أبو بكر اللمتوني - الفقيه الكرفطي "قصة مغربية"

كان الصبية يراوحون بين النظر إلى ألواحهم والتطلع إلى فقيههم ، ولم يكونوا في الحقيقة يتبينون شيئا ، فقد كانت ألواحهم لا تكاد تستقر بحروفها على ضوء الذبالة الراقصة ، وكان فقيههم ، على بعده عن الشمعة التي يدورون هم عليها ، هامدا ساكنا ، لا يكاد يبين عن سره بحركة يتحركها جسمه الضخم ، أو خلجة يختلجها وجهه الكبير ، وإنما هو الفضول يدفع الصبية إلى استطلاع سر الفقيه فيرنون إليه ، ثم الخوف يردهم إلى ألواحهم يتصنعون قراءتها وما هم بالقارئين .
وكان الشجن الذي يصارعه الفقيه خليقا أن يحمله على الزفير والتحيب ، أو يحيله على لحوم صبيانه يشبعها قرصا وجلدا ، لولا أنه صنع هكذا كله ، ثم ركن إلى الخضوع والاستلام.
وأقفل «قاسم» البقال دكانه في ضجته المعهودة . ومر الأعمى بائع النعنع يهتف ببضاعته على توقيعات عصاه الحديدية .
وظهر مؤذن الزاوية الذي يعرف الفقيه به الوقت كأنه عقرب الساعة .
ولكن الفقيه الآن غافل عن الزمان والمكان ، في دوامة الأفكار والأحلام والأشجان .
كانت عينه إلى الشارع ، ولكن فكره كان يذرع الخمسين سنة التي خلفها وراءه بما فيها من عسر ويسر وشدة ورخاء .
وبين الحين والحين ، كان يعود إلى حاضره ، فيسدد نظره إلى نافذة تخفف أضواؤها من رهبة الزقاق الموحشة ، ثم يعود إلى التيهان.
تلك نافذة البيت الكبير ... بيت الحاج الهادي الذي ترك عشرين مفتاحا في المدينة وخمسة عشر فدانا في الريف ... لقد اقرأ الفقيه فيمن اقرأهم من طلاب المدينة ، ولد الحاج الهادي عبد الرحمن ، وفي هذا البيت الذي يغمره الآن في سخرية وازدراء ، كانت «ختمة» عبد الرحمن . إن الفقيه لن ينسى يومه ذاك الذي قهر فيه حساده وقتلهم شماتة ونكاية . لقد سبقت ذلك اليوم أيام استروح فيها الفقيه عبير العز وعرف لذة التدليل : اليوم الذي أبدع فيه «الزواقة» على لوح «الختام» فانهالت عليه الريالات من بيته انهيالا ، واليوم الذي بعث فيه إلى «القيسارية» ليختار كسوته بنفسه ويشرف على تفصليها ، والأيام الثلاثة التي كانت موائد بيت الحاج الهادي تتوالى عليه كما تتوالى عليه كما تتوالى موائد الجنة على سكانها السعداء . أيام سعيدة ... ولا كيوم الختمة ... إنه ليذكر ذلك اليوم جيدا ... يذكر المقعد الذي أوثر به في صحن الدار ، أكبارا لقدره ، وإجلالا للكتاب الذي يحمله في صدوره ، وخضوعا لما يفرضه مقام شيخ الختام ... وأنه ليذكر ، بل ويحس ، تلك الخيبة التي انتابته عندما دخل الصبيان بالختام وهم ينشدون: «جابوه فرحت يمه وبوه» ، عندما فارق المدعون مجالسهم في الغرف ، واحتشدوا في صحن الدار يتعرفون على الختام ، ويتبارون في تكريمه بعطاياهم . كان هو حينذاك وكأنه واحد من المدعوين ... هذا يكزه من هنا وذاك يدفعه من هناك ، حتى لكاد يقع من مقعده ذاك نصب له نصبا وأعد من أجله أعدادا ، لولا أن تصدى والد الختام لتصحيح الوضع وصاح بالمحتشدين : «على رسلكم يا قوم ، أن تفرحوا مرة بالختام ، فافرحوا سبعين مرة بمقرئه الفقيه الكرفطي ، معلم البلد وبركتها ، صاحب الفتح في تحفيظ القرآن بها !» . وإن الفقيه ليذكر ما كان لهذه الكلمة المنصفة من تأثير على المدعوين ، وكيف اربدت لها وجوه غرمائه التي كانت تلوح له كاحله من خلال أبواب الغرف حتى لا ينفجروا غيظا مما كان هو عليه من السر والجلال ... هربوا حتى لا يشهدوا فضله . فإذا هذا الفضل ينتشر ويفيض عليهم في الزوايا والأركان ، وإذا هذا الفضل يعلوا ويعلوا ويغمر البيت كله سفلييه وفوقيه ، حتى ليدعو باشا المدينة ـ وكان من المدعوين ـ فقيها إلى تناول الغداء على مائدته ، فأنظر إلى المدر رين يضؤلون ويضؤلون حتى لتكاد العين تخطئهم ، وأنظر إلى فقيهنا يتخذ طريقه معدا نحو مائدة الباشا بين متبركات «التكافة» وزغاريد النساء .
ذلك الختام الحاج الهادي صاحب النفس الطيبة والقلب الكبير! .. لقد كان صادق الظن في ولده عبد الرحمن ... كان يقول عنه : إنه يقبل على الأوباش ويزهد في أهل الصلاح . وأنه لذلك حقا . ألم يقطع كل سبب له بشيخه بعد وفاة والدة ..؟ ألم يحاول أن يجلوه عن الغرفة التي تركه والده يسكنها مقابل تفقد السطح الذي تقع فيه ..؟
حقا لقد تغير الناس وحال الزمان .
عرس في الحي ولا يدعى فقيه الحي ؟!
وهب أنه دعاك ؟
نعم ، هب أنه دعاك ؟
وأعاد هذا السؤال فقيهنا إلى ما حوله .. هل تغير دعوته إلى عرس من هذه الحقيقة الفاجعة : جدران كالحة ، وشمعة تحتضر ، وخمسة صبيان أنصاف عراة ...
لقد تنكر لمبدئه وعصف بضميره حتى يقيل الكتاب من عثرته ويبعث فيه الحياة ...
علق اللوح الأسود فوق رأسه ، وقد كان يحرمه ويكفر من كتب عليه كلام الله .
وأغضى عن الصبيان يجلسون أمامه وقد أرسلوا شعورهم كأنهم بنات الروم .
وعدل عن مهاجمة دور السينما ليحاسب من يلجها من صبيانه حرصا على أخلاقهم من الفساد .
وكان هذا بحسبه ، ولو أن الله أراد لأمره أن يقبل بعد أبار .
وعاد الفقيه من تيهانه مرة أخرى إلى الجدران الكالحة ، والشمعة المحتضرة ، وخمسة الأطفال إنصاف العراة ، فشعر بتعسفه البالغ في إمساك هؤلاء المساكين حوله ، وهم لو خيروا لما اختاروا إلا أن يتركوه كما تركه زملاؤهم من قبل ..
ترى هل يجب أن يسرحهم بإحسان ؟
وماذا يصنع بنفسه بعد ذلك ؟
وارتأى الفقيه بعد أن فكر كثيرا وخمن طويلا ، أن يتمارض ويسافر إلى قريته لعله وأجد فيها من أمره مخرجا .
ولأول مرة لم يستطع الفقيه أن ينام ، لا لأن سريره في ضيق القبر وصلابة الصخر ، ولا لأن أصوات الليل تتأذى إلى غرفته في السطح محتفظة بقوتها ، فتحرمه من السكون الذي يحتاج إليه النائمون ، ولا لأن قرميد الغرفة لا يفتأ يطقطق مهددا بالتراكم والانهيار، بل لهذا المجهول الذي ينتظره بعد ما كبر ، وأصبح من العسير عليه أن يبدل من شأنه ويغير من عاداته .
وكان القمر لا يزال باهرا حين غادر الفقيه غرفته ، وقد ارتدى جلبابه الوزاني ، وحمل شمسيته العتيقة ، وحقيبته الخشبية التي تعطل قفلها فحزمنا بحبل متين .
وأدهشه أن يحس لرجليه ثقلا وأن يضطر إلى جوهما جرا ... فتوقف يتملى هذه المغاني التي قد يكون هذا آخر عهده بها ...
هنالك البحر ترتجف صفحته في ضوء القمر كأنها أهاب جواد .
وهنا السطوح يغسل منور القمر جدرانها نقيا صافيا ثم ينساب منها ظلا داكنا .
سكون لا يشوبه إلا طقطقة الزوارق التي تقوى حينا وتضعف أحيانا .
ولكن السكون لن يلبث أن ينقلب حركة وحياة ...
سيتنفس الصباح ، وينتشر الناس في سطوحهم يتثاءبون في كلالة ، ويخطون في فتور ، ويسقون الغرس ويقطعون النعناع .
وستعلى الشمس ، ويرقص السراب ، وتسعى النواة إلى المغاسل ، فتغطس الأذرع الموردة فيها ، وتفيض الرغوة منها ، وتتدلى الصدور عليها ، وترقص الأرداف دونها .
وقد يطلع النهار على تلك البنية البارة تنشر على الحبل غسيل أمها ، وهي تعبس للشمس وتزوي ما بين حاجبيها ن ورأسها ملطخ بالحناء ، ورجلاها حافيتان .
وستنصرف الناس عن السطوح إلى موائد الغداء ، فتستقل بها الدجاج والديكان ، تلك تخطو في حرص وتتسمع في اهتمام ، وهذه تخطر مزهرة وتلتفت متأملة .
لكم ساعد الفقيه جارته «الضاوية» في نشر الغسيل ، وإمساك الدجاج ، وتنقيه العدس. مسكينة ليست إلا سقاية ... ومع ذلك فإن لها قلب السلاطين ... لقد بكت كثيرا من أجله ، وساهمت ـ على ضعفها ـ في تجهيزه للسفر بخمسة ريالات ..
علم الفقيه في محطة القطار أن عربية الدرجة الرابعة لت تخرج إلا بعد الضحى ، فتخفف من متاعه ، ومضى ـ وقد طلع الفجر ـ يتسكع في الميناء .
ولم يكن البحر قد استفاق بعد ، فهو لا يزال ينكمش ويلتوي كأنه الرصاص المصهور .
وكانت الأضواء الحمراء تحتضر كأنها ورود تذبل في قبضة النهار .
وفاضت الأنوار من جوانب الأفق ، فبدأ الميناء كأنه راهب أشيب ينزع طاقته السوداء .
وبدأت الزوارق ترقص في مرابطها كأنها ولدان تتحفز للحيو.
وبدأ البحارة يتقاطرون على الميناء زرافات ووحدانا .
ونشط بائع الحريرة في توزيعها على البحارة والعسس والحمالين .
وفكر الفقيه في أن للرزق أبوابا غير بابه التي أصبحت في ضيق سم الخياط ، فتمنى لو أفاض البحر عليه هو الآخر رزقا يمسك عليه روحه ويكفيه هذا الرحيل الذي بدأ يشك في جدواه ..
صحيح أنه لا يحسن الملاحة ليصبح بحارا ولا يملك الجرأة على أن يصبح حمالا
ولكن في استطاعته أن يصبح واحدا من هؤلاء العسس الذين لا يصنعون شيئا إلا أن يحملقوا ...
وهو لا يحسن شيئا كما يحسن شيئا كما يحسن الحملقة التي طال عهده بها الكتاب .
وذكر الفقيه أن له صديقا في الميناء هو «الرايس أحمد» ، فمضى يبحث عنه لعله يدله على ما يجب أن يفعله ليصبح «عساسا» .
وانجلى البحث الطويل عن منظر الرايس أحمد يعتمد مجدافيه تحت أبطيه ، وعيناه تحملقان في البحر الذي يهدهد به الزورق فتتمايل عمامته الصفراء وما لمح الرايس أحمد الفقيه الكرفطي عند الرصيف ، حتى وتب إليه يقبل أطرافه ويهتف به في حماسة وبراءة :
«ماذا يصنع سيدنا الفقيه بين براميل الزيت وصناديق السمك ... دعونا نحن لهذه الأوساخ ... ودونكم كتاب الله تعطرون به أفواهكم وتلقنوه صبيانكم ... صدقتي يا سيدي أنني لا أراك إلا وجدت ريح الجنة ... إننا لا نرحم إلا بكم ...!»
ولم يملك الفقيه إلا أن يتمتم بتحية باهتة ، وببضع كلمات برر بها وجوده بين براميل الزيت وصناديق السمك ...
بدأ القوم يتساقون كؤوس الشاي ، وقد فسخوا مناطقهم ، واتكؤوا في تربعهم ، وشخروا مع عيهم ، وتضمضموا بمشروبهم في نشوة يغيب لها سواد الأعين .
وكان أعجب ما في مظهرهم أن يكون نقيض ما ينعمون به طرب وسرور ، فقد كانوا مكدودين منهوكين وأهين ، ولكن الواقع أنهم كانوا مسرورين من كل ما حولهم . أنهم يحتفلون بمقدم الفقيه الكرفطي أحد أمجاد قريتهم وسفيرها في المدينة ، إن جامع القرية لم يسبق له أن زخر بهذا الجمع وطفح بهذا الحبور . شائبة واحدة مرت كالسحابة فوق رؤوس القوم ، تلك أن وفرة الندامى جعلت الساقي يقصد في أنفاق الشراب ، فقد كانت الكئوس التي يشربون فيها تتدرج في الاتساع إلى فوق ، فكان هذا «الفوق» الواسع يبقى فارغا ، فلو الكأس ـ كما تمنى أحد الندامى ـ عاليها سافلها ، لما كان في ذلك بأس كبير ، ولكن البأس كل اليأس هو أن يبقى أوسع ما في الكأس خويا ...
واستراح القوم من عناء الشاي وجهده . فصاح أحدهم ـ وقد تطاولت نحوه الأعناق ـ :
«إن قدوم الفقيه الكرقطي يا قوم جاء مصداق الحديث النبوي الشريف : المؤمن ينظر بنور القلب ، فقد كفانا مئونة السعي إليه في المدينة ، لقد كنا ـ واتجه بالحديث إلى الفقيه الكرفطي ـ نعتزم القدوم إليك في مصاب جميع أبنائها ... إنك تعرف ساحة بوجمعة المرعى الوحيد لمواشي القرية ... لقد ظهر يا سيدي وبقدرة قادر ، أصحاب هذه الساحة ، فحازوها وتركوا مواشينا تعلق الحجر وتلحس التراب ...
وقد رأينا أنه لابد أن يكون للأمر علاج ، إن هذا العلاج يجب أن يلتمسه رجل مثلك ، إن لك في المدينة جاها وأصدقاء ودالة على الحكام !» .
وشرق الفقيه الكرنطي بجرعة الشاي التي كان قد جرعها .
وحين اعتصر غصته بالماء واستطاع أن يتكلم ، سأل عن موعد عودة القطار .
وجد الفقيه الكرفطي نفسه من جديد بين الجدران الكاحلة ، والشمعة المحتضرة ،و خمسة الصبيان إنصاف العراة ...
وحتى يحتفظ بوقاره ويدفع الظنون عن عقله ، كان يواري بسمته بكفه العريض كلما قول صاحبه :
«إن لك في المدينة جاها وأصدقاء ودالة على الحكام»
وأقفل قاسم البقال دكانه في ضجته المعهودة .
ومر الأعمى بائع النعنع يهتف ببضاعته على توقعات عصاه الحديدية .
وظهر مؤذن الزاوية الذي يعرف الفقيه به الوقت كأنه عقرب الساعة .



المصدر: دعوة الحق، العدد 15

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى