أمل الكردفاني- في ربيع ما- قصة قصبرة

في ربيع ١٩٧٥ كانت شوارع ألكاست دي خازيا خالية تماماً. الزهور البنفسجية والحمراء تملأ أغصان الأشجار. والشارع الأسود يلمع كوجه حسناء زنجية. كانت الثورة على المحتل قد انتصرت، رغم ما قيل بأن دولة أخرى قدمت أدوات نجاح الثورة. لقد كان الشعب منتشياً، ما عدا في هذا الصباح الربيعي. كان يوماً ارتاح فيه الشعب من عناء بضعة أشهر من تأجج الفعل الثوري. فحملت قلم الحبر ودفتراً صغيراً وقررت كتابة تقرير عن كل ما حدث.
لكنني في الواقع لم أكتب أي تقرير طيلة اليوم. كانت هناك قصة أخرى تمرق من بين ثنايا الربيع. إحتلال جديد، ثورة اخرى، وهزيمة.
كانت امرأة بالطبع..
....
أثناء تحليق الطائرة، لم أكن اشعر بشيء. إن الشيء الوحيد الجيد في قصص الحب المهزومة أنها تنتهي بتغليف القلب بدرع قوي ضد ما يُسمى بحب جديد.
عدت إلى الوطن، بعد أن طلبت إعادتي للتفرغ كصحفي رياضي. رغم أنني لم أشاهد سوى مباراة واحدة لكرة القدم، واكتشفت بعد سنوات أنها كرة قدم مختلفة. في الواقع كانت حرباً بأعنف ما تكون الحرب. كانوا يلكمون بعضهم، يطيرون خلف الراكض بالكرة كالوحوش، وهو يهرب منهم كثور يفر من الأسود، ثم ينقضون على قدميه دفعة واحدة. كان ذلك بشعاً. ثم أن أحدهم جعلني أكره الرياضة تماماً حينما أخبرني بأنها تستهلك الجسد وتدمر الغدد والهرمونات. لكن رغم ذلك سأجرب الصحافة الرياضية. لن أكون صحفياً عادياً، بل سأنبش أسرار تلك الأندية، الصراعات التي تدور داخلها، الفساد، وتزوير الانتخابات. سأتمكن من نسيان تلك القصة تماماً؛ قصة حب في ربيع ألكاست دي خازيا.
....

إنني أراها في كل مكان..التفت فأرى ذات شعرها، اقترب فأكتشف أنها ليست هي، مشيتها، وحتى مؤخرتها، وطولها، لقد كانت قصيرة إلى حد ما. سمراء، نصف نحيلة ونصف ممتلأة. تسير ببطء، تضع قدمها اليمني أمام اليسرى، ثم تعود وتضع قدمها اليسرى أمام اليمنى. كانت لها مشية متميزة.
ينظر نحوي الطبيب النفسي بملامح باردة.
- هل تشعر بالتعب حين تتذكرها؟
وأشعر بأن الإجابة بديهية، ومخجلة في نفس الوقت. أعرف أن شكوى الرجل للرجل من قصة حب فاشلة تبدو مخجلة حتى لو كان ذلك الرجل أحد الأصدقاء. إن الرجال يتباهون بالنصر وليس بالهزيمة.
وجدت نفسي في كمين، وانهى الطبيب كل شيء بكتابة وصفة دواء.
خرجت من العيادة وألقيت بالوصفة في سلة المهملات.
....

عندما تُحصِّن قلبك قصة حب فاشلة، فإن القدر يسخر منك، بالعديد من النساء الجميلات. لكن قطار المتعة يكون قد تجاوز نقطة الإستعداد. إذ يخرج عن قضبانه تماماً، ويندفع ليمرق من بين الغابات، والوديان الصخرية، والسهول المحترقة، والجحيم، ولا يتوقف أبداً.. فهو يطير عبر الهاويات السحيقة، وينحدر منجرفاً في بحور دخان رمادية.
كل عالمك البشري يضحى تاريخاً كحضارات بائدة..
لقد افتتحوا هنا فرعاً من المقهى العالمي الذي كنا نجلس فيه. كما لو كان ذلك مقصوداً. يقول الجاسوس العجوز النحيل:
- لقد دفع قرابة مائة ألف دولار ليشتري أعضاء الجمعية العمومية..
- سافر؟
يجيبني وهو يهمس متلفتاً حوله بحذر:
- ليكون له حجة غياب ساعة اقتراف الجريمة..
ثم يضيف وهو يغمز بعينه:
- Alibi
فأساله:
- أي جريمة؟
يدنو برأسه من رأسي ويقول:
- جريمة ضرب الديك..
وأراها تدخل من باب المقهى الزجاجي وهي تعدل حقيبتها السوداء الصغيرة.
ليست هي.
....

- أرجوك يا دكتور..إن حالتي تتفاقم..
قال الطبيب:
- هل تناولت الدواء؟..
ارتبكت وكذبت:
- لقد ضاعت مني الوصفة..
كانت عيناه تخبراني بكذبي، غير أنه لم يقل شيئاً بل حمل دفتراً صغيراً وكتب عليه وصفة جديدة.
خرجت من عنده وتوجهت للصيدلية على الفور.
....

قال مدير التحرير بأنهم لن يستطيعوا نشر هذه الأخبار بلا أدلة وإلا ستتورط الصحيفة في مسؤولية قانونية. لكنه أضاف بابتسامة خبيثة:
- إلا إن كانت المعلومة مستقاة من جهة أخرى.
قلت:
- لن يستطيع مواجهتنا أمام القضاء فهو يعلم أن أعداءه يتربصون به ويتحينون الفرص..
قال:
- لسنا صحيفة صفراء..
ثم ضغط على الزر.
ورأيتها تفتح الباب وتدخل إلى المكتب. ليست هي لكنه نفس فستانها الأبيض. قلت بصوت متوتر:
- اين وجدتِّ هذا الفستان.
حدقتني السكرتيرة باستغراب وأجابتني بسؤال:
- لماذا؟
تمالكت نفسي بسرهة وأجبت:
- إنه جميل.
قالت:
- نظراتك لا توحي بذلك..
ثم قالت وهي تغادر:
- فستان عادي من السوق.
....
كانت الأقراص زرقاء، زرقاء صغيرة لامعة، تشبه زرار معطفها. معطف المطر الأسود. لقد سرنا في ربيع تتناثر من أعلى سمائه حبات المطر الدافئة كنجوم قزمة شفافة. سرنا طويلاً. طويلاً بحيث انقضى ربيع كامل.
....

كانت لديها إلتفاتة غريبة، تلتفت بكل رأسها الصغير، تحركه بسرعة فيتطاير شعرها إلى الجانب المعاكس ثم تعود فتعدل رأسها بسرعة أيضاً فيستقر العالم في عدسات عينيها.
يهمس الطبيب بحذر:
- كل شيء يأخذ وقته.
- منذ عدت وكل شيء يسير من سيئ لأسوأ.. حتى هذه الأقراص لم تفعل شيئاً..
قلت بغضب.
قال:
- هل أنت مؤمن؟..
ونصحني بزيارة رجل دين.
....

اتكأت على الجدار وأخذت أدخن وأنا أسمعهم يتعبدون. كنت متردداً. هل أنا مؤمن؟
لم أسأل نفسي هذا السؤال أبداً. لم يكن مهما بالنسبة لي؛ إذ أن الحياة تمضي كما هي دائماً، كان كل مشهد مجرد جزء من مسرحيتها ركيكة اللغة.
وشعرت بيد تجذبني من قميصي. كان صبياً مستدير الوجه. قال:
- يقول لك أدخل..
فدخلت ولم ينظر إلى وجهي بل ظل جالساً وحوله حوارييه..تراجعت بسرعة ثم وليت فراراً..
كان وجهه ووجوه كل حوارييه ليس سوى وجهها..
....

الظلام يحيط بي، بالجدران، بالمقاعد والأسرة والطاولة وحتى بالقطة المرقطة التي أغمضت عينيها وجسدها ممدد تحت الثلاجة.
لم يكن ربيعاً أبداً.. لم تكن ثورة..
نصبت ظهري بسرعة وعيناي تلمعان..قفزت من السرير وتناولت قلم الحبر والدفتر الصغير.
وقررت كتابة كل ما حدث.. كل ما حدث..كل..ما حدث..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى