رسالة من الدكتور زكي مبارك إلى الدكتور طه حسين

أيها الأستاذ الجليل:

تفضلت فأهديت إليّ نسخة من كتابك الجديد (مستقبل الثقافة في مصر) وكان من واجبي أن أشكر لك هذه الهدية بخطاب أسجل فيه هذا التلطف. ولعلني لو حاولت ذلك لاهتديت إلى أن من الخير أن أنتهز الفرصة وأشرب معك كأساً من الشاي في بيتك لنجدد العهد؛ ولكني آثرت أن أشكر لك هذه الهدية بأسلوب آخر هو الهجوم عليك

وما كان ذلك حبّاً في المشاغبة كما يتوهم بعض من لا يفقهون، وإنما كان ذلك لأني أشعر أننا أسرفنا في حب السلام، والسلام ضرب من الموت، وأعتقد أننا في هذه الأيام نختلف أقل مما يجب ويا ويلنا إذا لم نختلف!

ويسرني أن أعرف فيما بيني وبين نفسي أني لم أقصّر في محاربتك، ولم يفتني أن أنذر رجال التعليم بخطرك، وقد قلت لهم بصوت يسمع أهل القبور: (إن هذه الرجل سينتزع من أيديكم كل شيء) فما استمع مستمع ولا استجاب مجيب

وكما قلت للغافلين: إن طه حسين ليس أعلم العلماء، ولا أحكم الحكماء، وإنما هو رجل (متحرك) كما يعبر أهل بغداد، فتحركوا يا جامدين لتسدوا عليه الطريق

كم قلت: إن من الغفلة أن يسكت رجال التعليم إلى أن يسمعوا صوت الناقوس من طه حسين! وما قلته لرجال التعليم قلت بعضه لنفسي، ففي كتابك الجديد آراء أذعتها من قبلك في الجرائد والمجلات، ولكني لم أحتفل بها كما احتفلت فأذيعها في كتاب خاص، ولو أني فعلت لأضعت عليك فضل السبق. ولكن ما فات فات

ما كان يسرني أن تنتصر، وإن كنت أقسمت يمين الوفاء لكلية الآداب؛ ولكن ماذا أصنع وأنا مضطر لكلمة الحق في إنصافك بحكم الضمير والواجب؟ ماذا أصنع وأنا أرى أنصاري في مخاصمتك لا يملكون غير مضغ الأحاديث؟ ماذا أصنع وأنا لا أدري بين رجال التعليم من يبدي رأياً صحيحاً أو سخيفاً في مستقبل الحياة الأدبية والعلمية؟

كنت أتمنى أن يشغل بمستقبل الثقافة في مصر عشرات من الباحثين منهم شيخ كلية اللغة العربية وعميد دار العلوم ورئيس المجمع اللغوي ومدير دار الكتب المصرية؛ تفردت بذلك الإحساس الدقيق الذي يظهر في اختيار الظرف المناسب لما تذيع من مذاهب وآراء؛ فإن بدا لبعض الناس أن يحسدك على هذا السبق فليسأل نفسه ماذا صنع بالإجازات الصيفية، كما صنعت أنت بالإجازات الصيفية

أتريد الحق يا دكتور؟

أنت رجل مقتحم، وما حق المقتحم أن ينتصر كما انتصرت

ولكن ماذا في كتابك الجديد؟

هو في جملته وتفصيله شاهد على أنك تقدر المسئولية الملقاة على عاتق عميد كلية الآداب. وأنت في كتابك هذا قد فصلت ما يعترض مصر من المعضلات التعليمية أجمل تفصيل. وليس لكتابك الجديد بريق الكتب الأدبية، ولكن له جلال الكتب التعليمية، فتقبل مني ومن جميع المنصفين أصدق آيات الثناء

ثم ماذا؟ - في كتابك الجديد كثير من البديهيات، فهل ترى من الحق أن نحاسبك على التطويل في شرح البديهيات؟

من الذي حدثك أن المصريين يحتاجون إلى من يدلهم على أنهم في تصورهم وعقليتهم يقتربون من إيطاليا وفرنسا أكثر مما يقتربون من الصين واليابان؟ من الذي حدثك أن المصريين يحتاجون إلى من يذكرهم بأنهم قوم لهم عقول تدرك ما يدرك الأوربيون في ميادين العلوم والآداب والفنون؟

في كتابك بديهيات كثيرة من هذا النوع، فاستغن عنها إن شئت في الطبعة التالية لئلا تسجل على وطنك جهل البديهيات

ثم ماذا؟ - قلت إن عقلية مصر عقلية يونانية، وصرحت بأن الإسلام لم يغير تلك العقلية. فاسمح لي أن أشكوك إلى عميد كلية الآداب، فعميد كلية الآداب وهو أستاذي وأستاذك، واسمه طه حسين إن لم تخني الذاكرة، يعرف أن مصر ظلت ثلاثة عشر قرناً وهي مؤمنة بالعقيدة الإسلامية، والأمة التي تقضي ثلاثة عشر قرناً في ظل دين واحد لا تستطيع أن تفر من سيطرة ذلك الدين

عميد كلية الآداب الذي أعرفه أنا، وإن تجاهلته أنت، يعترف بأن الإسلام رجّ الشرق رجّةً أقوى وأعنف من الرجَة التي أثارتها الفلسفة اليونانية.

عميد كلية الآداب يثق بأن في مصر شمائل من العقلية اليونانية التي تلقت الدروس عن مصر الفرعونية. ولكنه مع ذلك يؤمن بأن لمصر عقلية إسلامية، وهذه العقلية الإسلامية لها خصائص يدركها أصغر مدرس في كلية الآداب. وأرجو إلا يضيق صدرك بهذه الحقيقة فقد نلتقي بعد أيام أو أسابيع وأشرح لك ما لا يحتاج إلى شرح، كما تشغل نفسك بشرح ما لا يحتاج إلى شرح

من المؤكد عندي أنك لم تستشر عميد كلية الآداب قبل أن تصرح بأن الإسلام لم يغير العقلية المصرية، وذنبك في هذا التهاون عظيم لأنك قريب منه، واتصالك به لا يجشمك أي عناء.

عميد كلية الآداب يعرف، كما أعرف أنا وتعرف أنت، أن الديانات تفترق ثم تجتمع، وهي في روحها تحدث الناس بأسلوب واحد في أوقات الضعف، ولكن هذا لا يمنع من أن هناك خصائص للعقلية الإسلامية والعقلية المسيحية، وهذه الخصائص تخفى على العوام ويدركها الخواص.

وكيف لا توجد هذه الخصائص بين دينين مختلفين، مع أننا نعرف أن هناك خصائص عديدة في الدين الواحد حين يختلف أهله بعض الاختلاف؟

إننا نعرف أن للكاثوليكية خصائص وللبروتستانتية خصائص، لأننا نعرف أن للعقلية السنية خصائص وللعقلية الشيعية خصائص

فكيف جاز عندك يا سيدي الدكتور أن تتوهم أن الإسلام لم يغز العقلية المصرية بتغيير ولا تبديل؟

أنا لا أنكر أن مصر ورثت ما ورثت من علوم اليونان، ولكني أنكر أن تكون مصر عاشت بعقلية واحدة منذ آلاف السنين إلى اليوم. هل تصدق حقاً يا دكتور أن المصريين أحسوا العقلية اليونانية بعد الإسلام إحساساً واضحاً صريحاً؟

في الحق أن المصريين في حياتهم الإسلامية شغلوا أنفسهم بعلوم اليونان أكثر من عشرة قرون، ولكنك وقد جلست على حصير الأزهر كما جلستُ تعرف أن المصريين لم يتذوقوا تلك العلوم؛ والأزهر لا يزال باقياً فتعال معي نسأل أهله ماذا فقهوا من علوم اليونان؟ تعال معي يا دكتور لنقضي بين علماء الأزهر ساعة أو ساعتين فستراهم جميعاً يعتقدون بأن العقلية اليونانية هي التي قضت على اليونان بأن يكونوا باعة الفاصوليا والسردين!

أنا لا أنكر قيمة التراث الذي خلّفه اليونان القدماء، ولكني أرتاب في أنه وصل إلى ألفاف العقلية المصرية.

وأنت تعرف من نفسك ما أعرفه من نفسي، أنت تعرف أننا لم نفقه الفلسفة اليونانية إلا بعد أن ارتضنا رياضةً عنيفة جداً. فإن ادعيت أنك فقهت فلسفة اليونان وأنت طالب في الأزهر فأنا أقول إني لم أفقه تلك الفلسفة حق الفقه إلا بعد أن تلقيتها على أساتذة أوربيين في الجامعة المصرية. وما أظنك تتهمني بقلة الذكاء

والعلوم التي لا تهضم إلا بعد جهد ومشقة لا تغير عقليات الشعوب وإن غيرت عقليات الأفراد

أنت تعرف فيما تعرف أن الفقه الإسلامي نفسه كان يتغير بالانتقال من أرض إلى أرض، فكان للشافعي مذهب في مصر ومذهب في العراق. ومعنى ذلك أيها الأستاذ الجليل أن العقليات تتغير من وقت إلى وقت باختلاف ظرف الزمان، وظرف المكان

والموجة الإسلامية التي طغت على مصر فنقلتها من لغة إلى لغة ومن دين إلى دين، والتي قضت بأن تتفرد مصر بحراسة العروبة والإسلام بعد سقوط بغداد؛ هذه الموجة العاتية لا يمكن أن يقال إنها لم تنقل مصر من العقلية اليونانية إلى العقلية الإسلامية

ولكن ما هي تلك العقلية الإسلامية؟ هي لونٌ آخر غير العقلية اليونانية بلا جدال، وهي لا تُشرح في مقال واحد، وإنما يشرحها كتاب ينفق فيه رجل مثلك عدداً من السنين الطوال

وأنا مع هذا لا أنكر أن الإسلام في مصر له خصائص غير الخصائص التي يجدها الباحث حين يدرس الإسلام في الحجاز أو في الشام أو في المغرب أو في العراق

وقد تعرضتُ لشرح بعض هذه الخصائص حين تكلمت عن صور المجتمع الإسلامي في كتب صوفية، ولكنها ما تزال في حاجة إلى درس أوفى من الدرس الذي يقع في فصل من كتاب

أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أزحزحك تماماً عن موقفك، ولكني موقن بأني عرضت صدرك لشبهات ستوجب عليك الحذر حين تتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية؛ وأنت تعرف ما أعني ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ ثم عرضت بالتفصيل لمشكلة اليوم وهي: النزاع بين الأزهر ودار العلوم

ويجب أن يكون مفهوماً أنك ألَّفت كتابك لغاية بريئة من الهوى لأنك عميد كلية الآداب، وعميد كلية الآداب يشرع للناس مذاهب الحق. وقد تأملت كلامك فوجدته يحتاج إلى تصحيح

ولعلك تعرف أن هواي ليس مع الأزهر ولا مع دار العلوم، وإنما هواي مع الجامعة المصرية، والفرق بيني وبينك أني لا أكتم هواي كما تكتم هواك. وما أعارضك في هذه القضية إلا لأنك سلكت فيها مسلكاً يخالف العقلية التي صبغتنا بها الجامعة المصرية، وهي التعمق في درس الأغراض والمعاني

أنت وازنت بين الأزهر ودار العلوم والمعاهد المدنية، وقام عندك الدليل على أفضلية الأزهر، لأنه أخرج للناس: محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى عبد الرزاق؛ وأفضلية المعاهد المدنية لأنها أخرجت للناس: إبراهيم عبد القادر المازني، وأحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل؛ وسقطت عندك دار العلوم لأنها لم تخرج أمثال هؤلاء

صدقت يا دكتور بعض الصدق، فدار العلوم لم يكن لأبنائها ماض في السيطرة على الحياة الأدبية على نحو ما يسيطر: هيكل، والمازني، والعقاد، وطه حسين، والزيات

ولكن كلامك على صدقه أحزنني، وليتك استشرت عميد كلية الآداب قبل أن تنشر هذا الكلام المحزن الموجع

أحزنني كلامك لأنه أصطبغ بالمغالطة والإسراف

أنت رجل معلم يا دكتور، ومن العيب عليك أن تؤذي إخوانك المعلمين: أتراك تؤمن في سريرة نفسك بأنك لم تحكم في هذه القضية بغير العدل؟

تعال أناقشك الحساب

إن رجال دار العلوم قد اشتغلوا جميعاً بالتعليم، ومهنة التعليم تقتل الأديب أبشع القتل. وأين المعلم الذي تسمح له وزارة المعارف بأن يستوحي الحياة كما يستوحيها الأدباء الذين سيطروا على هذا الجيل؟

أين المعلم الذي تسمح له وزارة المعارف بأن يصف جمال السابحين والسابحات في شواطئ الإسكندرية وبور سعيد، كما صنع الشاعر فلان؟ أين المعلم الذي يستطيع وصف الصراع بين الهدى والضلال بدون أن يخاطر بمركزه في الحياة التعليمية كما وقع ذلك للدكتور فلان؟

أنت تعرف أني جاهدت أعنف الجهاد لأخلق لنفسي شخصيتين: شخصية المدرس وشخصية الأديب، ومع ذلك لم أسلم من عدوان السفهاء

ومتى سيطر لطفي على الحياة الأدبية؟

كان ذلك يوم كانت حياته خالية من قيود التعليم، فلما صار مديراً للجامعة المصرية توقّر وتزمت حفظاً لحرمة التعليم

ومتى سيطر المازني على الحياة الأدبية؟

كان ذلك بعد أن ترك مهنة التدريس وتفرغ لاستيحاء الحياة، ولو بقي المازني معلماً لكان مصيره مثل مصير زميله عبد الرحمن شكري الذي كان يحس مثل لسع العقرب كلما أشار كاتب في جريدة إلى أن له أشعاراً في الغزل والتشبيب

ومتى سيطر مصطفى عبد الرازق على الحياة الأدبية؟

هل يعرف الجمهور شيئاً من تلك السيطرة؟ وهل يجرؤ مصطفى عبد الرازق على إعلان ما كتب من الوجدانيات؟

إن مصطفى عبد الرازق كتب أجمل ما كتب بإمضاء مستعار لا يعرفه غير الخواص، وكان ذلك لأن حياته في التعليم الديني والمدني قضت بأن ينسحب جهرةً من الحياة الأدبية

الحق يا دكتور أن رجال دار العلوم لا يطلب منهم إلا أن يكونوا معلمين صالحين، وقد كانوا بالفعل

وهنا أوجه إليك كلمة مرة ستؤذيك أشد الإيذاء: من الذي زين لك أن تعتدي على الجنود المجهولين؟ أنت تعرف أن الفرنسيين يسمون التعليم

وما أشقى من يعاني مهنةً بلا مجد!

لك يا دكتور زميل فاضل اسمه إبراهيم مصطفى، وهو كالفراء سيموت وفي نفسه شيءٌ من حتى

فهل يرضيك أن تتجاهل مثل هذا الرجل لأنه لم يسيطر على الحياة الأدبية ولم يشترك في تكوين الجيل الجديد؟ ومن الذي يسمع اليوم باسم أستاذي وأستاذك سيد بن علي المرصفي وله عليّ وعليك فضل لا ينساه إلا الجاحدون؟

أكتب هذا وأنا متألم متوجع لأني أرى عميد كلية الآداب يتجاهل تضحيات المدرسين، ولأني أشعر بأن هذه الأحكام الجائرة ستسقط من ميزان الحسنات أعمالي في التدريس. ولن يعرف الجمهور غير أعمالي في التأليف وهي لم تكن إلا ثمرات ما انتزعت من أوقات الفراغ

وما أخافه على نفسي أخافه عليك يا دكتور، فأنت هدف لحملات المتعسفين الذين شرعوا يقولون إن إنتاجك الأدبي قلّ وضعف، وهؤلاء الذين لا يذكرونك إلا يوم تخرج كتاباً جديداً ينسون كل النسيان أن لك شواغل تعليمية تفلّ نشاطك وتقل إنتاجك

وأين المنصف الذي يذكر أننا نحدث تلاميذنا بأشياء لو دوّنت لخرج منها محصول أدبي نفيس يغمر المكاتب ويشغل الأندية والمعاهد؟ أين المنصف الذي يذكر أن من يسيطرون على الحياة الأدبية مدينون أثقل الدَّين للمدرسين المجهولين الذين لا يعرف التاريخ أقدارهم إلا إن صاروا مؤلفين مشهورين؟

لك يا دكتور زميل فاضل يعيش في زاوية مجهولة من زوايا الخمول هو الدكتور أحمد ضيف، وأنا أؤكد لك أن هذا الرجل يعدي صدور تلاميذه بالفكر والعقل، وقد نفعتني صحبته أجزل النفع، ولكنه لا يستطيع أن يزاحمك لأنه لم يخرج من المؤلفات مثل الذي أخرجت. فمن واجبك وأنت عميد كلية الآداب أن تضع للتقدير الأدبي ميزاناً غير ذلك الميزان، من واجبك أن تذكر أن الجمهور الفرنسي لا يعرف شيئاً عن المسيو تونلا أو المسيو مورنيه، ولكن أمثال هذين الأستاذين لهم تأثير عظيم في تكوين الأذواق الأدبية وإن جهلهم سواد الناس.

وسيأتي يوم ينعزل فيه الدكتور طه انعزالاً تاماً عن الجمهور ويعتكف فيما يسميه الفرنسيون ليحقق مع تلاميذه بعض الدقائق الأدبية والفلسفية. ويومئذ يحتاج الدكتور طه إلى من يعتذر عنه أمام الجمهور فيقول إنه يحيا حياة العلماء لا حياة الأدباء. وهل يجهل رجل مثلك أن هناك فرقاً عظيماً بين أستاذ الأدب وبين الأديب؟

إن أستاذ الأدب تفسده الشهرة لأنها تشغله عن طول الأنس بالتعرف إلى الألفاظ والمعاني والأساليب. أما الأديب فيفسده الخمول لأنه يصدّه عن درس أسرار النفوس وسرائر القلوب، ويعوقه عن معاقرة صهباء الوجود

وأنت بحكمك الجائر تنسى أساتذة الأدب ولا تذكر غير الأدباء، لأنهم على حدّ قولك استطاعوا أن يسيطروا على الجيل الجديد. . . أتراني أفلحت في إقناعك بخطأ رأيك؟

قل الحق مرة واحدة يا سعادة العميد!

أترك هذه الخواطر، ثم أرجع إلى محاسبتك بصورة غير تلك الصورة

أنت قلت إن الأزهر يخرّج فيه محمد عبده وسعد زغلول فهل تعتقد حقاً أن من طبيعة الأزهر أن يخرج رجالاً مثل محمد عبده وسعد زغلول؟

إن كان ذلك صحيحاً فأين الأزهري الذي خلف محمد عبده؟ وأين الأزهري الذي خلف سعد زغلول؟

وما أقول به عن الأزهر أقول به عن المعاهد المدنية، فابحث عن المنطق الذي يزكي حجتك إن استطعت، وما أحسبك تستطيع

وقد وقفت في كلامك عند الماضي وبعض الحاضر

فهل يحق لي أن أسألك كيف تجاهلت أقدار من أخرجت دار العلوم من الرجال الذين سيطروا على الحياة الأدبية؟

أما يمكن أن يقال إن دار العلوم تخرج فيها عبد العزيز جاويش وحنفي ناصف ومحمد المهدي ومحمد الخضري وعبد المطلب وعبد الوهاب النجار واحمد السكندري؟ أتظن أن هؤلاء لم يسيطروا على الحياة الأدبية حيناً من الزمان؟

وقلت إن دار العلوم لم تغير نحو البصرة والكوفة، فهل غيرت أنت نحو البصرة والكوفة وأنت أستاذ بالجامعة المصرية منذ عشرين سنة؟

أنت رجل مقتحم يا دكتور، وهذا أجمل ما فيك من شمائل وخصال، فامض في اقتحامك إلى غير نهاية، فمصر لا ينجح فيها غير المقتحمين!

من حقك أن تدوس دار العلوم لأنك مقتحم، وسيكون من واجبي أن أفرحك بانتصارك، لأني متخرج في الجامعة المصرية وسأقاسمك الغنائم والأسلاب، فآخر شهادة ظفرت بها من الجامعة المصرية مذيلة بإمضاءات أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين.

ولكن يعزّ عليّ وعليك أن تنهزم دار العلوم بعد أن صنعت في التاريخ الحديث ما لم يصنع الأزهر ولا الجامعة المصرية، مع الاعتراف بفضل هاتين الجامعتين العظيمتين

يعزّ عليّ وعليك يا دكتور أن ينهزم معهد كان من رجاله أساتذتي وأساتذتك. أنت تعرف يا دكتور أن كلية الآداب انتفعت بأساتذة دار العلوم

وتعرف يا دكتور أن كلية اللغة العربية انتفعت بأساتذة دار العلوم. فأرجوك باسم الأدب العالي أن تذكر ذلك المعهد بكلمة رثاء يوم يموت!

أيها الأستاذ الجليل

في كتابك كثير من مواطن القوة، ولكن يعوزه المنطق أنت تتحسر أشد التحسر على الفرصة التي ضاعت على دار العلوم في الانضمام إلى الأسرة الجامعية

ولكنك نسيت أن سلامة دار العلوم هي في البعد عن تلك الأسرة الجامعية. وأنت نفسك تذكر أنك قلت غير مرة إنك لا تفهم أن يكون في الجامعة باب يُغلق بعد ابتداء الدرس

فما رأيك إذا حدثتك بأن دار العلوم معهد لا يقل خطراً عن المدرسة الحربية، وأن من الواجب أن يراعى فيه نظام المواظبة بالثواني لا بالدقائق؟

ما رأيك إذا حدثتك بأن طلبة دار العلوم يجب أن يُراضوا على الأنظمة العسكرية فلا يعرفوا من الحرية الشخصية ما يعرف أمثالهم في كلية الآداب؟ يجب أن يكون مفهوماً بيني وبينك أننا لا نفكر في منافعنا الذاتية، فأنا أدفع ما يتهمك به خصومك من حب السيطرة على أكبر عدد ممكن من المعاهد

وإذاً يكون من المنفعة الوطنية أن نفكر جميعاً في إعداد معلم اللغة العربية إعداداً فنياً، لا جامعياً، فإن لم تكتف بذلك فلا بأس من أن تقترح أن يظفر مدرس اللغة العربية بدرجة جامعية بعد التخرج في دار العلوم على الأساليب التعليمية

وتجاريبي في التفتيش أقنعتني بصحة ما أقول، فقد لاحظت أن المدرسين المتخرجين في كلية الآداب يتفوقون في أشياء ويقصرون في أشياء، كما لاحظت أن المتخرجين في دار العلوم يتفوقون في أشياء ويقصرون في أشياء، ولذلك تفصيل يضيق عنه هذا الحديث، فإن أمكن أن يجمع مدرس اللغة العربية بين المزيتين كان لذلك أثر بالغ في تكوين الجيل الجديد وهذا الذي أقول به لا يوجب إلغاء دار العلوم ولا تغيير نظام كلية الآداب، وإنما يوجب أن يتعرف هذان الجيلان بعضهم إلى بعض بلا بغي ولا عدوان

ويظهر من كلامك أنك راض كل الرضا عن الجامعة المصرية، ولكنك نسيت أن هذه الجامعة لم تصنع شيئاً في إصلاح ما سيطرت عليه من المعاهد العالية

هل تعرف يا سعادة العميد أن لغة التدريس في كلية الطب هي اللغة الإنجليزية؟

وهل تعرف أن لغة التدريس في كلية العلوم هي اللغة الإنجليزية؟

لقد نشرتُ أكثر من سبعين مقالة في دعوتكم إلى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع المعاهد العالية فلم تقابلوني بغير الصمت البليغ. وكانت النتيجة أن تسبقكم الجامعة الأمريكية في بيروت إلى تحقيق هذا الغرض النبيل

وتكلمت يا سعادة العميد عن وجوب الإكثار من الترجمة، وكان الظن أن تذكر أني استطعت مرة أن أقنع وزارة المعارف بوضع نظام لخريجي البعثات يوجب ألا يظفر المتخرج في البعثات بأية ترقية إلا بعد أن يترجم كتابين من غرر المؤلفات الأجنبية في العلم الذي تخصص فيه. وقد أقرت وزارة المعارف ذلك النظام وأعلنته إلى مبعوثيها في المعاهد الأوربية والأمريكية، ويقول المرجفون إنك ساعدت على تقويض ذلك النظام بمعونة رجل من أصدقائك تولى وزارة المعارف، وكان ذلك فيما يقال لأنه نظام اقترحه رجل اسمه زكي مبارك وأقره وزير اسمه حلمي عيسى باشا

فهل يكون معنى ذلك أن الخير لا يكون خيراً إلا حين تقترحه أنت ويقره وزير من أصدقائك؟

ونسيت يا سعادة العميد أن كلية الآداب تقول أكثر مما تفعل، فإن لم يكن ذلك صحيحاً فحدثني أين مجلة كلية الآداب التي لم نر منها غير ومضات؟

ونسيت أيضاً أنك تقول أكثر مما تفعل، فأنت تدعو الدولة إلى إعفاء الأدباء من أعمالهم الرسمية ليتفرغوا للبحث والدرس، ثم ننظر فنراك تساعد الدولة والدهر على ظلم الأدباء

فإن لم يكن ذلك صحيحاً فحدثني كيف اتفق ألا تتحدث في الإذاعة اللاسلكية ولا تكتب في الجرائد إلا عن مؤلفات من تصطفيهم من الباحثين، مع أنك مسئول بحكم منصبك العالي عن الخلوص من شوائب الأهواء؟ كان الظن أن تذكر أن من واجب الجامعة المصرية أن تحاسب نفسها قبل أن تحاسب الناس، ولكنك على كل حال مغفور الذنوب لأنك تتكلم في أوقات يراها غيرك أوقات صمت وجمود

أما بعد فإني أعتقد أني نوهت بكتابك وبأعمالك أعظم تنويه، فإن رأيت في كلامي بعض ما لا يروقك فاعذرني، فقد أُخذ علينا العهد ألا نقول غير الحق. وهل علمتنا الجامعة المصرية أن نصانع من يظنون أنهم يملكون من السيطرة الأدبية أكثر مما نملك؟ سترى كيف نروضك على الاقتناع بأن القول المعسول لا يغني عن الصُّنع الجميل

(مصر الجديدة)

زكي مبارك

* مجلة الرسالة - العدد 290
بتاريخ: 23 - 01 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى