هشام أصلان - مدينة وراء الليل، أو باريس 1993

1
في الصباح تحركت جنازتان.

تقابلتا في المنتصف حيث مساحة المقابر تفصل بين قلب المدينة وبين الضاحية العالية. جنازة لرجل والثانية لسيدة. كأنهما قررا في الوقت نفسه، أن يغلقا حكاية البيت القديم. البيت الذي شيدته السيدة دون أعمدة مسلحة، وكان هو أول سكانه، قبل أن يتركه نزولًا على رغبة الأبناء للانتقال إلى الضاحية.

عرفت هي أنه سيموت عندما رأت أولاده يقومون بنقل ما تركه في الشقة القديمة، أسفل شقتها، إلى مكان سكنهم الجديد، فاستعدت للموت.

كانت حجته لترك أشيائه في البيت القديم كل هذه السنوات، هي أن الشقة الجديدة كانت إيجاراً جديداً. لم يقتنع أبدًا أن هذا هو مكانه النهائي. أية تعديلات في مكان سيضطر إلى الانتقال منه هي تعديلات ليست مفيدة. يستطيع فقط اقتناء ما يصلح لأن يأخذه معه عندما تسمح الظروف بالانتقال إلى مكان يملكه. هكذا كان يقول لأولاده، وكانوا يعرفون أنها مجرد حجة. كانوا يعرفون السبب الحقيقي لترك مقتنياته هناك. شيء ما في نفسه يأبى قطع الصلة بالبيت القديم، وإن كان متأكدًا أنه لن يعود للعيش فيه مرة أخرى.

انتظرتْ رائحة موته منذ ذلك اليوم. كانت تخرج يوميًا إلى شرفتها وقت الغروب، حتى جاءت الرائحة، فدخلت من الشرفة واستكانت، قبل أن تنطلق في الأنحاء رائحة موتها.

للمقابر مدخلان، دلف نعشه من المدخل القريب للضاحية، بينما مرت هي من المدخل الأقرب للمدينة. كان المطر يهطُل، والرياح قوية. أقوى من المعتاد. شعر المشيعون برجفات في أجسادهم.

في المساء، اختفت المدينة وراء الليل، ولم يرَ الجالس عند حافة الضاحية العالية ينظر، سوى خيوط رفيعة لأنوار تتقاطع في ما بينها. كأن ذلك الليل عرف أنه استثنائي، وأن المدينة احتاجت أن تتوارى خلفه عن عيني الجالس عند حافة الضاحية العالية.

الليل يعرف أن المدينة تحبه أكثر. يعرف أنها ليست من مدن النهار، حيث تتحول إلى دمية عملاقة تأكل سكانها مبتسمة. متجاوزة دورها كمدينة، تزحف فوق أرواح هؤلاء السكان، متنازلة عن أي معنى للجمال والحياة، بحركة حياتية مضمونها الشقاء، بينما يستطيع قلبها ليلًا أن يستقل، ويتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحي الممتدة، ويوفر شيئاً من الحياة لأصحاب المساء.

2
صرت في محاذاة السور الفاصل بين الشارع الجانبي الواسع وبين صفّ المقابر.

المفترض أن أركن السيارة عند أول السور، لأدخل من الباب الصغير ، وأترجل في الممر الضيق بين السور وبين شواهد القبور، وصولًا إلى مدفن العائلة. الوقت متأخر والدخول ليس مأمونًا. سرت بالسيارة والسور على يميني، قبل التوقف عند المدفن من الخارج. ربما لست أمامه بالضبط، ليست مشكلة.

هذه هي المرة الأولى التي آتي فيها منذ ثلاث سنوات عندما تركناك ومشينا. كنت خططت للمجيء في نفس الموعد من كل عام ولم أفعل. أفضل الذهاب إلى النهر حيث كنت تحب. أتيت اليوم خجلًا من عدم الزيارة. المكان انقلب حاله. أذكر جيدًا مجيئنا الأول بإحدى الجدات. لم يكن الشارع الذي أقف فيه الآن موجودًا. كان جزءًا من مساحة المقابر. لا أتذكر من تلك الزيارة سوى خليطا من ضحك وصراخ، لأطفال وكبار. يأتيني الصوت دائمًا من بعيد في ضوضاء تشبه الصمت.

زمان، لم يكن هناك ما يفصل بين مساحة المقابر، وبين سفح الضاحية العالية، كنا نرى حافتها في الأعلى بسهولة، ومئذنة صغيرة تطل بوضوح من فوق الحافة. كانت المقابر تحتل، بالضبط، المساحة بين الضاحية العالية، وبين قلب المدينة.

الآن، شوارع ومبان كثيرة تفصل بين المقابر وبين سفح الضاحية. لولا أنني بتّ أحد سكانها، ما كنت عرفت الطريق إلى هنا بسهولة.

عندما أتينا بك، طلبوا مني أن أتقدم صف السيارات أو أن أستقل السيارة التي تقلّك. قلت إنني لا أعرف الطريق. كانت حجة ملائمة لعدم مرافقتك في وضعك الجديد، خصوصًا وأنهم رفضوا تغطية الصندوق الذي تنام فيه، من باب العمل بالسُنة النبوية.

3
يمتد صلاح سالم، أكبر شوارع المدينة، بحركة مرورية خفيفة في ذلك الوقت المتأخر من الليل، تقطعه السيارة يقودها أحد الأعمام في ذروة طقوس استقبال الأب الآتي من رحلة للخارج. بعد العبور فوق أحد الكباري، يظهر تمثال رمسيس منتصبًا تتسلط عليه أضواء، يبدو أكثر تألقًا ونظافة من نسخته بجوار محطة مصر في قلب المدينة.

يقولون إن هذه هي النسخة المقلدة، بينما نسخة المحطة هي الأصل. رؤيته تعني أننا اقتربنا، وتعني أيضاً أنني سأحدق لناحية اليمين حتى لا يفوتني مشهد قصر "البارون" بساحته المفتوحة وأسطوريته. بعد قليل، وعلى اليسار، يبدو المجسم الإعلاني لشركة "مصر للطيران" موضحًا أننا على مشارف المطار.

تبهرني الطائرات الواقفة على مدى البصر، وطائرة اقتربت من ملامسة الأرض في رحلة الهبوط، أو أخرى ارتفعت للتوّ. لم نكن نوصله أبدًا إلى صالة السفر، هو دائمًا مشوار العودة.

لرحلاته إلى باريس مذاق مختلف، لا أعرف لماذا.

سيشتري من هناك ميدالية على شكل برج إيفل، ولن ينسى الإشارة إلى أن مُصمم هذا البرج هو نفسه الذي صمم كوبري "أبو العلا"، الواصل بين حييّ الزمالك وبولاق في القاهرة.

معه أيضا محفظة لونها بني فاتح، لها شكل يختلف عن المحافظ المعتادة، وكوفية من الصوف الرمادي والأسود. سيأتي سعيدًا ويكتب عن الرحلة والأصدقاء الذين رافقوه، ومحبة المواطن العادي للقراءة، ودقائق مع فتاة مغربية جميلة تعاملت معه ككهل.

أصبح لباريس، التي لم أزرها، مساحة من الوجدان والذكريات.

4
تمتمت بما أحفظ من آيات قرآنية، وأدرت السيارة خارجًا من الشارع الجانبي الواسع، الموازي لصفّ المقابر، ثم صلاح سالم قبل الانحراف يسارًا في الطريق الصاعد إلى سطح الضاحية، متجهًا إلى الشقة المهجورة حيث غرفة تخزين الكتب.

في الزيارة الماضية للشقة، لم أواصل فرز الكتب. أجّلت المسألة لما بعد الاحتفال بذكرى ميلادك التي مرت منذ أيام قليلة. كنت أوهمت الأصدقاء بأنني انتهيت من زجاجة "الكورفازييه"، آخر الزجاجات التي تشاركنا في فتحها. إلا أنني احتفظت بكأس أخيرة لهذه المناسبة. صببت آخر الكؤوس، والزجاجة، الفارغة الآن، لن تُناسبها أي من العلامات المستديرة المطبوعة على سطح المكتب القديم، حيث إن قاعدتها أكبر من أكواب الشاي والقهوة التي مرت فوقها السنين. تركتها، ربما تصنع علامتها الخاصة.

وقفت في الشرفة الواسعة المطلة على الشارع العريض.

في الجانب المقابل للشرفة، يجلس أحدهم على السور الحجري الممتد بطول الشارع، ليحول بين المارة وبين منحدر كبير يصل حتى مشارف المدينة.

السكان يأتون من عمق الضاحية، يتنزهون على حافتها عند الشارع الطويل، ويتفرجون على الأضواء البعيدة المفرودة في الأسفل. أغلقت الشرفة ودخلت. مددت يدي إلى أحد أدراج المكتب القديم في محاولة فاشلة لفتحه. قبل أن أطفئ النور لأذهب. ووقعت عيني، بين الكراتين المتراصة، على المحفظة ذات اللون البني الفاتح. كانت بحالة جيدة. فكرت في استعمالها، إلا أنني قلقت من شكلها غير التقليدي، كما أن تكوينها لن يساعد في وضعها داخل الجيب الخلفي للبنطلون، حيث إن لها ارتفاعا ما، يجعلها أقرب إلى صندوق صغير مستطيل الأضلاع. فتحتها، وكان مكتوبًا في ناحية من داخلها: "باريس، 1993".



*كاتب من مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى