د. أحمد إبراهيم الباسوسي - مشغولة

جدائل الظلام أوشكت على خنق النهار الجامح صاحب القيظ المنفلت، دارت عيونها تمسح المكان الذي حطتها فيه الحافلة لعلها تتصيد مكانا ترتمي في حضنه لحظات للراحة قليلا. حركتها بطيئة، متأرجحة، انحنائة ظهرها البسيطة تمنحها قدرا لا بأس به من المهابة والثقة. على مسافة بضعة أمتار كانت تنتظرها مقهى بلدي، كراسي متناثرة في المحيط مطلة على نهر الشارع، وأخرى خلف جدران مبنى حكومي مهجور أنشأوه قبل عقود مخبز آلي لصناعة الخبز وتوزيعه للفقراء، قبل ان يتم بيعه لاحقا الى أحد أصحاب الأعمال المتنفذين في ظل سياسة الخصخصة التي انتهجها النظام السياسي المصري آنذاك. ساقتها قدماها المرهقتين الى احدى الزوايا المنكمشة البعيدة عن نهر الشارع، كان الظلام قد حل ضيفا مريحا في هذه اللحظة، غرق الناس في نسمة هواء بارد، منعشة وممتعة، استردوا على اثرها وعيهم وحيويتهم، اناخت ثقلها فوق المقعد البلاستيكي المريح، حررت يدها مما علق بها، حقيبة جلدية صاحبت الدهر كثيرا وبهت لونها الأسود، وأكياس بلاستيكية تخفي مشتروات التقطتها من الطريق قد لا تتذكر أنواعها بدقة الآن، رأسها مستور بطرحة سوداء ليست مهندمة تتدلى على عباءتها السوداء الكالحة، استندت بأريحية على ظهر الكرسي، مدت ساقيها، طافت بمنديل كلينكس حول جبينها الذي تفصد عرقا وسخونة. ملامحها بدأت تستعيد هدوءها واتزانها. ربما تجاوزت الستين قليلا لكن ظل بريق العينان مفعما بالأنوثة والحنية، ملامحها الكمثرية لاتزال تحمل عبق ملامح فتاة العشرينات، حيث كانت أيام الجامعة مثار جذب شباب الدفعة والكلية. لون بشرتها الأسمر شديد الجاذبية، شديد الأنوثة، وشديد الاغراء لزوجها قبل ان يتركها ويرحل مع سرطانه الذي نهش كبده. بمجرد ان لامست النسمة المنعشة جبينها وأزاحت من طريقها العرق والارهاق وانتظم التنفس حتى عبثت أناملها داخل حقيبتها، خرجت بالهاتف الصغير القديم الذي اعتادت حمله مؤخرا بعد تكرار حوادث سرقة هواتفها غالية الثمن التي كانت تتباهى بها دائما، نصحوها ان تشتري هاتف رخيص طالما تتنقل في حافلات النقل الجماعي وتعرض نفسها للسرقة. اقتنعت في اعقاب الحادث الأخير الذي عادت فيه الى المنزل من دون هاتفها الجديد هدية ولدها الغائب في بلاد الضباب. دائما تدهمها موجة الحزن وهي تتذكر كيف ان امرأة مسنة أكبر منها سقطت فوقها فجأة في الميكروباص المندفع بتهور الى منطقة حدائق الأهرام، احتضنتها بشدة لمدة دقيقتين بطريقة غير طبيعية كادت تقطع انفاسها قبل ان تقوم من فوقها وتعدل نفسها من دون ان تعتذر، وتنزل بمنتهى الاريحية. تقول " حينها شعرت برجفة داخلية وقبضة وهاجس ان هناك شيء غير طبيعي حدث، لكن لم يخطر ببالي ان تلك المرأة العجوز اللي معدية السبعين سوف تفعلها وتسرق بوك النقود والهاتف الجديد، وتسرق أيضا فرحتي بهدية ابني الغلبان المتغرب، وكمان فرحتي بزيارة ورؤية بنتي في الحدايق حيث تسكن مع زوجها واولادها". تستمد وناستها ونور جبينها من انعكاسات حكاويها الغريبة على وجوه الأخريات وتعاطفهم مع خلجات جبينها وصوتها واشاراتها التمثيلية. مؤرقة معظم الوقت، لاتستطيع ان تمنح نفسها هدوءا مصطنعا، اعتادت على القلق والأرق، بالها مشغول على الدوام باولادها الذي خرجوا من شرانقهم منذ عقود، أصغرهم الفتاة "جميلة"، انهت دراستها في كلية الطب، وتختال بقوامها الممشوق الذي تحدى سنوات الدراسة الصعبة، ورأسها العبقري الذي يلتقط أدق الأشياء، ويربط كافة التفاصيل، ويستدل بطريقة مدهشة، ويخرج للعالم بأفكار صادمة لواقعها المحيط، ومدعاة أحيانا للفخر والتباهي، وفي كثير من الأحيان للقلق والانشغال والخوف. وأما الاخرون فقد تفرقت سبلهم، الكبير منهم عشق أثناء دراسته الجامعية واختطف فتاته زوجة منزلية بمجرد انتهاء دراسته الجامعية واستلامه شهادة الاعفاء الصحي من التجنيد، ومع ذلك لاتزال الحرب مستعرة، تدور رحاها كل حين مع زوجته التي لم تعد مثل زمان. وتأتي "هدى" التي أخذت القلوب والعيون بجمالها الأخاذ، لم يمهلها العشاق وقتا لتتدلل وتتمتع بهبة الخالق، خطفها أحدهم وهي طالبة في الهندسة، وتزوجها بمجرد تخرجها وذهب بها الى حدائق الهرام. ثم يأتي لاحقا ذلك الذي تمرد على الشرنقة، وعلى خنقة العائلة والبيت، ودار يبحث مع اقرانه عن أحلامه في الثروة والثراء، دائما يستيقظ على أحلام التميز والقدرة وتكوين الثروة العظيمة، ثم يبحث مع أصحابه في المساء عن أحدث النكات والكوميكسات على مواقع التواصل الاجتماعي، أخذته بقوة فكرة ركوب التريند التي ذاعت بين الشباب والفتيات، ولا يزال يبحث عن وسيلة تحقق له هذه الفكرة مع الأقران،لا تستهويه فكرة البحث عن الفتيات والحب. يقول دائما لوالدته المهلوعة على حاله الذي تراه بائسا " ليس لدي وقت ولا رغبة في الزواج". كما ان مسألة البحث عن عمل فكره لاتشغله كثيرا، لانه بحسب ما يعتقد ينتظر منصبا كبيرا يلائم قدراته وذكائه ويحقق له أحلامه. وخامس الخمسة بمجرد حصوله على شهادة بكالوريوس الطب والجراحة لم يهنأ لحظة واحدة، دار كثيرا، طرق كافة الأبواب، حصل على كورسات في اللغات، طار الى بريطانيا بمجرد وصول التأشيرة، وخلف الغصة والحزن والهم لوالدته تتقصى اخباره وتطمئن على أحواله. كان الأب مكيرا وميسور الحال، ادرك في البداية مبلغ جاذبية زوجته وقوة ذكائها، فنهل منها بقدر قوته ورغبته فيها، وحينما تتابع وصول الأبناء وتيقن من عظيم نبوغهم في دراستهم، والسياج القوي الذي صنعته حولهم، لم يقاوم كثيرا، سلم لها كل شيء، سحب نفسه تدريجيا من وعي اطفاله، استلمه فيروس سي، هيمن على كبده، انتج خلايا سرطانية اوقفت عمل الكبد، طلب الجراحون ضرورة نقل فص من شخص آخر حتى يستمر عالقا بالحياة بعض الوقت. نجحت العملية التي وهبته فيها الفص الذي اقتطعوه من كبدها انثاه الجميلة التي ترتكن الآن فوق الكرسي البلاستيك امام المقهى خلف مبنى المخبز القديم المهجور في سلام تنتعش بنسمة الهواء الزائرة بعد يوم قائظ، وزوال شحوب الوجه. لكن الرجل لأنه مكير، وقارئ للغيب اعتبر هذا الأمر مجرد منحة أو هبة مؤقتة لاستمرار التنفس والتمتع بدفئ حياة العائلة والذكريات والبيت الذي حارب الدنيا من أجل الحصول عليه. عمل كثيرا جدا، تصارع مع الناس كثيرا جدا، حزن كثيرا جدا، فرح قليلا جدا، جمع ثروة كبيرة، اشترى البيت وأسسه وتباهى به وكأنه هدف حياته. منحة الحياة كانت أقل من خمس سنوات مشحونة بالعذاب والمعاناة والأدوية وزيارات الاطباء، والرقاد في المستشفيات، ومع ذلك كانت انفاسه تدور مع كل نظرة في عيني المرأة القوية الجذابة، ظل يشتهيها رغم رائحة الدواء وخمود اعضائه، ونظرات الاشفاق من مراهقيه التي طفقت تتداخل ثم ترتكز صوب سريره وعجزه. أثناء غياب الابناء وانشغالهم يطلب منها الجلوس جواره واحتضانه بقوة. يعتقد ان هذا الحضن قد يعطيه منحة أخرى للحياة والبقاء. كان يستشعر في أصوات ابنائه المراهقين وعراكهم، وصريخ أمهم دفئ غريب يسري في خلاياه، والهام يمنحه المزيد من الساعات والأيام. لكن المنحة انقطعت فجأة، دوى الصراخ في البيت الذي شيده في سنوات شبابه. أضحت وحيدة، السياج الحديدي الذي صنعته حول الأولاد زاد متانة وقوة، لم يعد يشغلها شيء في عالمها سوى الأولاد، مدارسهم، دروسهم، مشاكلهم، صحتهم، كل شيء. دارت في دوامتهم مثلما يريدون، اذا خنقها الغضب أو الحزن تلجأ الى غرفتها خمس دقائق وقد اختنقت عينيها بالدموع، تطالع في صورة زفافها مع الزوج الماكر الذي خدعها وهرب من تلك الحرب الضروس، تركها تقف بمفردها، حمل معه فص كبدها الذي منحته اياه الى قيره. كانت امنية حياتها ان يتمدد عمره ويبقى معها سياجا قويا يحتمي داخله هؤلاء الابناء المارقين الذين يجاهدون في تغيير الكون وفق مشيئتهم وليس مشيئتها، تملكها خوف غير طبيعي عليهم في اعقاب وفاته مباشرة، اذا خرج احدهم ظلت تطارده بالهاتف حتى يعود ويرتاح بالها. اذا واجه احدهم مشكلة، أو استشعر ظلما من جهة ما لاتنام، تعتصر جل رأسها وأحبائها لاخراجه من المشكلة. كلما استطال الأولاد، أو حتى تزوجوا استطال معها خوفها عليهم، ورعبها من ان يصيب احدهم مكروه من أي نوع أو أي جهة. رأسها يستند على الجدار يتصالح مع النسمة الندية، انفاسها التي تدخل وتخرج مرتاحة الآن بعد زوال الشحوب والارهاق والعرق. اصابعها تنغرس في بطن الهاتف تطلب الابنة الدكتورة، "الووووه انتي فين ياجميلة؟"، "في العيادة ياماما، فيه حاجة؟"، " لا ياحبيبتي اتطمن عليكي خدي بالك من نفسك، انا في طريقي للبيت". الاصابع التي يبست تعاود العبث ثانية، يظهر على الشاشة اسم رياض، يأتي صوته ضعيفا بلا حماس " أيوه ياماما، شفتي المجنونة هبة عملت ايه النهاردة!"، اهتز كيانها كأنها تفاجأت، تاه صوتها داخل ضلوعها "ايه حصل تاني، اتخانقتم"!، " أيوه شتمتني وأخدت الولد وراحت بيت ابوها". " معلهش ياحبيبي هدي نفسك انا راجعة البيت دلوقتي اجيب لك ايه تتتعشي بيه؟". جاء نادل المقهى ورحل بعد اكتشافه عدم جدوى وقوفه أمام امرأة لايشغلها شيء سوى الكلام في الهاتف، انصرف ملولا بعد ان ترك لها سؤاله خلف ظهره. طافت بالهاتف على الجميع توزع رسائل الاطمئنان والحنية وتحاول السيطرة على قلقها الذي يتصاعد كلما هاتفت أحدهم ولاحظت اختلافا في نبرة صوته التي اعتادتها، أو نبس لها بمشكلة أو هم يتملك رأسه. غادرت المقهى تحجل باثقالها ورأسها الذي يدور مع عقارب الساعة وعتمة الطريق والوحدة. آخر شيء تذكرته قبل سقوطها مباشرة، ان الآرض دارت واهتزت من فوقها ومن تحتها بينما كانت تحاول فتح البوابة الخارجية للبيت بالمفتاح، هرع المارون في الشارع نحوها، كانت قد دخلت في الغيبوبة، ادخلوها المنزل الخالي من الناس ومن الحياة، أحدهم طلب الاسعاف التي جاءت على عجل، وآخرون ركبوا معها الى المستشفى للاطمئنان عليها، لم يكن من بينهم أحد من الابناء ابدا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى