل يداه الممسكة بسجل الهاتف لصفحة حرف (النون) ويخامره شك كبير ان يكون نزار على قيد الحياة ليرد على ندائه الاول، ومبعث شكوكه تلك، ان نزار الرجل الذي قارب السبعين من العمر، لايتجاوز وزنه في ذروة شبابه اكثر من 50 كيلو غراما. جسد نحيل يرتكز على ساقين طويلين ينوء بحملهما وكأنهما خيطان متدليان متأرجحان، يذهبان يمينا وشمالا وخارجان عن السيطرة.. كان من السهل جدا علينا ان نعرف بقدوم نزار حين تسبقه زوبعة من التراب تثيرها أقدامه وهي تخبط الارض بعشوائية غير مقصودة .
يضع كامل ان سبابة يده اليمنى على قرص الهاتف الدائري.. يتحرك الرقم الاول بنصف استداره ثم الثاني والثالث… حتى السابع. لحظات سريعة جدا مرت لم يعد احتمال ارتعاش ساقيه، فاختار مقعدا للراحة بانتظار رنين هاتف نزار.
-الو… الو..
يجيب على الطرف الاخر، صوت نسوي ناعم خفيف خجول
-نعم…ألو..من؟
-هل هذا بيت نزار؟
-تقصد ابو علي… نعم بيت نزار
على الرغم من مشاعر الفرح المتواضعة التى تسللت الى اعماقه في اللحظات الاولى من الرد، الا ان هاجسا بالخوف كان هو الطاغي على حالة الترقب، وانتظار المفاجات، فاستمر كامل بالسؤال:
-هل ابو علي موجود، استطيع التحدث معه؟
-نعم، لكنه خارج البيت…
-هل صحيح ماتقولين أم هي مجرد مزحة؟
-ولم اكون مضطرة للمزاح.. اجابت بحذر شديد… وماالذي يدعوك الى هذا الاستنتاج، يبدو انك بعيد تماما عن (ابو علي)..
-عذرا لااقصد ذلك.. انا الذي اردت المزاح بالسؤال، شعر كامل بالحاجة حينئذ الى المزيد من الراحة، والتقاط انفاسه لبرهة قصيرة.. يمكن من خلالها ان يلملم افكاره ويعيد تنظيم اسئلته من جديد وفق معطيات المحادثة مع الصوت النسوي.
-سأعاود الاتصال به في وقت آخر، ياسيدتي الفاضلة ان كان مستعدا لسماعي، انا كامل بن فرحان، ارجو ان تساعديني في ابلاغه بذلك.
-نعم، اجابت تلك المرأة، التى لم تشغل تفكيره لمعرفة صلتها بصديقه القديم نزار… فاغلقت الخط الهاتفي وتوقع بين لحظة واخرى ان يرن هاتفه من جديد ليبدد السكون والصمت اللذان يسودان اجواء الصالة الخالية من الاثاث، سوى ماعلق في جدارنها من لوحات تشكيلين وآيات قرآنية، تتصدرها آية الكرسي بحيز متميز.
ظل يترقب بلهفة شديدة نداء عاجلا لنزار، فخاب توقعه بعد طول انتظار فقرر معاودة طلبه من جديد في الساعات الاولى من الليل.
فجاءه الصوت خافتا مبحوحا متقطعا مشلولا .
-هل انت نزار؟
فرد بصعوبة بانعة بنعم
-هل فقدت وعيك يانزار، وتمكنت الخمرة من شل لسانك؟
وأعيت اوتار صوتك؟
-انا لااعاقر الخمرة ابدا، كما تعلم ياكامل…لكنني اصبت بالشلل، فتحولت الى نصف رجل الان من جراء جلطة دماغية افقدتني القدرة على النطق لكن ذاكرتي ماتزال حية..
انها الصدمة الاولى التي هزت كيان كامل في بحثه اللامجدي، في الاسماء… لم يعد حاله يتحمل المزيد منها فيما اذا قرر مواصلة لعبته تلك.. فصمت قليلا وهو يتلمس كرسيا قريبا منه، سحبه اليه بعض الشىء ليستريح من وقع المفأجاة… أسند مرفقة اليمين عليه، وواصل السؤال:
-وانت يانزار هل تعرفني جيدا…
-كيف لا… مازلت اتذكر تلك الليلة التى سرق فيها قطاع الطرق دراجتك قبل اربعين عاما، وانت تتجه الى حديقة الجمهورية لتذاكر دروسك تحت ضياء الحديقة أليس كذلك؟.. كنت مسكونا بالقراءة والكتاب ودفعت ثمن سعيك الجاد وحرصك على الدراسة. كنا نسخر منك ولما تزل لم تتخلص من اضطرابك الشديد، وهلعك من فوهات المسدس الذي صوب نحوك في الظلام.
-أود ان اسألك يانزار عن مصير افراد الشلة التي شغلت زاوية من مقهى شمه، بالحضور اليومي لساعات طويلة، وهي غير آبهة برواد المقهى الاخرين المنشغلين بلعبتي الدومينو والنرد،…. وصراخ الراديو والمارة.. كان جل افرادها من اولئك الذين بدأوا خطواتهم الاولى في الكتابة وانشغالهم بقضايا الادب والسياسة.
-أين احمد السعيد، حميد الفاضل، رياض العيسى، سعيد راغب، نعيم ستار، و.. و…. يبدو ان نزار هو الاخر كان ينتظر هذه اللحظة التى ايقظت ذاكرته من جديد وحررت لسانه من الشلل، أيقنت وانا استمع لنزار، وهو يروى حكاية كل واحد من هؤلاء بتفاصيل دقيقة، انني ارى وأسمع واعيش بين اولئك دون ان يراني او يسمعني احد منهم، هالني ما أصابني من فزع بسبب هذا الشعور…
لكن فجأة يسود الظلام، ليقطع النور والصوت، رغم حزمة مثل خيط رفيع من الضوء لم تستطع النافذة المطلة على الفضاء الخارجي للمسكن من كبحه ليستدل كامل من خلال بقعة ضوء صغيرة على الحائط طريقه بصعوبة ليعيد سماعة الهاتف الى مكانها الطبيعي وهو يعاود الهمس مع نفسه، وتتصاعد أنفاسه، وتتشبث يداه الراجفتان بأعلى مسند الكرسي بأحساسه المتعاظم بقوة الظلام وبجهد صعب تخطت قدماه البالغة الثقل العتبة الواطئة لباب الصالة، محاولا الافلات من هذا الكابوس… وهو يتطلع الى الضوء القادم من الشارع كوسيلة للخلاص من تتبع الشريط المأساوي الذي ظل يدور بدون توقف في عقل نزار، الا ان صمتا بدأ يترسب بكثافة في اعماقه، شغله قليلا في تأجيل حشد من الرغبات المترسبة في الداخل.
مشاعر جمة تؤجج في كامل أوار العزم للعودة الى تصفح اوراقه القديمة، حال عودة التيار الكهربائي الى البيت، وها هي الانارة تحتل مواضعها بتذبذب مفضوح، وراح الضوء يلثم برفق صفحات الكتب المرصوفة على رفوف الجدران، تحسس الوجه الصقيل من الدفتر بيده اليمنى المعفرة بتراب الجدران التي اتكأعليها، وهو يتلمس طريقة نحو الغرفة من جديد ، عيناه تنتقلان بصعوبة فوق الاشياء الغارقة في الضوء ساد الصمت بين الجدران، وانزوى في ركن تحتلة طاولة داكنة اللون، مستطيلة الشكل، يقف خلفها كرسي دوار.. أسند ظهره اليه، وهو يحلم بالطواف حول العالم، أطرق الى السجل محدقا فيه، طوى اول صفحة فيه، احتوت على معلومات شخصية ورقم بطاقة الهوية، وفصيلة الدم وعنوان مسكنه القديم، وصفحة اخرى تقابلها لاتحمل أي معنى، وفي الزاوية العليا اليسرى من الصفحة التالية، يبرز حرف(أ) كأنما ينبعث من تجاويف غائرة في الارض، شامخا، منغرزا في اعلى الصفحة كمسمار.
الاسم الاول(اكرم)، التقاه صدفة قبل ايام في مبنى احدى الصحف الاسبوعية لم يصغ الى سماع شكواه وهو يتحدث بانفعال وبسرعة عن معاناته، وجهه يعتريه الشحوب، حاول أن يمسح دموعه التي كادت ان تخنقه.ويخفف بعض الامه وحزنه لم تترك كلمات اكرم اثرا بالغا في نفسه، لانهما يتقاسمان المصير ذاته!! ليت احمد بأحسن حال من اكرم، يتساءل كامل مع نفسه، وهو يتابع قراءة اسماء الصفحة الاولى، ان كليهما يتشاطران الفجيعة، اما ابتسام، فقد ظلت وحيدة في بيتها الذي كان ضاجا بضحكات الاولاد، ومزروعا بامانيهم العذبة، لقد تركوها وحيدة، واختاروا الغربة في البلاد البعيدة هربا من الموت الذي يداهم الشباب، هاهي تتلفت الى الجدران التي تغادرها الروح… لم يعد الدخل العالي والكسب المادي الكبير، وترف العيش الذي يوفره عملها اليومي في عيادة طب الاسنان العائدة لها، ان يعيد لها ابناءها ، ويزيح الهواء الفاسد المخزون في صدرها ، ترى هل يمكن للحيطان ان تلم احلام ابتسام؟
يحاول كامل بتركيز شديد ان يتذكر (أمير)، فلم تسعفه ذاكرته المعطوبة من التعرف على أمير، وظل هو واسمه مجهولا.. وبلا معنى .. ولم يصل الى مايسعفه لمعرفة المناسبة التى دون فيها اسم أمير وكذلك اسماء اخرى، ابو ازاد، ترى من هو ابو ازاد؟ واسعد، واحمد.. هناك خمسة ارقام تحمل ذات الاسم.. ايا من هؤلاء يستطيع ان يتلمس طريقه اليه؟
حاول كامل ان يرتب افكاره من جديد، ويعيد وصل سلسلتها المقطوعة، لكن سرعان ماتلاشت الذكريات، وشعر بداخله يحترق حين تأكد له، ان ابراهيم واسراء، وامال، وابتهال، هم الاخرون لاوجود لهم الان على خارطة الاصدقاء.
وبعد ان نفدت حيلة كامل، بدا هادئا وادعا لبرهة من الوقت، كانما عيناه تتوسلان الى شيء مبهم يقدم له المساعدة للتخفيف من حيرته وشدة خيبته، واصل النظر بجمود الى بقية الصفحات.. ايقن من صعوبة الاستمرار ، فكر بالامر جليا.. لان صفحة واحدة من الاسماء تختزن بمئات الاحداث والذكريات، وثمة صيحة اخرى هزت كيانه انطلقت من داخلة : كامل اترك هذه اللعبة وانصرف!!
لكنه قبل ان يلبي النداء اتجه بنظره الى النافذة ليرى كتلا من الظلام تتخللها خيوط وامضة، كانت به رغبة الى النوم، مشت العتمة الى الشباك، واتسعت دائرة الصمت، ظل كامل شارد العينين، فالساعة تقترب من منتصف الليل.. فشعر بالانقباض وقرر ان يتمعن للمرة الاخيرة في الاسماء ، وذهب الى صفحة اخرى، يعرف ان اسم عدي فيها يتلالآ لوحده بين الاسماء، بدا له الان في العشرين من عمره، كان طالبا في كلية الهندسة يدرس الميكانيك، يلوح له الان من فوق الرؤؤس باسما بحقيبته الصغيرة، تشاغل كامل عن عدي بالنظر الى سطور اخرى ، محاولا الابتعاد عن ذكرى عدي، الذي غادر بيته في اليوم الاول من بدء عطلة نصف السنة يقضيها بين ابويه واخوته في الحلة، لكنها كانت المغادرة الابدية..
استحضر وجهه الابيض، ونظراته الصافية، كان يتحدث بصوت خفيض بطعم الريحان، وله افكار رائعة، كأنه حمامة بيضاء ترفرف في سماء البيت وينثر الورد صباحا مصبوغا بضحكته الطفولية.
لم يعد السجل بعد ذلك الاستحضار، وهو مسجى امامه على طاولة المكتب سوى انين مكتوم وحشرجات، واستغاثات ليست بعيدة جدا… يلفها الحزن، مازالت تسمع على مقربة منه.
لم تلبث نظرات كامل ان اضطربت وهي تتجه صوب دفتره السميك فأنسل بخفة نحو مطبخ المنزل، يبحث عن عود ثقاب، ارتعشت اصابعه، وكاد قلبه يفر من صدره، لم تتخاذل يده، وسرعان ماجمع قواه.. وفي لحظة غامضة حول اوراق الدفتر الى جسد يلتهمة الحريق يثير الشفقة.
فتح نافذة الصالة، يتابع تصاعد الدخان الذى بدأ يتسرب كثيفا وببطىء نحو الخارج، وماهي الا دقائق مرت، حتى انطفأت الاضواء ، ولملم بقايا الرماد، وساد المكان الصمت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى