أحمد التوفيق - مآل جارات أبي موسى.. قصة قصيرة

بعد وفاة أبي موسى، استمر الغيث في النزول سبعة أيام، وفي كل ليلة كان الجابي يضرب الأخماس في الأسداس، ويحسب الجبايات على الثمار الآتية. ومات شريف المدينة الذي كان يحمي شامة، وكان أوصى لها بشيء من المال، لكنها لم تصل إليه بعد ذل ضعفه في الرشاوي لدى الحكام والعدول. وما لبث العصاب أن أخرجوها من دار الشريف لبيعها. وتقدمت بطلب لكراء بيت أبي موسى في الفندق، فرفض المحتسب الطلب، لأن الريع موقوف على البله الكمل من الناس لا غير، وهي وإن كانت في نظرهم بلهاء مخروقة فليس من البله الكمل، فلا يجوز أن يعترف لها بالكمال في أي شيء حتى لا تستحق هذا البيت، وحتى لا تستحق الجنة التي وعد بها المعذورون. وظهرت فتوى تقول بوجوب سجنها لأنها كادت أن تعصف بالأمن والنظام العام في المدينة
وأنكر الكثيرون أن تكون بركة أبي موسى هي التي أنزلت الغيث، لأن الغيث ينزل متى شاء بدون تدخل أحد، وقال آخرون أن ميعاد الاستجابة التي وقعت بنزول المطر تأخر عن موعد الدعاء، فيكون المستجاب له في الغالب ، أحد الأئمة السابقين وليس أبا موسى. ورجعت هيف إلى أديانها من النكران، وارتدت المدينة.
أما الجارات الأخريات فقد فسد ما بينهن وبين الذين أشفقوا عليهن وتزوجنهن من الرجال، لأن الأزواج، بدون استثناء، لم يطيقوا القيل والقال حولهم في المدينة، ولأنهم، بدون استثناء كانوا يذكرون النساء بماضيهن في الفندق.
وبعد إلقاء النساء، جارات أبي موسى، للبطالة من جديد، قام بتشغيلهن في معمل للزرابي صاحب معمل كان قد فتح حديثا ورشة ليقوم بالدعاية لنفسه لترشيح انتخابي يطمح إلى الفوز فيه. وبعد نجاح صاحب المعمل في مسعاه بتأييد الناس أغلق ورشته. وعادت النسوة إلى البطالة، فاضطرت الجارات إلى الاشتغال خادمات عند القناصل الأجانب والدخول في حمايتهم. وكن أول من شوهد من النساء في العد وتين الرباط وسلا يروح ويجيء بدون خفير ولا مخافة إذاية من أحد. لأن الرجال في البلد لم يغفروا لهن أخطاء الحياة، فعلن ذلك لأن الرجال يحاسبون الملائكة على الخطايا التي يمكن أن يرتكبنها لو قدر الله أن تسقط عن الملائكة العصمة. وفعلن ذلك لأنهن ضجرن بالسياسة وأردن إثبات حقهن في العيش وفي الاحترام المفروض على الآخرين.
أما شامة فقد تقدمت بطلب للحصول على تأشيرة الخروج من البلد، لأنها كانت تأمل أن تهاجر، ولأنها تحسب لو هاجرت فمن المحتمل أن تلتقي بزوجها الاسباني الجنسية، علي سانشو الذي هرب منها خجلا من الخيانة، فيتأكد له، إن رآها، أنها غفرت له خطيئته فقد رأت في الحلم أنه على قيد الحياة، وأن علته قد برأت ببركة أبي موسى ، لأن شامة لم تعتقد ببركة لنفسها يوما قط، وإنما صدقت ما رأت من كرامات أبى موسى، فهي منذ زمن غير قريب لم تعد تفرق بين ما تراه في الحلم وما تراه في اليقظة، لأن الأمر لديها متكاملان، شدة هنا وفرج هناك.
لكن قنصل بلاد زوجها علي، بالرغم من التدخلات، رفض التأشيرة لشامة، وتعلل بكون عقد الزواج الذي بينها وبين علي لا تعترف به حكومته، وتعلل بكون اسم علي هذا مسجلا عند حكومته في لوائح الإرهابيين منذ أن اعتنق الإسلام.
وبكت شامة وبكت ثم بكت، وقررت أن تشتغل بتطريز الملابس والمنادل حتى تجمع من المال ما تصنع به فلكا وتشتري به عبدا جدافا يقطع بها البحر خفية
إلى بلاد علي في الضفة الأخرى من المضيق، لعلها تلقاه، فهي في شوق كبير إليه.
وبينما كانت تعالج ذلك الشوق وتكابده، رأت في حلمها ذات ليلة أن أبا موسى قد أقبل بلباسه الذي خرج فيه إلى الصلاة، تتقدمه أنوار وتتبعه أسراب من الحمام اقبل حتى وقف عليها فقال لها :ما لقومك ينكرون الآيات بعد ثبوتها، سأعيد عليهم القحط من جديد، وسأدخل الكلاب إلى مدينتهم من أطراف البوادي، وسأكرم تلك الكلاب بنهش لحمهم وعظامهم، لا يشاركهم فيها إلا الجرذان، وأنت أراك تريدين عليا يا قرة العين،علي مات منذ وافى الخجل الأجل. تعالي يا قرة العين إلى بلدي، فهو وحده يصلح لك وطنا، وقبل ذلك اشربي هذا البحر فاشربيه ليفتر عنك الشوق إلى علي. ورأت شامة نفسها في الحلم تشرب البحر ثم قال لها تجرعي السم الذي في الصدفة الملقاة على القعر، لتقضي وطرك من شهوة الولد الذي كنت ستثمرين معه. فتجرعت شامة في حلمها السم الذي في الصدفة، وجدت نفسها خالية من غريزة الولد. فقال لها: أما الآن ،فمالك إلا الصلوات الخمس وانتظار الموت.
وظنت أنها طرحت بالفعل كل الشهوات، إلا شهوة واحدة هي شهوة الكرامة أرادت أن تركب الماء وتقطع إلى الضفة الأخرى نعرف منها أبو موسى ذلك وقال لها: تقضى لك هذه أيضا. فأخذ بيدها وبين يده ويدها طرف من سلهامه. لا خوفا من شهوة اللمس، فهو مند سكن جانب البحر لا يلمس في الكون إلا الحقيقة ولو كانت الحقيقة يد امرأة ، والحقيقة لا تطرب ولا تثير الشهوات، وهي التي كان إسكارها من قبل أن يخلق الكرم. إنما تجنب أبو موسى اللمس هذه المرة خوفا من محتسب الظاهر، وأبو موسى يقر بأن الظاهر حق أيضا في عرف المتأدبين مع الحقيقة. أخد أبو موسى بيد شامة، وسار بها إلى ضفة الوادي الذي بين الرباط وسلا، فقطعه تحت ستار الظلام مشيا على الماء وقطعت معه كما قطع، وأوقفها في الضفة الأخرى على مجمع متحلق من الناس حلقة من الرجال والنساء، كانوا في ناديهم مجتمعين، اجتمعوا على رجل من الدراويش القصاصين، يحكي لهم بلغة العرب قصة شامة قبل وفاة أبي موسى. فأخد العجب شامة ،أما أبو موسى فكان يعرف أنه يوقفها على تلك الحلقة. وجلست تستمع، تضحك تارة وتبكي تارة أخرى،عجبت شامة وقالت:
- يحكون أسرارنا ولم يظهروا عليها
فقال أبو موسى:
- ذلك دأبهم، يقصون الفضائح كل يوم في أطباق رخوة يسمونها الجرائد، ويطل عليهم المعلنون عنا بأعناقهم من نوافذ الكلام، يسمونها التلافيز.
فقالت شامة:
- أتراهم يفهمون كل ملامح الحاكي ومغامزه؟
فقال أبو موسى:
- لا أظن كلهم يفهمونها كلها، ومن عوائق الفهم عندهم الأخذ بمذهب التجسيم في الأفكار فالاسم عندهم محجور بأظرفة الزمان والمكان، ومن ذلك أنهم ظنوا أبا موسى رجلا بعينه. وبحثوا حتى وجدوا لي سميا في الرجل الصالح الذي قبره عند بساتين شمالي أسوار سلا، فقالوا هذا هو المقصود. وطنوا أيضا أن سلا هي تلك البلدة التي على قارعة نهر الجهاد،عند مصبه في البحر.أليست الأرض كلها أرض من سلا عن الجد وخاس في كثبان الأوهام؟ سلخوا الاسم من سلطانه ليحشوه بتبن التاريخ.
فقالت شامة:
- انظر إلى تلك المرأة التي تأخذ بسيجار مثل الرجال البدن الضخام، ولا تأبه بأحد.
فقال أبو موسى:
أنها جارتنا مماس، نزلت من دارها بشارع القناصل لتسمع قصتك . فهي تشتغل عند أحد القناصل وتتمتع بحمايته، وكان هذا القنصل قد تدخل لدى حاكم المدينة الجائر جرمون وأخرج مماس وولدها من السجن باسم حقوق الإنسان، واتخذها خادمة وخليلة، واتخذ ولدها نذلا وسائقا لعربته، والحقيقة أن القنصل كان شريكا لجرمون في التجارة.
قالت شامة:
- وما جاء بها هذا الزمان؟
قال أبو موسى:
عندما اجتزنا النهر في الاتجاه المعاكس لسفر الجورائي مشاور السلطان دخلنا في أرجوحة الزمان، نمضي إلى الأمام قرونا ونتأخر أخرى، وقد نلتقي بأناس من مختلف العصور.
تابعت شامة الحكي في الحلقة مشدودة بخيوطه الرفيعة وأعجبتها مظاهر المتحلقين أيما إعجاب فلما رآها أبو موسى انخرطت في حزبهم واستبدت بها شهواتهم بين حكي وشعر وسماع، أخرج لها فانوسا يكشف لشامة عن قلوب الناس في الحلقة من وراء أجسام كثيفة أو لطيفة، فضحكت تارة لما رأت وبكت أخرى لما أنفضح لها واكتشف . تبسم أبو موسى وقال لشامة:
ها أنا أنصرف عنك فتمتعي إلى حين قرة العين، أنت غرة، ها أنت أتركك في أهل الحطام .ما تزال فيك شهوة الحكي والأدب، مازال يستخفك الطرب. ما تزال فيك عقدة السبب. علة تفضي إلى علة. اطردي العلة ينتف عنك السراب. عجبا ما زلت تعجبين، غلة، انقعيها بينهم، لو تحررت منها تدركين، انقعيها بينهم، ثم عودي في طهر الوليد، فبعد يوم أو أيام تأتيك تذكرة الإياب...


.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن موقع أمواج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى