أ. د. أبو الحسن سلام - إشكالية التناص المسرحي بين أسلوب بناء النص ونظرية التلقي - تطبيقا على النص المسرحي (النساجون )

دأب عدد من النقاد على تأبط نظرية نقدية ما وإعمالها في نقد منتج إبداعي قد يكون نصا مسرحيا وقد يكون عرضا أو قصيدة أو رواية أو فيلما سينمائيا ألوحة تشكيلية أو تمثالا ؛ بصرف النظر عن الاختلاف بين الاتجاه أو الأسلوب الفني الذي ينتمي إليه ذلك المنتج الإبداعي موضوع نقده والنظرية النقدية التي أعملها الناقد في قياس ذلك المنتج الإبداعي وتقويمه ..
هنا تكمن الإشكالية ؛ فالصحيح آن يترك الناقد للمنتج الإبداعي نفسه الإشارة إلى النظرية النقدية التي تتناسب معه نسقا وخطابا ومن ثم- تصلح لنقده ؛لا العكس . فالأصل ليس استحضار وسيلة القياس قبل معاينة الشيء المطلوب قياسه ؛ فالسائل يقاس بمكيال ويمكن قياسه بالوزن والصلب يقاس بالمتر حجما أو بالوزن كمية ؛ وهكذا تسير الأمور.
ومن الغريب أن تجد ناقدا يقيس نصا أو عرضا مسرحيا تأسس نسق معماره الدرامي على أسلوب طبيعي ؛ بإعماله لنظرية النقد الشكلاني أو وفق نظرية التلقي في القياس .
ووجه الغرابة يكمن في اختلاف وجوه القياس النقدي الشكلاني - لنص أو لعرض مسرحي طبيعي النزعة - خلافا للعناصر التي تأسس عليها أسلوب النزعة الطبيعية
حيث ترتكز الطبيعية على ركيزتين أساسيتين هما : ( عنصر البيئة و عنصر الوراثة) وحيث يركز المبدع على بناء خطابه المسرحي بما يجسد الأثر الدرامي لتفاعل عناصر البيئة مع عنصر الوراثة في إنتاج الفعل الخاص بالشخصية المسرحية .
ولأن النقد الشكلاني يركز على كشف حالة الانحراف في الصورة أو الشكل ؛ وهو الانحراف الذي نتج عن تقنية المبدع وقدرتها على المراوغة وتشويه الصورة عما هي عليه في الواقع - وفقا للعادة ولما هو متعارف .. -
فإذا مثلنا لذلك الانحراف في الصورة الشعرية ؛ يمكننا الوقوف على بيت من القصيدة التي يقول فيها المتنبي :
( أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي. وأسمعت كلماتي من به صمم )
ستتضح قصدية الشاعر إلي الإنحراف والمراوغة .
ووجه الانحراف في مقارنة الصورة الشعرية السابقة بواقع الحال التي يكون عليها شخص كفيف .. فالمكفوف في الحقيقة فاقد للبصر ومن هنا لا يمكنه النظر - بمعنىانعدام قدرة الابصار و انعدام القدرة علي القراءة بالإطلاق ؛ لا شعر المتنبي ولا شعر غيره . والأمر نفسه ينسحب على الأصم حيث يحول صممه في الواقع دون سماعه لأي صوت كلاما كان أم كان مجرد ضوضاء ولغط ؛ فطبيعة عجز الشخص الأعمى البصري وعجز الشخص الأصم السمعي تحول بين كل منهما والتواصل مع المحيط الخارجي لا بالبصر ولا بالسمع .
وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى - مربط الفرس- حسبما يقول المثل-
ولا بعني انحراف الشكل هنا انغلاق الفهم المتلقي لمثل هذا الخلق الشعري المراوغ
بالقطع لا ؛ وإلا ما جاز للمعري - وهو الكفيف - أن يقول في كتابه ( معجز أحمد) - وهو عن المتنبي-
(( أنا الذي رأيت شعر المتنبي))
لذا نقول : ليس ذلك يعني أن ما قاله الشاعر ( المتنبي) هنا هو الكذب الصراح !!
لأن فهم الصورة الشعرية أو الأدبية أو الفنية لا يتأتى بما يوافق الحقيقة أو مفهوم الصدق الاخلاقي التوافقي مع القيم الدينية والمجتمعية التقليدية المحافظة ؛ بل يأتي من منظور الحقيقة الفنية ومهارة طاقة التلقي ؛ حيث تنبع مصداقية الصورة من صدق تعبير المبدع عنها أيما كان : شاعرا كان أم أديبا أم فنانا ؛ فمفهوم الشر - مثلا- في فلسفة سارتر الوجودية المادية تتمثل في عدم قدرة (الأنا ) على تحقيق الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه - وهو أمر ربما يتلامس مع المقولة الميكيافيلية الشهيرة ( الغاية تبرر الوسيلة) مع ما بين الفلسفتين من فضاءات الاختلاف .
وإذا ضربنا مثلا آخر - هذه المرة من المسرح - نجد نا أمام موقف من المسرحية الملحمية الأهم
( دائرة الطباشير القوقازية ) لبرتولت بريشت ..
ففي مشهد لقاء الحبيبين (جروشا - سايمون) نجد كل منهما قادم على طريق الضفة المقابلة للضفة التي علي طريق الترعة التي تم عندها اللقاء
فور عودة (سايمون) من الحرب حيث كان مجندا .
ويظهر الانحراف في الصورة المسرحية في مغايرة اللقاء الطبيعي بين محبين عما هو معتاد في تحقيق حميمية اللقاء بين حبيبين التقيا بعد غيبة طويلة ؛ بما يفقد حرارة العاطفة من لوعة الاشتياق بعد طول فراق .
لقد تعمد برشت تشويه صورة اللقاء بين فتى وفتاة عاشقين ؛ طال افتراقهما ؛ وهو انحراف يهدف إلى تحقيق نظرية التغريب ؛ لذلك تأسست الصورة على ثنائية ( الرائع في المشوه/ المشوه في الرائع )
فالرائع هو لوعة الشوق بعد طول غياب والمشوه هو عدم تحقيق حميمية اللقاء حيث يمتنع على الحبيبين احتضان كل منهما الآخر
والرائع في المسكوت عنه من أمتلك خطئين شابين في زواج وحياة أسرية آمنة مأمولة والمشوه في وجود جثث جنود قتلي في الترعة مكان لقاء الحبيبين.
وبما يتعارض مع روعة السلام والأمن المأمول حيث الحرب التي تهدم ذلك الأمل المنشود .
ذلك هو عمل النقد الشكلان حيث يعمل الناقد الشكلاني على كشف مواضع الانحراف في الصورة المسرحية. وهو انحراف ليس في الشكل فحسب ؛ بل كان في مضمون تلك الصورة أيضاً .
ومن المهم ملاحظة أن بنية هذا المشهد المسرحي هي التي استدعت النظرية النقدية الشكلانية ولم يهبط الناقد بنظرية نقدية جاهزة على النص .
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا الوقوف عند دعوة زاعم بصلاحية نقد نص مسرحي تأسس على الأسلوب الطبيعي - تحديدا- نص ( النساجون ) للكاتب الآلماني " هاوبتمان "
إذ يطلب من طلابه نقده ذلك النص بمقاييس نظرية النقد الشكلاني مرة ثم نقد ذلك النص نفسه مرة ثانية بمقاييس نظرية التلقي التي ترتكز علي كشف الناقد لفجوات النص والمسكوت عنه .


أ. د. أبو الحسن سلام



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى