نهلة كرم - عصفور الفراق

"عصفور من أمريكا.. تضع له عصيرا ليشربه! ماذا.. تحممه وتنشفه بالسيشوار!".
انتبهت على ضحكات والدتي وهي تتحدث بتلك الكلمات، فخفضت صوت مسلسلي المفضل، لأستمع إلى محادثتها مع خالتي عبر الهاتف.
لم نكن نذهب إلى خالتي كثيرًا بسبب بعد منزلها، لذلك كنت أسترق السمع دومًا حين تتحدث والدتي معها عبر الهاتف لأعرف الأخبار الجديدة، كانت هناك دائمًا أخبار جديدة عند خالتي، كنت أشعر أن ليس منزلهم وحده هو الذي بعيد، بل حياتهم أيضًا بعيدة عن حياتنا تمامًا.

فزوج خالتي لديه عربة بسائق خاص يرتدي دومًا زي الجيش، وكلما أتوا لزيارتنا وأطالوا الجلوس لدينا، كنت أدخل إلى الشرفة ،لألقي نظرة على السيارة وأفكر كيف يحتمل السائق أن يجلس كل هذا الوقت الطويل بداخلها، دون أن يشعر بملل، لكن زوج خالتي كان يقطع ملله أحيانًا ويناديه من شرفتنا بـ"يا عسكري"، ويطلب منه أن يحضر بعض الأشياء.

عدم امتلاكنا سيارة لم يكن الاختلاف الوحيد بين حياتنا وحياتهم، بل كانوا أيضًا يذهبون دائمًا إلى النوادي، ولم أرِ النادي حينها إلا في التليفزيون، وأحقد بداخلي على "ياسمين" ابنة خالتي لأن بإمكانها أن تذهب إلى هناك وتمارس الرياضة، وتحب هذا الفتى الذي ربما يلعب معها نفس الرياضة، أو يقابلها في الـ"كافيتريا"، وأقول في نفسي لديها الجامعة والنادي وكل الأماكن الصالحة للحب التي تأتي في المسلسلات، وليس لدي سوى مدرسة للفتيات وبيت تطل شرفته على "جراج"!

كانوا يجددون بيتهم دائمًا أيضًا، حين ذهبنا لزيارتهم بعد أن صار في حمامهم "بانيو"، تمنيت لو تسمح لي والدتي بالمبيت لديهم ولو ليوم واحد، حتى يمكنني الاستحمام بداخله، لكنها رفضت، كانت ترفض دومًا أن أبيت هناك وتقول لي بحزم "تذهبين وتعودين معي في نفس اليوم".

كنت أحزن قليلاً في كل مرة أطلب منها ذلك وترفض، لكني في النهاية تغاضيت عن الأمر، إلا أني لم استطع التغاضي عن الأمر، ذلك اليوم الذي عرفت فيه أن زوج خالتي اشترى لـ"ياسمين" عصفورًا من أمريكا، خاصة بعد أن سمعت حكايات عنه مع ياسمين، وكيف أنها حين تناديه باسمه التي أطلقته عليه "كوكو" يردد اسمه بنفس النبرة، وإذا ناداه شخص آخر لا يرد، كما أنها تخرجه من القفص في بعض الأحيان ليأكل من الطعام الذي تأكل منه، وتضع له العصير فيشربه، وتحممه وتنشف جسده بالسيشوار.

رغبت بشدة في الذهاب إليهم لأرى "كوكو"، تمنيت أن أحممه في الوعاء، وأستحم أنا أيضًا في البانيو، أن أنشف جسده بالسيشوار، وتصفف ياسمين شعري به، لينفرد مثل شعرها الذي كان مصففًا طوال الوقت.

بعد أن رفضت والدتي محاولاتي الكثيرة لإقناعها، قررت أن أطلب من خالتي أن تقنعها، انتظرت حتى نامت وطلبت رقمها سرًا، ردت عليّ ياسمين، وأخذت تحكي لي عن "كوكو"، كنت أقاطعها بين حين وآخر لألمح لها أنني أرغب في رؤيته، دون أن أقولها صراحة، رغم أنني كنت أنوي فعل ذلك قبل أن أتصل، لكنني خجلت حتى قالت لي "لماذا لا تأتين لتباتي معي يوما، ونسهر سويًا"، حينها فقط تشجعت وتمكنت من إخبارها بأن والدتي ترفض الأمر، قلت لها ذلك، ولم أكن أعرف إن كانت قادرة على فعل شيء أم لا، لكني فوجئت أن خالتي تتصل بوالدتي في اليوم التالي، وتقنعها بأن تتركني أبات لديهم، ولم تدع لها مجالاً للرفض حين أخبرتها بأنها سترسل لي العسكري في المساء، بعد أن ينهي مشاوير زوجها ليوصلني إليهم.

لم أستطع النوم هذا اليوم من شدة سعادتي، ظللت طوال الليل أحلم وأتخيل ما سأفعله في بيت خالتي، في البداية سأركب تلك السيارة وحدي، وسيكون هذا العسكري سائقي الخاص، لن أجلس بجواره، بل سأجلس في الخلف كما تفعل ياسمين، وسأجعله يحمل حقيبتي حتى بيت خالتي، وحين أدخل الشقة، سأذهب مباشرة إلى الحمام لأستحم في هذا البانيو الجديد، لا سألعب مع "كوكو" أولاً، ثم أذهب إلى البانيو لأجلس فيه أطول مدة ممكنة، فربما لا توافق والدتي على مبيتي هناك مرة ثانية، وبعد أن أنهي استحمامي.. ربما أطلب من ياسمين أن تصفف لي شعري، وتضبط حاجبي، فهي بارعة في تلك الأمور، كما أن لديها "مكياجا" كثيرا جدًا، سأطلب منها أن تضع منه على وجهي.. ربما تعلمني الرقص الذي تتقنه، ونرقص سويًا على الأغاني في تلك القنوات التي لا تأتي في التليفزيون في بيتنا، لأننا ليس لدينا "دش" مثلهم.. ربما تسمح لي باللعب في هاتفها المحمول وتتركه لأتعلم كيفية التعامل معه، وربما تحكي لي قصصها ومغامراتها في الجامعة، وأعرف الشخص الذي تحبه.. لأنها حتمًا تحب.

كنت سعيدة حين ركبت السيارة وحدي للمرة الأولى وكأنني أملكها، لم أتبادل مع العسكري كلمة واحدة طوال الطريق، كنت أراقب الشوارع وأنا مستمتعة بجلوسي في مقعد ياسمين، وأشعر لأول مرة بالرفاهية التي تعيش فيها، لكن الأمر لم يكتمل كما أردت، فحين توقف العسكري بالسيارة أمام بيتهم، لم ينزل ليفتح لي الباب ولم يحمل حقيبتي كما يفعل معها، انتظرت في مكاني قليلاً حتى يفعل، لكنه لم يتحرك من مكانه، بل أشار بأصابعه قائلاً "هذا هو البيت"، فحملت حقيبتي ونزلت من السيارة وأنا أشعر بالغيظ، لأنه لم يقل لي حتى "يا فندم"، وتمنيت لحظتها لو تأتي خالتي لزيارتنا دومًا وتطيل الجلوس لدينا، حتى يقتله الملل في السيارة أسفل بيتنا.

حين فتحت لي خالتي الباب، رأيت ياسمين تجلس في الصالة منشغلة بالحديث في هاتف المنزل، كانت تتحدث لفترات طويلة دومًا، فكرت أن أستحم حتى تنتهي من مكالمتها، لكني تراجعت بعد أن دخلت الحمام ووجدت عددًا كبيرًا من المنظفات، وعجزت عن معرفة أي منها الذي يصنع "الرغاوي" في "البانيو"!

خرجت من الحمام وجلست بالقرب من ياسمين، وكلما ظننت أنها ستنهي المكالمة، كانت تفتح أحاديث أخرى، شعرت بالملل ولم أجد ما أفعله، خاصة أن التليفزيون كان مطفأً، ولم أكن أعرف كيف أفتح قنوات "الدش"، خشيت أن أجرب فأفسد شيئًا به، بدأت أشغل نفسي بالاستماع إلى أحاديث ياسمين التي كان معظمها عن المحاضرات، ولا يثير انتباهي، وكنت أسمع "كوكو" يصدر زقزقة من بين حين وآخر من حجرتها، فيزداد شغفي لرؤيته، بينما كانت نظراتي معلقة على باب حجرة خالتي وظللت أتساءل لماذا تأخرت كل هذا الوقت رغم أنها أخبرتني أنها ستدخل لتوقظ عمي فقط ؟!
أنهت ياسمين مكالمتها، وقامت من مكانها لترحب بي أخيرًا، ثم أخذتني إلى حجرتها، فشعرت أن اليوم الذي حلمت به قد بدأ.

لم يكن "كوكو" ملونًا كما تخيلته، بل كان رمادي اللون، أخبرتني ياسمين وهي تلعب معه بوضع أصابعها له بين القفص ويعضها، بأنها حين رأته أول مرة لم تحبه بسبب لونه، لكنها أحبته بعد أن اكتشفت اختلافه وتميزه عن باقي العصافير "لن تصدقي، كنت أبكي في يوم بجوار النافذة وبدأت أتكلم معه وفوجئت أنني كلما توقفت عن الحكي يزقزق لي وكأنه يقول لي أكملي". قالت فلم أبدِ دهشة كبيرة، فبدأت تناديه باسمه، وكان يرد عليها في كل مرة بتكرار اسمه خلفها، أحببته حينها وطلبت منها أن تخرجه لي لأمسكه.

أخرجته من القفص وأمسكته لي وهي تسألني ، إن كنت استطيع حمله دون خوف، كانت المرة الأولى التي ألمس فيها عصفورا في حياتي، وبمجرد أن أمسكت به وشعرت بنبضاته وارتجافه حتى ارتعشت وتركته من يدي.

طار "كوكو" ووقف على لمبة كانت معلقة فوق الدولاب، فوقفت ياسمين تضحك وهي تقول "انزل يا كوكو"، اطمأننت حين وجدتها تضحك، واقترحت عليها أن أحضر عصا المقشة لنقربها منه، حتى يقف عليها وننزله، فهزت رأسها موافقة، لكني حين عدت بالعصا لم أجده في مكانه، لكني وجدت ياسمين تحرك الدولاب، لتحمل كوكو الذي كان راقدًا خلفه بدون حراك.

بدأت ياسمين تهزه بأصابعها بهدوء أول الأمر، لكنه لم يصدر أي حركة أو زقزقة، فبدأت في الصراخ والبكاء وهي تنادي اسمه، حتى جاءت خالتي وزوجها إلى حجرتها في فزع، ليكتشفا الأمر، حاولا تهدئتها لكنها ظلت تصرخ "كوكو مات.. كوكو مات".

لم أكن أفهم ما حدث له حتى قالت ياسمين إن حرارة اللمبة لسعته، فسقط من تلك المسافة المرتفعة على الأرض، دون أن يتمكن من الطيران خلف الدولاب، فمات. قالتها وهي تبكي وتصرخ، اقترحت على خالتي أن نشغل قرآنا، لكنها لم ترد عليّ، بل تركتنا وخرجت فجأة من الغرفة، وحين ذهبت لها وجدتها تضحك "خرجت حتى لا أضحك أمام ياسمين، نحن لا نشغل قرآن على العصافير حين تموت". قالتها لي ودخلت ثانية إلى الحجرة قبل أن أخبرها أنني كنت أقصد أن نشغل قرآن لتهدئة ياسمين.

بدأت ياسمين تهدأ قليلاً حين أخذ زوج خالتي "كوكو" خارجًا، لكنها ظلت تبكي وهي تطلب مني بين حين وآخر أن أذهب لأطل عليه "ربما لم يمت" تقول ذلك ببعض الأمل، فأذهب وأعود دون أن أقول شيئًا، فتدس رأسها في المخدة وتكمل بكاءها.

ظلت ياسمين هكذا نحو ساعتين، قبل أن تسترخي وتنام في مكانها على الأريكة وهي تحتضن المخدة، غطتها خالتي وطلبت مني أن أبقى بجوارها، وذهبت لتنام، لم أشعر برغبة في النوم، كنت أشعر بالذنب بعد أن فكرت أنني السبب في موت "كوكو"، وتساءلت ما إذا ستكرهني ياسمين بسببه، ثم شعرت فجأة بالغيظ والغضب من هذا العصفور الذي أفسد عليّ كل ما حلمت به طوال الليل في اليوم السابق، وربما يتسبب في عدم بياتي مرة أخرى عندهم.

زاد غضبي منه حين نظرت إلى الطاولة ووجدت هاتف ياسمين موضوعًا عليها، فتذكرت أنني لم ألعب به حتى، شعرت برغبة في لمسه، فتوجهت ناحيته وبدأت أضغط على أزراره متجنبة زر الاتصال، فكرت أن ياسمين لن تكتشف أنني لعبت بهاتفها إذا لم أتصل بأحد، لكني تركته حين وجدت الأمر مملاً بعدما لم أتمكن من الوصول إلى الألعاب، فدخلت إلى الفراش حينها بخيبة أمل.

استيقظت من النوم قبل ياسمين، خرجت إلى الصالة ولم أجد "كوكو"، كانت خالتي تشاهد إحدى برامج الطبخ، سألتها عنه فأخبرتني أن العسكري أخذه ليدفنه، حينها فقط بدأت أدرك أنه مات، فوجوده بداخل القفص لم يكن يشعرني بذلك بشكل كامل، لحظتها شعرت بالحزن الشديد تجاهه.

جلست بجوار خالتي أشاهد معها البرنامج في صمت، كانت تتحدث من حين لآخر وتخبرني بأن الأمر عادي، وأن عصافير كثيرة تموت كل يوم ولكن ياسمين تأثرت بموت "كوكو" لأنه كان عزيزًا عليها، "يومان وتنساه" اطمأننت لجملتها، وفكرت أنه يمكنني المبيت لديهم مرة أخرى بعد أن يمر اليومان.

ظل الجو هادئًا حتى استيقظت ياسمين، فوجئت بها تخرج إلى الصالة وتقف أمامي وتنظر لي نظرة غضب أكثر منها نظرة حزن، بادرت بالقول "لم أكن أقصد تركه من يدي، أنا آسفة..." لكنها قاطعتني قائلة "هل أمسكتِ هاتفي؟"، علت نبضات قلبي وهززت رأسي بالنفي، فقالت لي "أنتِ كاذبة" قاطعتها خالتي لتوقفها، لكنها أكملت "الهانم تسببت في نفاد رصيدي" وأخذت تشرح أنني ضغطت على إحدى أزرار الاتصال السريع الذي كان مضبوطًا على الاتصال بإحدى صديقاتها في السعودية، ومن سوء حظي أن صديقتها أجابت الاتصال، حتى نفد رصيد ياسمين.

بعد أن أنهت كلامها نظرت لي وقالت "لماذا جئتِ؟ تسببتِ في موت كوكو، وفي نفاد رصيدي، أنا أكرهك.. أكرهك.. ليتكِ لم تأتِ!".
بدأت في البكاء لكنها لم تلتفت إليَ، بل تركتني ودخلت إلى حجرتها وأغلقت الباب بعنف، حاولت خالتي أن تهدئني وتقول لي "لا تتضايقي منها، هي غاضبة الآن وسوف تهدأ فيما بعد". لكنني لم أتوقف عن البكاء، ارتفع صوت الهاتف بنطق رقمنا حينها، فطلبت مني ألا أخبر والدتي بأي شيء، ثم أجابتها وقالت لها بأنني لم أستيقظ من النوم بعد.

انتظرتها حتى أنهت مكالمتها معها ودخلت إلى حجرتها، وعاودت الاتصال بوالدتي لأطلب منها بصوت منخفض أن تأتي لتعيدني إلى البيت...


نهلة كرم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى