وليد خيرى - حارس حديقة المحبين

خالى.. خالى الذى كان «يحب السينما زى عينيه» كما تقول أمى، لم يكن يشاهد فيلمًا واحدًا على بعضه، لأنه كان مشغولًا بقبول تقبيل الفتيات له فى السينما، لأنه جدع ولا يكسر بخاطر واحدة، وكانت الواحدة منهن تستغل مشاهد التقبيل فى السينما على الشاشة الكبيرة فى أن تفعل مثلما يفعل أبطال الفيلم، وربما لو كان خالى يعيش إلى هذه اللحظة لهجر ارتياد السينما التى كفت عن مشاهد ممارسة الحب والقبلات فى الأفلام فيما عرف بمرحلة السينما النظيفة، بالإضافة إلى سبب آخر وهو أننى أصبحت أكلف خالى ثمن تذكرة كاملة، بعد أن أصبح طولى حاجزًا يمنعنى من الدخول المجانى بصحبته.
خالى كان يكره أفلام الحرب وأفلام الأكشن، ويقول إنه لا يحبها، ولا أفهم ساعتها أيهما يعنى الحرب أم الأكشن، لكن فيما بعد سأدرك أنه كان لا يحب الحرب لأنه سيموت فيها، هو فقط كان يحب الأفلام الرومانسية، وأتذكر حين دخلت فيلم «تيتانيك» بعد سنوات من مصرع خالى فى ساحة الحرب، أننى فكرت أنه لو كان موجودًا على قيد الحياة فسوف يحب هذا الفيلم جدًا، وسيدخله مرات عديدة بعدد رفيقاته، وستناله قبلات كالمطر من صاحبته فى السينما، وأعرف أن عينيه ستتلألآن بالدموع مع مشاهد غرق السفينة تيتانيك، وأن شعره الناعم سوف ينسدل على جبينه بينما يبكى فتلمُّه له رفيقته، وتعيده إلى الوراء وهى تطبع قبلة حنونة على شفاهه الموردة، ساعتها أتخيل نفسى صانع الفيلم وأقوم بكتابة إهداء يظهر على الشاشة يشاهده ملايين الناس فى كل الدنيا، وسيكون الإهداء رقيقًا ومكتوبًا على الشاشة قبل تترات الفيلم: إلى خالى، كان جدع زى الورد، أو أكتب: إلى خالى.. يا لك من شنقيط، تلك الجملة التى كان يقولها عبدالمنعم إبراهيم فى فيلم إسماعيل يس، ويقولها لى خالى حين يلاحظ أنى أراقب الفتيات وهن يقبلنه، لكن لأنى لست من صناع الأفلام - فقط أنا من مشاهديها - لذلك سوف أكتفى بالبكاء حين أتذكره أثناء الفرجة على الفيلم، وذلك حين رأيت شابًا يشبهه إلى حد بعيد، وكانت هناك فتاة تشبه فتيات خالى، تقبله رغم أن شفاهه ليست وردية ولا أسنانه بيضاء مثل خالى.
ساعتها أعرف أن الجدعان كثر، لكن لا أحد جدع زى الورد مثل خالى، الذى كنت أراه أحلى من كل أبطال الأفلام التى شاهدتها برفقته، وأعرف أنه كان سيُختار بطلًا لموجة أفلام الشباب التى ظهرت بعد رحيله، وأنه بالتأكيد كان سيصبح نجم الشباك الأول، وأننى سوف أكتب قصة فيلم خصيصًا له، حيث يكون بطل الفيلم جذابًا وسيمًا يتهافت عليه النساء والرجال، النساء يشعرن تجاهه بالجاذبية، والرجال يشعرون نحوه بالغيرة، وربما الإعجاب الخفى أيضًا، ذلك الإعجاب الذى تكنُّه بعض صدور الرجال تجاه رجالٍ آخرين، لكنه يظل داخل الصدور فقط.
الجدع زى الورد الذى قادته بلاده إلى ساحة حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، قادته ويا للمفارقة إلى ساحة حرب حقيقية مع أنه كان لا يحب أفلام الحرب فى السينما، وكان يغمض عينيه وأذنيه مع صوت كل طلقة فشنك تضرب فى أى فيلم يشاهده.
...
حجرة خالى حيطانها كانت جميلة وملونة، ومليئة بهدايا مجلة الكواكب، التى كان يحرص على شراء أعدادها القديمة من سور الأزبكية، لذلك ليس غريبًا أن يرى خالى فى منامه؛ مديحة كامل ونجلاء فتحى وميرفت أمين، وإن كان فى بعض تلك المنامات يطارده رشدى أباظة لخطفه الجميلات منه، لكنها مطاردة لذيذة، كما يصفها خالى الذى كان يحكى لى أحلامه الفنية، ويسألنى مداعبًا: تعرف تفسير الحلم ده إيه؟
فأخبره على الفور وبتلقائية طفولية: هتتجوز رشدى أباظة!
فيغرق فى الضحك ويسألنى: ليه؟
فأقول له: عشان هوَّ بيجرى وراك، زى البنات اللى بتجرى وراك وعايزة تتجوزك.
ويسألنى: وعرفت منين؟
فأخبره أن أمى قالت: البنات بتجرى ورا خالك عشان عاوزه تتجوزه.
خالى الذى كان يلعن أباه، لأنه أنجب أخًا له على كبر، أضحى سببًا لالتحاقه بالجيش أو بالأحرى كان سببًا فى التحاقه بالسماء، هل قصد أبوه هذا؟ هل أراد جدِّى لابنه الوحيد أن يسترجل فأنجب له أخًا وهو فى أرذل العمر؟ أم أن هذا كان مجرد نشاط جنسى متأخر يشبه مكافأة نهاية الخدمة أراد به جدى أن يثبت أن ذكره لا يزال فى الخدمة، ويعمل رغم أن السكر هدَّه، وحتى يخرس الألسنة تزوج تلك السيدة التى تصغره بثلاثين عامًا، وأنجب منها الولد المفعوص بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيبًا، الولد المفعوص الذى منح خالى بطاقة التأهل للتجنيد؟.
هل تحقق حلم جدى فى أن يجعل خالى يسترجل؟ رغم رحيل جدى بعد أن التحق خالى بالتجنيد بأيام قلائل، فإننى رأيت ابتسامة الانتصار على وجه جدى الميت، وقد رأى ابنه الكبير حالقًا شعره أخيرًا على نمرة واحد.
صحبة خالى أيام السينما جعلتنى أتعلم منه أشياء كثيرة، بالطبع غير تقبيل الفتيات، جعلتنى رقيقًا مثله، أنهْنه بصوت خافت من المشاهد الرومانسية فى الأفلام، وأبكى تأثرًا حين أرى شجار النهايات فى قصة حب فى الحديقة.
كنت أرى الحديقة مثل شاشة السينما، أتابع عليها مشاهد الحب بشغف، لكن فى الحديقة دورى أصبح أكبر من المشاهدة، كنت بشكل أو بآخر متداخلًا فى قصص العشاق داخل الحديقة، أسهم ولو بجزء ضئيل فيها، حتى لو كانت هذه المساهمة غير مباشرة، تأتى عن طريق التلصص.
موضوعات قد تعجبك

وليد خيرى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى