يعقوب الشارونى - التمرد والدعوة إلى التغيير فى قصص يوسف الشارونى..

منذ خمسة عشر عامًا ، عندما كنا نحتفل ببلوغ أخى الأكبر يوسف الشارونى الخامسة والسبعين ، قلت كلمة بعنوان « يوسف الشارونى بين التناغم والتمرد « ، ذكرت فيها أن « اللافت للنظر أنه ، مع هذا التناغم الذى يقوم عليه عدد كبير من قصص يوسف الشارونى ، فإن هذا هو الشكل الذى اختاره ليعبر من خلاله فى معظم قصصه عن التمرد « .

وذكرت أن « روح التمرد هذه تسفر عن نفسها بوضوح فى شخصيات وموضوعات قصصه ... التمرد كنوع من الاحتجاج على ما يحيط الإنسان من ضغوط وأوضاع وتحديات ... إن معظم شخصيات يوسف الشارونى .. تتمرد على الواقع الذى تعيشه ، وتسعى إلى تغييره « .



كما أكدتُ على أننا : « نجد أنفسنا أمام أعمال فنية توحى بجوانب إيجابية ، تعطى الأمل فى التغيير وتحث عليه .. إنها احتجاج على الواقع ، قد يفقد فيه البطل الحب أو الحياة أو العقل ، لكن قصص يوسف الشارونى ، من خلال ذلك كله ، وبما يختار الكاتب من ألفاظ وعبارات وصياغة ، تؤكد دائمًا ، من خلال الفن ، أنه فى قدرة الإنسان أن يغير دائمًا هذا الواقع إلى الأفضل « .

وأضفت : « لقد وجدتُ دائمًا أنه ، مع البناء الفنى المحكم لمعظم قصص يوسف الشارونى ، فإنه يوجد خلف كل قصة شىء يريد أن يقوله ، وأوضح هذه الأشياء أنه فى قدرة الإنسان أن يغير الأوضاع التى تقيده وتكبله والتى لا يرضى عنها « .

وأوردت ، دليلاً على ما أقول ، أمثلة واضحة من قصة « مصرع عباس الحلو « وقصة « رسالة إلى امرأة « - وأضيف هنا قصة « الحذاء « أيضًا .

..................................

لكننى لاحظت أن عددًا من النقاد ، أو من تناولوا قصص الشارونى بالتعليق ، قد ركزوا معظم ملاحظاتهم على أن « الشارونى قاد وأثرى الجانب التعبيرى فى القصة « ( اقرأ شعبان يوسف - كتاب رسالة إلى امرأة - ص 172 ) .

وأفاضوا فى الحديث عن الابتكار فى المعالجة ، وقوة التأمل ، وسرد المشاعر والأحاسيس التى تدور فى نفس الإنسان ( د . ريمون فرنسيس ) .

بل يقول شعبان يوسف : إن معظم قصص الشارونى تدور فى أُطر أسرية حميمة ، ولا ترفع شعارات الظلم والعدالة الاجتماعية .. ، ثم يؤكد أن « القصة عند يوسف الشارونى ليست منطوية على هدف معين سياسيًّا أو إصلاحيًّا « .

..................................

لهذا إذا كنت تحدثت ، منذ خمسة عشر عامًا عن « التناغم « فى قصص يوسف الشارونى ، فحديثى اليوم لن يكون إلا عن « التمرد « فى حياته وقصصه . ولن يكون إلا عما يوجد خلف كل قصة من شىء يريد أن يقوله ، وعلى وجه خاص قدرة الإنسان على أن يغير الأوضاع التى لا يرضى عنها .

.................................

فى عام 1942 ، عندما كنت فى العاشرة من عمرى ، فى السنة الرابعة الابتدائية ، كان أخى يوسف قد أتم السنة الأولى من دراسته بقسم الفلسفة وعلم النفس بكلية الآداب بجامعة القاهرة .

وعند بداية العطلة الصيفية ، اتفق مع عدد من زملائه أن يذهبوا إلى مدينة التل الكبير ، لتجربة العمل فى المتاجر التى كانت تبيع كل شىء للجنود الانجليز الذين كانوا يتمركزون فى المدن الممتدة على طول قناة السويس والقريبة منها .

سافر فى الصباح .. وعند منتصف الليل ، فوجئنا ، فى بيتنا ، بطرقات عنيفة على باب البيت .. فزعنا من نومنا منزعجين ، وما إن فتحنا الباب ، حتى اندفع إلى الداخل مجموعة من الرجال ، بعضهم يرتدى البدلة وبعضهم الملابس البلدية ، ومعهم عدد من جنود الشرطة .. وانتشروا ، بغير استئذان ، فى كل أنحاء البيت .. وفجأة سأل أحدهم - اتضح فيما بعد أنه من ضباط القسم السياسى - أين المدعو يوسف اسحق ؟

وهكذا اكتشفنا ، والدى ووالدتى ونحن أخوته وأخواته الصغار ، أن كل هذا العدد الذى اقتحم بيتنا ، إنما يبحثون عن أخى الذى لم يكن قد بلغ بعد السابعة عشرة من عمره ، والذى ذهب وحده فى أول مغامرة له ليجرب عالم العمل أو الوظيفة .

لكن .. لماذا ؟

لم يحاول أحد أن يجيب عن تساؤلاتنا .

أخبره والدى أن يوسف سافر فى الصباح إلى التل الكبير ليشتغل . طلبوا عنوانه ، لكننا كنا فى انتظار أن يرسل إلينا عنوانه عندما يستقر هناك ، سألوا عن المكان المخصص فى البيت لنومه ، والمكتب الذى يراجع فوقه مواد دراسته ، فأرشدهم والدى إلى غرفته المخصصة له فى الدور الأرضى من منزلنا .

اندسست أراقبهم يقلبون فى كل شىء ، وعلى وجه خاص الكتب التى جمعها أخى فى دولاب صغير يسميه « مكتبته « .

لكن ما أثار دهشتى ، أنهم اتجهوا إلى « سلة المهملات « ، فأفرغوها فوق مكتبه ، وراحوا يقلبون فى كل قطعة ورق ممزقة فى السلة ، يقرأونها باهتمام ، ثم حفظوها معهم باهتمام !!

سألت نفسى : « هل يمكن أن يكون فى مثل هذا الورق المهمل ، سبب لكل هذا الغزو المفاجئ لبيتنا ؟! «

وعندما تجمعوا لينسحبوا تصورت أن الغزو انتهى ، لكنهم تركوا وراءهم رجل شرطة جلس على مقعد أمام مدخل بيتنا ، للقبض على يوسف إذا حدث وعاد إلى البيت !

وبعد أيام ، اختفى رجل الشرطة ، ففهمنا أن شيئًا قد حدث ! وانطلق أبى إلى أحد المحامين ، فعرف أنه تم القبض على يوسف ، وإحضاره إلى القاهرة من التل الكبير ، ثم أودعوه قسم مصر القديمة إلى أن تتم النيابة تحقيقاتها معه .

تحقيقات حول ماذا ؟ لم نصل إلى أحد ليجيب عن سؤالنا .

أخيرًا عرفنا أنه صدر قرار بحبسه تحت التحقيق فى سجن مصر بجوار القلعة ، بعد أن تم اتهامه « بالانضمام إلى جماعة تهدف إلى قلب نظام الحكم « - وذلك بعد أن اكتشفوا أنه حضر ندوة أو محاضرة قيلت فيها أشياء وصفوها بأنها « خطيرة « .

وقضى يوسف تسعة أشهر فى « قرميدان « تحت التحقيق . وسأل والدى المحامى : « ما هى العقوبات المتوقعة لمثل هذه التهمة ؟ « وعاد والدى إلى البيت مهمومًا ، فقد قال له المحامى « العقوبة قد تصل إلى الإعدام أو الاشغال الشاقة المؤبدة ! «

سألت نفسى : « هل تطارد السلطات أخى بسبب قصاصات ممزقة وجدوها فى سلة المهملات بغرفته ؟ «

وبعد هذه الشهور الطويلة ، أصدر قاضى التحقيق قراره بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضد أخى وبقية زملائه ، فليست هناك أية جماعة ، ولا اتفاق جنائى ، ولا محاولة لقلب النظام ، لكنهم طلبة دفعهم حب الاستطلاع إلى الذهاب للاستماع إلى محاضرة عن « العدل الاجتماعى « .

وعندما عاد أخى فى منتصف العام الدراسى التالى إلى الجامعة ، اكتشف أن شهور السجن جعلت منه « بطلاً « ، ينظر إليه الزملاء والزميلات كرائد فى العمل السياسى .

لقد ظنت أجهزة الأمن أنها لقنته مع زملائه درسًا عقابًا له لشغفه بأن يعرف ، وأن يتعرف على معنى « العدل الاجتماعى « .

لكننى اكتشفت أن ما تعلمه أخى يوسف كان شيئًا مختلفًا تمامًا عما قصدت إليه أجهزة الأمن !!

..................................

ففى عام 1946 ، قام اسماعيل صدقى رئيس الوزراء ، بحملة ضد الصحفيين والمفكرين والكتاب ، وذلك عندما تحركت المنظمات الشعبية تعقد المؤتمرات وترتب المظاهرات احتجاجًا على فكرة تكوين « لجنة الدفاع المشترك « بين مصر وبريطانيا . وأصدرت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة بيانًا حددوا فيه يوم 11 يوليو 1946 ( ذكرى ضرب الانجليز للأسكندرية عام 1882 ) يومًا للحداد العام وبدء الجهاد الوطنى .

وهنا كشف صدقى عن وجهه الحقيقى ، وقام فى اليوم السابق على الإضراب، باعتقال حوالى مائتين من الكتاب والصحفيين وزعماء اللجنة الوطنية ونقابات العمال والطلبة ، وأغلق كثيرًا من دور النشر والجمعيات ذات الطابع التقدمى ، مثل دار الأبحاث العلمية ولجنة نشر الثقافة الحديثة ودار القرن العشرين والجامعة الشعبية الأهلية واتحاد خريجى الجامعة وجامعة أم درمان ومؤتمر نقابات عمال القطر المصرى ونادى الشرقية ورابطة بعثات الجامعة والمعاهد ، كما أغلق نهائيًّا صحف ومجلات الفجر الجديد والجبهة وأم درمان والعراق واليراع والضمير والوفد المصرى ، وصادر لعدة أيام جرائد المصرى والكتلة ومصر الفتاة ، ومنع الاحتفال بيوم 11 يوليو .

وأطلق على هذه الحملة ( قضية المبادئ الهدامة ) ، وألصق بالمعتقلين تهمة الشيوعيين ، وكان منهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور ومحمد زكى عبد القادر وغيرهم .

وكانت هذه الحملة نقطة تحول فى أسلوب السلطة التنفيذية ، إذ جعلت تهمة ( الشيوعية ) سيفًا مصلتًا على رقاب كل الوطنيين الذين يقفون موقف المعارضة لربط مصر بعجلة الاستعمار . ( راجع أحمد حمروش : قصة ثورة 23 يوليو - الجزء الأول - صفحة 106 ) .

وأصدر صدقى بيانًا نشرته الصحف على صفحتين كاملتين ، تبريرًا لفعلته ، وتضمن البيان مقتطفات طويلة مما نشرته الصحف والمجلات التى أغلقها أو صادرها .

وفوجئنا نحن ، أخوة يوسف ، بأن البيان تضمن أكثر من عشر مقتطفات من مقالات نشرها يوسف فى عدد كبير من المجلات التى تم إغلاقها ، بعضها كان موقعًا باسمه ، وعدد كبير منها بأسماء مستعارة .

وهكذا اكتشفنا أن شهور السجن كانت مدرسة ، قرأ فيها يوسف الكثير ، وسمع الكثير ، وتأمل وفكر فى الكثير ، فواصل على مدى أربع سنوات المقاومة بالكلمة والفكرة والقصة .

وتوقعنا أن تقتحم بيتنا حملة مشابهة لحملة سنة 1942 ، لكن يبدو أن أحدًا لم يتوصل إلى صاحب الاسم الحقيقى للأسماء المستعارة للكتابات التى كانت من بين ما استندت إليه أجهزة صدقى فى المصادرة والإغلاق .

..................................

ولابد أن نسأل عن أثر هذا الوقوف على حافة الخطر عام 1946 ، بعد أربع سنوات من الخروج من السجن عام 1942 .

سنجد الإجابة فى أثر يوسف الشارونى على أحد أخوته الأصغر منه .

أخى المرحوم شكرى ، الذى توفى بأزمة قلبية عام 1970 ، بعد أن كان قد أصبح أحد كبار صناعة ملابس الأطفال فى مصر .

عندما قامت ثورة 1952 ، كان أخى شكرى معتقلاً فى معتقل الهايكستب ، لأنه تزعم مظاهرات واعتصامات موظفى وعمال إحدى الشركات الأجنبية التى كانت تعمل فى مصر ، يطالبون بتحسين أحوال العمال .

وبعد قيام الثورة بأربعة أيام ، حملت سيارات نقل كل المعتقلين إلى ميدان التحرير ، وتركتهم أحرارًا يعودون إلى بيوتهم .

..................................

هل أستطيع أن أقول أيضًا ، أن أحد أهم الآثار التى تركها يوسف الشارونى فى أخوته ، أن الناقدة الإيطالية الدكتورة ماريا ألبانو ، أستاذ الأدب العربى فى جامعة نابولى ، والمتخصصة فى دراسات أدب الأطفال فى العالم العربى ، كتبت عن يعقوب الشارونى تقول : « والفضل الكبير للشارونى فى إدخال الرواية الاجتماعية فى أدب الأطفال فى العالم العربى « . ( يراجع كتاب : القصة المصرية الحديثة للأطفال - تأليف د . ماريا ألبانو - الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - صفحة 27 ) .

..................................

إن الأدب العظيم هو القادر ، بقوة الفن وحده - وليس بالهتافات - أن يغير ، وأن يحمل الناس على أن يفكروا على نحو مختلف ، لكى يتغيروا ، وأن يصبحوا قادرين على التغيير .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى