رسالة من كريم مروه الى فخري كريم

أخي ورفيقي العزيز فخري كريم
تحية طيبة لك ولأسرة المدى ولجميع أصدقائنا في العراق الحبيب
لا تستطيع أن تتصور كم أنا مهموم بما يجري في العراق. فالعراق، بالنسبة إلي كما تعلم، هو مهد التحولات الأولى والأساسية في حياتي. ولذلك فهو يعيش في عقلي ووجداني. ويتخذ له مكاناً راسخاً فيهما لا يزيده مرور الأزمنة وتعاقبها وكثرة الأحداث المأساوية إلا رسوخاً.
كنت على امتداد ثلاثة عقود على صلة دائمة بالعراق. أزوره كلما كانت تسمح لي بذلك الظروف، أو عندما كانت تقودني اليه مهمات سياسية وثقافية. إلا أن هيمنة نظام الاستبداد فيه على امتداد ما يقرب من أربعين عاماً حرمتني من متعة اللقاء بالأصدقاء في ربوعه، مثلما حرمت العديد من خيرة بناته وأبنائه من البقاء على قيد الحياة، أو من الاستمرار في العيش بين دجلته وفراته وحولهما. وكان ذلك الواقع مصدر حزن عميق لم يفارقني. وإذ تعذر على أهل العراق التحرر من ذلك النظام المستبد ومن سيده - وهو أمر يحتاج إلى بحث عميق في جذوره وفي سائر عناصره المكونة - فقد جاء الخلاص من كليهما، النظام وسيده، على يد القوى الاجنبية التي جاءت إلى العراق غازية ومحتلة، حاملة معها أهدافها في السيطرة على المنطقة برمتها في امتدادها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. وإذا كان قد شكل انهيار نظام الاستبداد، بتلك السرعة المذهلة المخزية المذلة، مصدراً لـ “فرح” ما عند شريحة واسعة من الشعب العراقي بعد\ ذلك الليل الطويل من القهر والمعاناة والتشرد والحروب المدمرة والقبور الجماعية المرافقة لها جميعها، فان الوجه الآخر لذلك “الفرح” هو الحزن العميق الذي ولده ويولده الاحتلال الأمريكي والبريطاني لهذا البلد العربي العريق. وهو احتلال تم من خلال حرب عدوانية وقفت إزاءها الدول العربية عاجزة عجزاً مطلقاً، ووقف المجتمع الدولي برمته عاجزاً أيضاً، برغم مظاهرات الاحتجاج التي عمت أرجاء الدنيا احتجاجاً على الحرب واستنكاراً ورفضاً لمفاعيلها. إلا أن الحزن لم يكن تعبيراً عن موقف سلبي وحيادي إزاء ما جرى، ولم يكن هو وحده شكل الاعتراض وصيغته. إذ سرعان ما ولد ذلك الحزن غضباً شعبياً ووطنياً كبيراً ذكر العالم بتاريخ العراق المجيد في مقاومة الاحتلال في العشرينيات من القرن الماضي، وذكر بنضال الوطنيين والديمقراطيين العراقيين دفاعاً عن استقلال بلدهم وسيادته وعن حرية شعبهم. وكان شعار الشيوعيين العراقيين، منذ أن ظهرت إلى الوجود أولى تنظيماتهم قبل سبعين عاماً، تعبر عن هذه العراقة في الكفاح من أجل الحرية: وطن حر وشعب سعيد.
أخي فخري
أحب أن تعرف، وأنت تعرف جيداً، وأحب أن يعرف أصدقائي في العراق، إنني، وأنا اتابع الأحداث الجارية بتفاصيلها منذ أن بدأت الحرب العدوانية الأمريكية والبريطانية على العراق، لم أتوقف، في كتاباتي وفي أحاديثي في وسائل الأعلام، عن التأكيد بأن المحنة التي يمر بها العراق الجديد هي محنة لن يطول الزمن الذي سيستطيع فيها الشعب العراقي التغلب عليها. وللمحنة وجهان متلازمان: وجه الاستبداد الذي ذهب إلى غير رجعة، ولو عن طريق القوى الاجنبية الغازية - “يا للمفارقة”! - ووجه الاحتلال الذي سيزول بإرادة الشعب العراقي، الذي تنطق باسمه قواه الحية، القديم العريق من هذه القوى ذو التاريخ المجيد، والجديد الذي يرسخ أقدامه في الكفاح اليوم من أجل مستقبل ديمقراطي لعراق حر وسعيد ومستقل. وهذه القوى التي تمارس النضال ضد الاحتلال، وهي ترفع راية الديمقراطية كمرتكز أساسي لا بديل منه لتثبيت وترسيخ وحدة العراق بأطيافه المختلفة، القومية والدينية والسياسية على اختلافها، هي، اي هذه القوى، التي بمقدورها أكثر من سواها، لأنها وطنية وديمقراطية، أن ترسم صورة عراق الغد. وإذ اشدد على هذه النقطة بالذات فلأنني اعتبر إن لمقاومة الاحتلال - وكل احتلال يولد شرعية مقاومته لدى كل شعب - أشكالاً وأدوات وأساليب عديدة، ولا تنحصر في شكل محدد بعينه. ولذلك لست - ولا يمكن أن أكون - ممن يصفقون لأي قتال بالسلاح، بالنيابة عن الشعب، من دون تحديد هوية الذي يقاتل وتحديد هدفه من القتال راهناً ولاحقاً في ظل ادعاء بعض من يقاتلون بان هذا الشكل هو وحده، من دون سواه، الشكل الموصل إلى التحرير. فللمقاومة بالسلاح مهمة محددة لا بد لمن يمارسها أن يعرف كيف وأين ومتى وفي اي اتجاه يسدد سلاحه، بحيث تكون لذلك التسديد علاقة حقيقية بتلك المهمة، وأن تكون لاستخدام السلاح وظيفة تخدم الهدف الأساسي الذي يتمثل في إرغام المحتل على الخروج من البلاد في أسرع وقت وفي اقل ثمن مادي وبشري، وأن يترافق خروجه بتكوين بدائل وطنية ديمقراطية توكل اليها مقاليد قيادة بلد دمره الاستبداد ودمر كل مؤسساته، حيث جعل الدولة كلها وكل مؤسساتها على قياسه، فانهارت مع انهياره المذل، بفعل الغزو الاجنبي وبفعل الاحتلال.
ويقيني فان الشعب العراقي كان سيقاوم الغزو الأجنبي بقوة، وكان سيصمد في مقاومته للغزاة، وكان سيمنع ذلك الانهيار المذل، لو إنه كان حراً. كذلك كان سيفعل الجيش الوطني العراقي لو لم تصادر إرادته ويصادر دوره من قبل الحاكم المستبد وزبانيته.
كلا، يا صديقي، ليس كل من يشهر السلاح باسم المقاومة هو مقاوم حقيقي، وليس فعله، بالضرورة، هو فعل مقاومة حقيقية تؤدي إلى التحرير، رغم إن للسلاح في المقاومة الوطنية شرعيته المدنية. أقول ذلك لأن ما يصلنا عبر وسائل الإعلام من أخبار ومشاهد عن دوامة العنف الدموي يثير عندي وعند الكثيرين القلق والألم، ويثير الغضب ضد الاحتلال وضد بعض ما يدعي إنه مقاومة لهذا الاحتلال. واعني في ما أقول بالتحديد تلك العمليات التي تستهدف المدنيين، وتلك التي تستهدف المنشآت الوطنية، وتستهدف الفنادق والمستشفيات والمدارس، وتقتل الأطفال، وتستهدف الأمم المتحدة ومؤسساتها، هذه الهيئة الدولية المؤهلة وحدها في الظروف الراهنة للعب دور أساسي في نقل السيادة إلى العراقيين، ولو بالتدريج.
فهل هذه الأهداف المدنية العراقية والدولية هي في رأي الشعب العراقي الأهداف التي يشكل الاعتداء عليها وتدميرها وقتل المواطنين العراقيين فيها نوعاً من المقاومة يدفع قوى الاحتلال للخروج من البلاد؟ هل هذه مقاومة تبغي تحرير العراق من الاحتلال وإعادة بنائه وإرساء السلم الأهلي فيه؟
إن ثمة أسئلة كثيرة تثيرها تلك العمليات، ويثيرها التصفيق لها، في بعض الدول العربية من أنظمة حكم وقوى قومية وحتى يسارية، باعتبارها مقاومة مشروعة ضد الاحتلال. كما تثير الأسئلة والتساؤلات مواقف معلنة هنا وهناك من قبل بعض الذين يقومون بتلك العمليات حول مستقبل العراق. إذ هي مواقف تنبئ بأن مستقبل هذا البلد العربي الكبير سيكون في مهب الرياح إذا ما أتيح لتلك القوى ولشعاراتها أن تكون في ذات يوم هي البديل لسلطة الاستبداد والهزيمة، والبديل من سلطة الاحتلال الجاثمة على صدر العراق.
أقول ذلك وكلي ثقة بأن المحنة الراهنة الجاثمة على صدر العراق بكل وجوهها لن تطول. ذلك إن وعي الشعب العراقي بعامة، ووعي قواه الوطنية والديمقراطية وتماسكها بخاصة، هو أقوى وأرقى من أن تتمكن تلك المحنة من التحكم به والاستيلاء على مستقبله. وتلك هي بالتأكيد ثقة الديمقراطيين العرب بأشقائهم في العراق، ثقة تعززها مواقف الشعب العراقي ونضالاته اليوم، مثلما عززتها مواقفها ونضالاته في كل الأزمنة. فعراق الغد الذي سيعاد بناؤه على أنقاض الدكتاتورية والاحتلال، بإسهام أساسي ومسؤول من هذه القوة وبتأييد من جماهير الشعب العراقي، سيكون، كما أراه منذ الآن، منارة لكل العالم العربي.
وبعد، فإني لأتوجه إليك أيها الأخ والرفيق والصديق ولأفراد أسرة (المدى) بالتهنئة على النجاح الذي حققتموه في جعل هذه الصحيفة الجديدة الناشئة صحيفة من الدرجة الأولى في عالم الإعلام العربي. وإذ أتابع أعدادها بانتظام أشعر بأنني في حضرة العراق وشعبه، وفي حضرة قواه الديمقراطية الحية، وفي حضرة مثقفيه العريقين، في تاريخه وتاريخهم القديم المجيد الذي تعيد (المدى) التذكير به، وفي تاريخه وتاريخهم الراهن المليء بالآلام والآمال. فهنيئاً لكم وهنيئاً للعراق بما تقومون به من أجل تحرره وتقدمه.
وإني لآمل في لقاء قريب على أرض العراق حين تتوفر لي زيارة هذا البلد الذي أتحرق شوقاً لزيارته، لأراه وقد تحرر من ظالميه وقاهري إرادته، الاستبداد وبقاياه والاحتلال وأثاره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى