ست رسائل من يحيي حقي الى عبده حسن الزيات

عزيزى الأخ الصادق عبده حسن الزيات
تأخرت عليك وما أنا غائب عنك ولا أنت غائب عنى، إنما دخلت فى دوامة سخيفة شغلتنى عنك. لو رأيتنى وأنا أقرأ خطاباتك كلمة. كلمة وأتلهف عليها وأحزن أشد الحزن إذا تأخرت عليّ، أصبحت «ياسى» عبده جزءاً من حياتى. وأن يحدث هذا ونحن لم نتلاق هو أعجب العجب. سأرسل لك فى البريد القادم نسخة من كتاب لى جديد، كنت لا أحبه لأننى لم أفعل إلا أن جمعت مقالات لى منذ 1927 وضممتها بين جلدتين. أحسست بأننى تُربى معين لحراسة قبوره. ولكن هذه هى أنانية النفس. أرجو أن تكون قد انتبهت لكلمات ثلاث أو أربع وردت فى قصة لى اسمها «مرآة بغير زجاج» هى «عجز يدى عن الامتلاك».
كلمات فظيعة لأنها تشخص داءً فظيعاً يفترسنى، أحس به كل الإحساس، وأحس بكل عوارضه.. فكيف لمن يقول هذا القول أن يفعل هذا الفعل. شرحت ذلك فى مقدمة الكتاب ولن يفهمه أحد ممن لم يقرأوا الكلمات الفظيعة. أتعلم أننى لا أمسك شيئا إلا وقع منى؟ بل لمست مرة دولاباً ضخماً مجرد لمس فانهدم، وأخيراً وقعت منى زجاجة صغيرة ملأى بالماء فى الحوض الرخامى المتين الصلب، فانشرخ.. سأحدثك عن هذا المرض وصلته بمذهب الفوضويين.. والإباحيين.. أجارك الله. كيف ومتى نًصنع؟ أفى هذه الدنيا أم من قبل، من أكبر السخافات هذا التفريق بين الجسد والروح. إن كليهما مظهر لكائن واحد.. أين هو؟ هذا شىء مخيف.
أخوك/ يحيى حقى.

***

الأحد
أخى العزيز الأستاذ الزيات
أولاً رمضان كريم، كل سنة وانت طيب، نحن نلتمس فى هذا الشهر أكثر من غيره راحة للنفس ووثوقاً فى رحمة الله.
توالت عليّ رسائلك، لا أدرى كيف أشكرك على عنايتك بى، أحس أنك تشجعنى عن عمد، كأنما لحظت من رسائلى أننى فى حاجة إلى هذا التشجيع. ثم انظر إلى خسة طبعى، كنت إذا تأخرت أنت عن الرد أغضب وأعتب عليك فى سرى، فها أنذا أقبل أن أكون مديناً مزمناً.. ولكن لم يصرفنى عنك إلا مشاغل تافهة جداً، والليلة أكتب إليك وأنا أستمع عن بُعد قليل لصوت المقرئ فى صوان المرحوم «إسماعيل مظهر» عرفته معرفة متقطعة، رحمه الله، إنه كان من المجاهدين وله فضل كبير على المكتبة العربية.. لا أدرى لماذا إذا ذكرته ذكرت أيضا محمد لطفى جمعة.. قال لى أحمد عطية الله، صاحب الرحلات، حين لقينى اليوم وعلم بوفاة إسماعيل مظهر: إنه كان فى أواخر أيامه يحس أن القطار قد فاته، وأنه كان أحق بنصيب أكبر مما ظفر به. جميع ملاحظاتك على الرأس والعين، فبالله لا تبخل بها عليّ. إننى أدرس أسلوبك ونحوك وصرفك فى خطاباتك، وفى المقال الذى أرسلته لى عن قضية رابعة، وعلى فكرة: رأيتك تقول للقارئ إن «قنديل أم هاشم» مستمدة من «تلميذ الشيطان»، وقد وقفت عند هذا القول حائراً، فأنا قرأت بعض مسرحيات «شو» ونسيتها طبعاً، ولا أذكر شيئاً عن «تلميذ الشيطان». فخبرنى ما هى العلاقة؟ وإنى مشتاق الآن لقراءة «تلميذ الشيطان» لأعرف من أين جئت بهذا الرأى. حكاية كبش نطاح، لا نطاح، فهذه غلطة مطبعية، لأنى أحفظ مطلع هذه القصيدة وبعض أبياتها لرنينها الحزين الصادق المنبعث من القلب. لعلك لا تعلم أن الأستاذ فتحى رضوان يتكرم عليّ بمودته وصداقته، وقد ذكرتك عنده فوجدته يعرفك حق المعرفة ويثنى عليك أكبر الثناء. كنت أحب أن تكون قد قرأت رثائى لأحمد خيرى سعيد، فإنك لابد أيضاً عرفته وقت اشتغاله بالصحافة فى «الهلال». فكرت أن أجمع مقالاتى غير المرتبطة بمناسبة زمنية فى كتاب لعله يصدر قريباً إن سهل المولى وبعنوان «فكرة فابتسامة» على حد قول «شوقى» نظرة فسلام. أنت لا تعلم كم استخسر أنك لا تجود علينا فى مجلاتنا بفيض قلمك، أنت فى الطليعة والقمة، فحرام عليك أن تحرم الناس من فضلك.إن كل كلمة منك ملكة متوجة جالسة على عرشها. ها أنذا أهجم عليك وأسألك هذا السؤال الذى يدور فى رأسى منذ تراسلنا! ما السبب؟
إننى الآن أجرى لتسوية معاشى، تصور أنهم يطالبوننى بخلو طرف من وزارة الخارجية، وقد تركتها منذ 9 سنوات. وبخلو طرف من وزارة الداخلية وقد تركتها منذ 33 سنة. ومن وزارة التجارة وقد تركتها منذ 8 سنوات. واتضح أن علىّ ديوناً كنت أجهلها، وإنما هى نتيجة غلط فى كشوف الحسابات. أخى الزيات: إننى الآن أترقب خبراً علقت عليه آمالى فى وجه الله سبحانه، ومع الأمل قلق شديد، فتجدنى هائج الأعصاب، وأمس ذهبت للإذاعة لألقى كلمة فطالت قليلاً فحذفوا بعضها، فخرج الكلام مضطرباً، وكنت متلعثماً أكثر من عادتى. وخرجت وأنا أكلم نفسى فى الطريق. ما أعجب هذا الأمل الذى يراودنى بأن ألقاك قريباً، لأشكرك حقاً من صميم قلبى على عنايتك الأخوية بى.
المخلص يحيى حقى.

***

الأربعاء 27/12
إلى عزيزى الأستاذ عبده حسن الزيات
طال انقطاعى عنك، ولا أقول انقطاعك عنى، تصور أن تحوّل حياتى من الذهاب إلى دار الكتب إلى البقاء فى البيت، جعل من العسير عليّ أن أضع جواباً فى صندوق بريد، فأنا أسكن وبينى وبين أقرب مكتب مسيرة نصف ساعةّ ولكنى أذكرك دائماً، ولا أنسى لا على وجه التحديد كم فات من الوقت على آخر خطاب لك، لأن المدة فى ذهنى دائماً كبيرة جداً. والعجيب أن بيننا «نقداً» كثيراً نتعامل به، وأنا وإن وافيتك ببعض أخبارى فإنك تبخل بها عليّ.. ولست عاتباً ولا لائماً، يصلنى أحيانا شيء من «نقد» آخر عن غلطات لغوية فأشكر راسلها من صميم قلبى وأخجل من نفسى.
فأنت ترى أن صلتنا روحية صرفة، وأنها غير محتاجة لأنباء وتفاصيل وحوادث. على أن هذه الصلة تُمتحن على أيدينا امتحاناً عسيراً، والظاهر أن الحياة العملية المادية لا تحتملها وتخنقها، ولكن ثق أننى لن أفلس. السنة الميلادية ليست من تقويمنا ومع ذلك أصبحنا من أتباعها، فذهنى متجه إليك فى ختام هذا العام الذى يولى، وأعجب العجب أننى لا أعرف شخصك ولا أخلالك، ومع ذلك ففى قلبى إحساس شديد بك، من أجل هذا يتجه ذهنى إليك، وكله دعاء بأن يمنحك الله السعادة والصحة والهناء. كلمات بلاها الاستعمال، لكنها تصحو مع الصدق. كنت فى لجنة اتحاد الأدباء التى رشحت الأستاذ الزيات لجائزة الدولة، ولا أعرف مبلغ قرابتك له
وقلت للجنة إننى أرجو أن يمد الله فى عمر محمود تيمور للعام القادم، فإنى أحب ألا يفوته هذا التكريم.. وذكرتهم بموقف أبيه من إهداء مكتبته للأمة، وجهاد أسرته كلها لا جهاده وحده من أجل فن رفيع غير منحط. أخوك يحيى حقى.

***

عزيزى وصديقى الأستاذ عبده حسن الزيات
كل سنة وانت طيب، كل عام وأنتم بخير، عقبال عرفات إن شاء الله، هيهات لمرادفات العربية أن تحقق صدق هذه التهنئة التى أبعث بها إليك من صميم قلبى. ليس لى بخت معك، هذا هو الظاهر، وإذا كانت مسألة عرضى عليك مساعدة المجلة هى التى أخفتك فليتنى لم أكتب ما كتبت، إن كنت أخطأت عفواً. مازلت أنتظر رسائلك وآراءك ونصحك أقبل كل هذا شاكراً وعلى الرأس والعين. المخلص يحيى حقى، فهمت أنك جئت مصر ولم تتكرم برؤيتى.

***

سيدى وصديقى الذى لم أره بعد،
إنى أعرف كل إنسان أنا مدين له بمبلغ من المال ولكنى أتغافل عنه، ولكنى لا أعرف دينا هيهات أن أغفل عنه مثل هذا الدين الذى طوقت به عنقى، وأنا به سعيد ممتن، لا لأنك ترشدنى فأشكرك، بل لأنك تكتب إليّ ولا تنسانى، كدت من فرط أنانيتى أسرّ إليك بأرق بالليل أحياناً حين أجد أننى أنتفع بهذا الأرق، إننى أسقط عنى فى حديثى معك الحياء، فهل أسقطت أنت التكليف؟ فقد حزنت أشد الحزن لقولك لى «ومن جهة أخرى لا أحب أن تثقل المنن كتفى» ولو قلت كتفك لكان أهون. وأتوهم أنك تريد خدمة لى قبل أن تريد مصلحة للمجلة. أفيبلغ ظنك بى هذا المبلغ، أأكون أنا صاحب منة عليك؟ ما هذا الكلام؟ فى أى منزلة واطئة تنزلنى؟ إنى مصاب بداء خبيث هو عدم الثقة بالنفس، وأفهم أن هذا الطبع قد يفسره الناس بأنه تواضع كاذب، فأمقت نفسى مرتين.. من الداء والتفسير الموهوم. من أجل هذا أكره لمن أحبّ أن يكون حاله مثل حالى، إننا نتلمس فى الآخرين المثل الأعلى الذى نفتقده فى أنفسنا، وإذا رأيناهم مثلنا أصابنا حزن ثالث.. لم أكن أتوقع منك هذا الكلام فأناشدك أن تعلم أننى لا ألف معك ولا أدور، ولا أتملقك ولا أكذب عليك ولا أتفاصح بكلام تَجُب فصاحته صدقه، أناشدك أن تسقط التكليف وتترك مثلى، النفس على سجيتها، العمر قصير، فلماذا وجع الدماغ فى الأباطيل، وإذا تزعزعت أنا فاثبت أنت. إعلم رد هذا أنباء لا أكرر أن لم يجل فى خاطرى قط هذا المعنى الذى فهمته، بل لم أتوقع أن تفهمه وإلا لما كتبته ولتذهب المجلة فى ستين داهية. ذهبت أمس فى زيارة غير رسمية «للمجلة» فوجدت مواد العدد القادم كلها مقالات نظرية جامعية مثل «الأخلاق بين المعيرية وبين شىء آخر لا أدريه، «لوكلوى» ومنشأ الهجاء فى روما القديمة، الرومانسية فى فرنسا إلخ.. إلخ..». أظلم الجو فى عينى وألححت على حذف كلمة «المعيرية» من عنوان المقال، إنها تنفر أمة بأكملها لا قارئا غلبانا مثل حال قارئنا،.. عرفت أن العبء باهظ، ومهمتى صعبة هى أنى مصاب بإعياء روحى شديد، الود ودى أن أعيش فى بلطجة مستمرة.
أريد مقالات تنفعنا، متصلة بحياتنا وأدبنا، وحبذا لو دارت حول شخص لا فكرة، أى نصل إلى الفكرة من خلال مثل يقدمه شخص، فهذه المقالات أحبها وأقرأها بسهولة، وأنا واثق أن الجيل الحاضر شديد اللهفة على قراءة أحوال الجيل الذى سبقه، جيلك وجيلى، وإن كنت أشيخ منك، وأنت قد خالطت الكثيرين، تعرف طه عن قرب كما يبدو من رسالتك، وشهدت التيارات الأدبية فى ذلك العهد، وتبينت لك معالمها ودلالاتها، وشهدت أيضاً تطوراتها التالية، فهل إلى أحسن سيرنا أم إلى أسوأ ولماذا.

***

قدمت استقالتى وخلوت إلى نفسى، فأنت ترى أننى مع الخلوة أصبح أشد حاجة إلى صديق مثلك. لم أشتغل فى مرسى مطروح، وتستطيع أن تقول أيضاً إننى لم أنقطع عن الشغل، إذا كانت الهواجس أيضاً تعد من الشغل. وقد خبرت نفسى (وقد نمت 15 يوما تحت خيمة) كيف يكون من العسير لمن يعيش فى الصحراء أن يمسك بورقة وقلم ليكتب شيئاً، فإن الرمل والريح والشمس أعداء لمن يكتب.. أنا الآن أصبحت أكثر قدرة على فهم: الشعر الجاهلى وظروف قائليه، وكان من أثر الهواجس أننى كدت أفرغ أغلب وقتى للترجمة، ومع ذلك فإنى أرجو وقد قلت لى إنك من قراء «المساء» أن تكون قد اطلعت على يومياتى فى «المساء»، وحينما زرتهم بعد عودتى طلبوا منى أن أكتب كل أسبوع بدلا من كل أسبوعين، فترددت فى أول الأمر «كعادتى» لأننى ألاقى فى كتابة هذه اليوميات مشقة ذهنية وعصبية شديدة، ثم قبلت، لا لشىء إلا للجهاد! وأنا فى أشد الحاجة إلى أن أعرف رأيك فى هذه اليوميات وما ملاحظاتك عليها. والواقع أننى غير راض عن هذه المراسلات بيننا ما لم أصل إلى علم أكثر عنك وعن أحوالك وها آنذا أفتح لك دائما قلبى، لا تزال صورتك عندى مبهمة كإنسان.. أما كأديب فلا. سأسافر باكراً إلى الإسكندرية لأزور ابنتى نُهى (17 سنة) التى تقضى الصيف مع جدتها لأمها، ثم أعود بعد 4 أيام، وسأنظر إلى صندوق البريد بشغف لأرى خطابك. استعد لتسلم نسخة من كتاب سيصدر لى قريباً اسمه «خطوات فى النقد» لا تدرى أيضاً كم يسبب لى هذا الكتاب من هواجس فظيعة، سأعترف لك بها أيضاً حتى نتقابل؟ سأشد الرحال إلى دمياط عن قريب لأزورك وأتمتع بك.
المخلص يحيى حقى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى