نزار عبد الستار - أزميرالدا والقرنفلة الذهبيّة

القرنفلة الذهبيّة
ضحكت، وهي تنزل حقيبة يدها على القاعدة البيضاء للمظلة الحمراء المقفلة. خلعت نظّارتها، وقالت إن عليه ألا يجهد نفسه مع كل الأشياء، فمقهى الفوكيت لا يمكن التعامل معه بحساسية عاطفية، لأنه، في النهاية، مكان لا خيار لنا سواه في باريس.
تهرّب من عينيها قائلاً بأنه لا بد من وضع اعتبار للاحتمالات الضعيفة، فقد تكون مقاعد الخيزران ليست بالهيبة التي تتوقعها، أو أنها يمكن أن تتضايق من المنضدة المدورة الصغيرة، والشرائط المذهّبة.
حكّت بظفر سبابتها زاوية فمها، وقالت:
ـ أنت اخترت الفوكيت، وكان يفترض أن تناقش الأشياء التي تضايقني مع نفسك، قبل أن تحدد المكان، حتى لا تتعذّب بتفصيلاته هكذا.
سألها بحضور النادل إن كانت ما تزال ترغب في القهوة، فأومأت بالإيجاب، وأخذت يده محذّرة:
ـ إياك أن تجعلني سبباً لتلف طحالك، أو كبدك، ولعلمك هذه المنضدة الصغيرة الحمراء بحافتها المذهبّة بديعة جداً، هي تجعلك قريباً مني، وبرغم هذا، فأنا أحب فيك أسرارك التخيلية التي تخفيها عني.
شدّت على أصابعه، وتابعت:
ـ الأمر لا يتعلق بالخيزران، وإنما بهزيمة رغبتك حين تعمدتُ الجلوس قبل أن تتمكن من مسح الكرسي بيدك.
قال وهو يتلّمس الظفر الذي حكّت به زاوية فمها:
ـ كنت أرغب بشيء أكثر فخامة، ولكنني أردت أن نكون في الفوكيت من أجل دعم مدام بومبادور في محنتها، فهي تحب هذا المكان كثيراً.
انسحبا إلى الخلف ما إن جاء النادل بالقهوة، فطلبت منه ألا يقلق من الفنجان الكبير، لأنها تحتاج إليه لكي تستوعب جمال الشانزليزيه، وما يمكن أن يلاقيها لاحقاً في محال سيفورا.
سألته بعد أن أخذت رشفة من القهوة:
ـ هل هي فنانة أم أديبة؟.. لم أسمع باسمها من قبل.
قال وهو يهز ساقه اليمنى:
ـ في الحقيقة هذا ليس اسمها، ولكنها تقمصت منذ أن كانت مراهقة شخصية الماركيزة دي بومبادور عشيقة الملك لويس الخامس عشر. إنه جنون خاص يتميز به العظماء هنا. هي تشبهها تماماً في تطلعاتها الأرستقراطية، ورعايتها للرفاهية الباريسية. إنها مصممة ملابس الملكات. واليوم صباحاً قرأت في الفيغارو خبراً رهيباً حدث لها.
سألته وهي تحاول مجاراة الأسى في عينيه:
ـ هل اغتصبوها.
ـ إنها عجوز في الخامسة والثمانين يا لولو. القصة أن شخصاً مجنوناً خطف حفيدتها الوحيدة اليتيمة، وطلب منها أن تصنع بوليرو كروشيه لزوجته لقاء إطلاق سراحها.
قالت ضاحكة:
ـ يبدو أن المجرمين في باريس أيضاً مجانين. قهوتك ستبرد.
ردّ وهو يلتفت جهة ساحة الكونكورد:
ـ هو ليس بمجنون. مدام بومبادور هي الأعظم بين مصممي الملابس في العالم، وسبق لها أن رفضت الرضوخ لثوار فرنسا حين طالبوها بصنع معطف للجنرال شارل ديغول. ورفضت طلباً قدمه جون كيندي لتصميم فستان لزوجته. كما عرض عليها برلسكوني مبلغ سبعة ملايين دولار لقاء تصميم حذاء لإحدى عشيقاته، ولم تقبل. إنها متخصصة بالملكات فقط.
قالت بالتواء:
ـ طبعاً لم تستطع رفض طلب هذا المجرم.
رجع ليقول بصوت رخو:
ـ هذا ما قالته الفيغارو التي وصفت البوليرو الكروشيه الأبيض الذي صممته مدام بومبادور بأنه تحفة ملكية باهرة. طبعاً هي تستعمل رمز القرنفلة الذهبيّة. إنها زهرة برج الجدي الجليلة. ولكن الطريف أن المجرم طلب أن تقوم فتاة ترتدي زيّاً من القرن الثامن عشر بتقديم البوليرو إلى زوجته.
انكمشت متأثرة، فواصل كلامه:
ـ وكتبت الفيغارو أن مدام بومبادور عملت لأسبوع شاق، ومهلك من أجل حياكة أجمل بوليرو عرفته البشرية. كان بالفعل تحفة لم ترتد مثله أي ملكة في العالم.
حجبت فمها، ممررة عبر موشور أصابعها، أمواجا تعجبها، فقال بان مدام بومبادور كانت تحوك البوليرو، وهي تبكي مجدها الذي ضاع مع زوجة مجرم، إلا أن وحياً غامضاً تجسّد لها ساعتها، فظهرت لها الماركيزة دي بومبادور الأصلية في ظلال طائرة بالقرب من النافذة، وأخبرتها أن سنارتها الذهبية تحوك الآن أجمل بوليرو لأعظم ملكة عرفتها الحضارات، وأن عليها ألا تبكي ابداً. وهكذا تحوّل الحزن إلى غبطة روحية، ووجدت مدام بومبادور نفسها، وقد حاكت أجمل بوليرو في الوجود، واختارت فتاة جميلة البستها فستاناً من تصميمات القرن الثامن عشر، وأعطتها البوليرو كي تنزل به ماشية إلى مكان التسليم المحدد.
أمسك بسبابتها اليسرى، وسحبها إليه قائلاً:
ـ وتشاء الأقدار بعد نزول الفتاة بدقيقتين أن يرن الهاتف رنة ما كان للفيغارو أن تتخيلها.
تساءلت وهي تتشبث بأصابعه:
ـ المجرم قتل الحفيدة؟.
ـ كلا .. كانت مادلين هي المتصلة، وقالت إنها في طريقها من بوردو إلى باريس.
سألته باختناق:
ـ من مادلين؟.
ـ مابك لولو ؟.. إنها الحفيدة المخطوفة. كانت صدمة رهيبة كادت تنتزع روح مدام بومبادور من حلقها، فقد ظهر أنها كانت ضحية مزحة فظيعة.
ـ ألم تلحق بالفتاة؟
ـ من؟
ـ مدام بومباردو
ـ اسمها بومبادور حبيبتي.. لا تستطيع، فهي أكبر عمراً من برج إيفل.
ـ تتصل بها على الهاتف كي تسترجع البوليرو الملكي.
رفع رأسه ناظراً إلى ما خلف كتفها، وقال:
ـ لولو كوني منطقية. كيف لفتاة من القرن الثامن عشر حمل هاتف.. إنها بالضبط تشبه هذه.. انظري خلفك معبودتي.
التفتت بتردد فرأت فتاة تتقدم بضجة نايلونية، كما الدمية، وهي تحمل على ساعديها علبة صفراء فاتحة. كانت بشعر أشقر مرفوع، وتتدلى منه لفائف على الصدغين، وترتدي فستاناً ذهبياً منفوخ الأكمام، وبخصر ضيق. انحنت بالأسلوب المتبع في قصر فرساي، وقالت وهي تقدم العلبة الكبيرة المزينة في المنتصف برسمة القرنفلة الذهبيّة:
ـ بونجور جلالة الملكة المعبودة.

أزميرالدا
تراجع الرجل عن فتح الباب ما إن سأله:
ـ هل توجد نافذة تطل على ايل دولا سيتي إذ يمكن لزوجتي رؤية كاتدرائية نوتردام دو باري؟.
ابتسم الرجل وقادهما إلى نهاية الممر. فتح لهما قاعة فيها طاولة اجتماعات، وقال إن مديرة المبيعات ستكون معهما خلال دقائق.
قال لها وهو يجلسها في مواجهة النافذة حيث يمكن في البعد رؤية أبراج كاتدرائية نوتردام المضاءة، وألوان نهر السين:
ـ أتمنى أن ينجح قارع الأجراس كوازيمودو في أن يجلب لنا الغجرية أزميرالدا بسرعة.
ضغطت على يده:
ـ أحتاجك.. كن هادئاً.. سيفعلون ما تحب.
انحنى مقبلاً يدها:
ـ أحب أن أصنع لك الأشياء بيدي يا لولو. أنا حزين لأنني لست مزارعاً، ولست عامل مناجم، ولا صانع عطور. كنت سأحيطك بأجمل الزهور، واقضي نهاري في أعماق الأرض أبحث لك عن أكبر جوهرة، وأسهر ليلي ابتكر لك عطراً لا يكون لسواك.
سحبته إليها، فانحنى، وقبلته في مؤخرة رقبته.
سمح لمديرة المبيعات بالدخول. كانت أربعينية، وبرفقة شابة تدفع عربة عينات مصغرة من العطور.
ـ اسمي أزميرالدا.
قال مبتسماً:
ـ هذا لطف منك سيدتي. أريد أن اختصر لك وجهة نظري. زوجتي لا تعرف الفرنسية، وهي في هذا الوضع تنظر إلى كاتدرائية نوتردام، وتتذكر مهرجان المهرجين. هذه لحظة سمو منها لهذا علينا أن نمرر حولها العطور كي تختار ما يناسب نشوتها. لا يمكن أن يحدث هذا بالأسماء، والماركات. روحها تؤمن بلمعة الإحساس الخاطفة وعلينا، أنا وأنت، أن نمرر حولها كل ما نعتقد أنه يشبه هذه النظرة الرقيقة التي تلقيها إلى زمن الكاتدرائية. لا ترشي العطور على ترددات نبضها، وإنما حركيه واجعليه يطوف بوجهها، وهي ستقول لنا أي عطر قرع أجراس روحها.
ابتسمت، وقالت:
ـ سيدي اسمي هو أزميرالدا حقاً.
ردّ باسترخاء:
ـ معنى هذا أنك تفهميني.
قالت بثقة:
ـ إلى حد كبير. يمكنك أن تدخّن إذا أحببت. نحن نجلس هنا حين نريد التفكير.
قال لها:
ـ أرجو ألا تتقيدي بالمنجزات الفرنسية.. أريدك أن تنوعي وتجربي معها كل شيء حتى لو كان من خيال لبريتني سبيرز.
سألته:
ـ لماذا تقول هذا بحزن يا سيدي؟.
التفتت لولو إليهما. نظرت إليه مطولاً قبل أن تقول له بصوت مرتجف:
ـ أحتاجك.

أشقر بلاتيني
سألها إن كانت ترغب في أن يبقى عند النافذة البانورامية، ويتركها وحدها في الغرفة قليلاً. أمسكته من معصمه وسحبته خلفها في الممر قائلة إنها تحتاجه.
قبل ذلك بربع ساعة لم يكن قد تأكد من أنها ملّت مطاعم القطارات. هي تحب في الفرنسيين عنايتهم بالمناضد الحميمية، وحين طلبت أن يحتسي المارتيني الأحمر في عربة المطعم كانت منتشية بالقطيفة، وارتخت ملامحها لملامستها دفء ركبتيه في جلستهما إلى المنضدة. أرادت تنبيهه حين قالت عن الفرنسيين إنهم يبتكرون الجمال استناداً إلى حيرة أعماق المرأة، عندها عثر على غيمتها.
قالت له وهما في غرفة المنام الضيقة:
ـ أنا وأنت لا نسأل عن الزمن. لا نعرف الآن متى نصل سالزبورغ، ولكن ندرك أن باريس صارت بعيدة.
ساعدها في خلع معطفها، وهو يشعر بصلابة قدميه في الحذاء. في حالات كهذه يستعمل معها جملاً قصيرة للغاية. هي تحب تفكيره فيها، وقلقه المتحفز.
جلست على طبقة المنام المعلقة وتوجهت بنظرها إلى زاوية النافذة الطولية. أكمل رفع الستارة المعدنية، وخلع السترة، وأخذ مكانه خلفها ممسكاً بخاصرتيها.
قالت بعد أن هدأت أنفاسه:
ـ مشط لي شعري بأصابعك.
تلمس رأسها مقرّباً أنفه. شكك في قدرة عطر شانيل فايف على تلقيح أعماقها. سحب الدبوس بيده اليمنى وفك ايشاربها. فعل ذلك بأصابع مائية. كانت ثابتة، وظنها تكتم أنفاسها، لكنها سألته:
ـ لماذا تحب أغنية Apprend moi ؟
قال، وهو يسحب إلى الأسفل الطوق المطاطي الماروني، ويحلّ عقدة شعرها، وينثره بلونه الأشقر البلاتيني على كتفيها:
ـ إنها soul filtration.
انسابت أصابعه ممشطة شعرها الكثيف المتموج من الجهتين. أرجعت رأسها إلى الخلف. طلب منها أن تفكر بالأشجار الضخمة، وبرطوبة العشب.
نظر إلى أصابعه الخارجة من شعرها. أرادت أن يكرر ذلك ولا يتوقف. ردّ بأن عليها أن تتذكر إحساساً انخلق فيها وهي ترى السين. خرجت أصابعه من شعرها مجدداً، فقالت:
ـ أحببت رائحة النهر.. كان عليك أن تخلع عني الايشارب هناك، ونحن في اليخت.
قال، وهو ينظر إلى أصابعه:
ـ ربما لأنني توقّعت هذا.
قالت:
ـ أشعر أنني هواء.. مشّط شعري أكثر.
قال وهو يرفع أمواج شعرها بأصابعه:
ـ سنرقص في سالزبورغ.
قالت، وهي تتنفس بعمق:
ـ بكل جنوننا.
حرّر الشعرات الشقر العالقة بين أصابعه. جمعها ومرر عليها لسانه مبللاً إياها بلعابه، وراح يبرمها. تراجع إلى الخلف حين قالت إنها تشعر الآن بالراحة، وطلب منها أن تلتفت إليه.
قال، وهو يمد يده اليسرى، واللمعة تهتز في ندى عينيه:
ـ اعقدي شعرك حول إصبعي مثل خاتم.

نزار عبد الستار


* عن الصباح الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى