د. سامي عبد العال - جريمة ميتافيزيقية

اعتادت المجتمعات الإنسانية على تسمية انتهاك حقوق الآخرين بالجرائم. وجاءت القوانين لتوكد المعنى السابق في تفصيل طبيعة الانتهاك ودرجاته وصوره وأحكامه وأين سيقع من وجوه التجريم. وذلك لتحديد العقوبات ودلالة الردع المطلوبة بقدر فاعلية الأثر. لأنَّ فلسفة القوانين لا تتعلق بجسم الجرائم في حد ذاتها، بل بالمعطيات الرمزية التي تنتج دلالتها العامة إجمالاً.

الملاحظ أنَّ هذه الفكرة بصدد الإرهاب لا تعالج الباقي منه ميتافيزيقياً، فهل هو جريمة لها جسم ومادة وفعل فقط، وبالتالي سيدخل تحت جملة القوانين. وإذا كان ذلك الأمر كذلك، فماذا عن جانبه الماورائي بحكم وجود الاعتقاد والإيمان. ولاسيما أنَّ الإيمان سيناله شيء من التدمير مع عمليات الإرهاب. تحديداً هو إهانة لأقدس ما يمتلكه الإنسان: حرية الاعتقاد بحجم الايمان على نحو عام. هذه الحرية المطلقة إنسانياً والتي لا تسقط في فخ ما هو جزئي ونسبي. ولذلك، فإنَّ تجاهل الانتهاك الميتافيزيقي يترك معالجات الارهاب الشائعة قصيرة النظر بلا شك.

المعنى هنا لا يمس الإرهاب فقط، بل يفسر لماذا يعد ظاهرةً واقعة في دائرة الفلسفة. أي لماذا تأخذ الأفعال الارهابية عنفها الأقصى؟ وما السبب في كونها أحداثاً عبثية، ومع ذلك تترك آثاراً كبيرة داخل المجتمعات؟ ولماذا تأتيها( أي الأفعال الارهابية في سياقات معينة ) كل المعاني لا بعضها؟ إختصاراً من جانب ما أقصد: كيف يُسيء الإرهابي ميتافيزيقياً إلى الله وإلى الإنسان؟ ربما تلك الأسئلة هي أبرز الأشياء التي يمكن إثارتها مع نتائج الارهاب. لأنه يوجِّه المتلقي إلى شيء سواه أكثر قوة ورهبة، أي يوجه الضحايا إلى سلطة الموت بوصفها النهاية الأخيرة للحياة. وهي سلطة يختص بها الله في جميع الأديان، سلطة تقع كسْرٍّ غامض في تفاصيل الأحداث، حيث تشد المتلقي إلى دائرة الترقب وانتظار التوابع اللاحقة.

نحن مدعوون بالبحث عن هذا المعنى البعيد. فلئن كانت هناك حادثة ارهابية، فقد لا يلتفت الإنسان ( أو المجتمعات والدول ) إلى ماهيتها. لكنه سيطرح القضية اللافتة: قضية ردود الأفعال من جهة الخاسرين والمستفيدين ليس أكثر. إن الالتفات حينذاك سيكون إلى الأماكن الفارغة من الارهاب. وهي الأماكن التي يستدعي الأخير احتمالاً بأن يطالها في يوم من الأيام. حيث عادة ما كان التحسب من الارهاب أعظم من الارهاب ذاته وكان الخوف من الإرهاب مشكلة أضخم من نتائجه أحياناً، وعلى المنوال ذاته تعد الحروب عليه أكثر تكلفةً من ضرباته الخاطفة. كما أن الإمكانية الافتراضية التي نترقبها مع وجوده ترسم صوراً مظلمة لمساراته في المستقبل.

وجميع ذلك يكشف الفائض الميتافيزيقي المشوَّه في أعماله الجزئية هنا أو هناك. فالخلل الذي يعبر عنه الارهابي ينطوي على خلل ميتافيزيقي حول مفاهيم الإله، الموت، الجنة، النار، الحرية، الحياة. فكأنَّه يتلاعب بها حتى النهاية أو يتوهم أنه يقوم بامتلاكها، فثمة مهمة مقدسة يراها ضرورية لحياته لا تقل عن امساك هذه المفاهيم الميتافيزيقية. وبالتالي ستكون كذلك هي المغذية لنهايته الدامية.

على سبيل المثال: عندما نتأمل ( مع مرور هذه السنوات ) تدمير برجي التجارة العالميين الشهيرين، سنجد أن الفعل يكاد يكون طارئاً ومفاجئاً. لكنه في نفس الوقت يعلن بملء اللغة عن حدوث أمر فائق للوصف لن ينتهي في وقت من الأوقات. لم تكن طائرتا البرجين إلاَّ طائرتين عاديتين. لكن صورة البرجين بوجودهما الرمزي الأكبر اقتصادياً وسياسياً جعلت الأثر مهولاً ومتعالياً على صعيد ميتافيزيقي. لدرجة أن الأثر الحاصل كان مرعباً كأنه استحدث لفكرة الموت كواقعة فريدة في المشهد العالمي. أي كأنه موت يحدث لأول مرة بالرغم من حدوثه الذي لم ينقطع منذ وجود البشر. لقد اكتشف المتابعون موتاً من نوع جديدٍ. فليس الموت متشابهاً بحال واحدٍ في جميع أفعاله عند البشر. ونظراً لكون الموت (هكذا بألف ولام التعريف ) الذي يأتي طّازجاً في كل مرةٍ، فإنه سيبلغ أمداً في تكوين ظاهرته المختلفة.

وبالتوازي، نظراً لأنَّ الموت الناتج عن الارهاب يمثل( حادثة لن تتكرر طبق الأصل)، فإنَّه يدعو إلى المزيد من القتل وهذا هو هدف الإرهاب. ويبدو أن ذلك الأمر متناقض تمام التناقض، لكنه لم يتوقف عن طرح نفسه طوال تاريخ الأصوليات الدينية. فأحداث الإرهاب (أولاً ) مرتبطة بالمقدس وتسعى إليه بوضوح من جهة كونها تنفيذاً لعلاقة ميتافيزيقية مع الآخر قائمة على التكفير. فكل ارهاب له جانب مقدس، على الأقل مقدس من نوعٍ ما في حالة اشتغال واقعي. وهو كذلك ( ثانياً ) مضمخ بالكراهية الكلية دونما حدود. كما أنه (ثالثاً) يعمل على إيقاع الأثر تجاه جميع من يشاهده. و( رابعاً ) تظل الأحداث الخاصة بالارهاب محكومةً بتجاوز تاريخها الآني، لأنَّها تتسع لتضم دلالة المفارقة بين وجودها المحدود كفعلٍ وبين آثارها الكبيرة إجتماعياً، وذلك بالتراكم الرمزي في أسبابها ومعانيها على التتابع.

لو كان الإرهابُ شيئاً معيناً، لكان سهلاً تعريفه، ولو كان ذا طبيعة ثابتة، لغدا بالإمكان تأصيلَّه، بيد أنَّه يخضع دائماً لوظيفةٍ يقوم بها. وظيفتهُ هي احداث الأثر المفاجئ على كيان الإنسان تخويفاً أو قتلاً أو تدميراً أو إقصاءً. وهذا ما يجعله يحقق أهدافاً سريعة ونوعيةً كما يُقال. فالإرهابي فارغ من أيِّة أصالة إلاَّ حين يعمل لحساب طرفٍ خفيٍّ يراه أصيلاً. هذا الطرف الذي يستعمله ويمنحه كل معنى عنيف هو له. ولهذا يعد الارهاب عرضياً في أفعاله مهما حاول افهامَ الآخرين: أنه يبحث عن أهداف مقدسةٍ وخاليةٍ من الغرض. ولعلَّ ذلك وراء كونه نسبياً، لكنه يوصل رسالة أخرى تتعلق بالصيغ والمعاني الضرورية ميتافيزيقياً. وذلك مع المناخ الفكري والديني الذي يعشعش فيه مستثمراً كافة الموارد المتاحة للنمو والانتشار.

من ثمَّ ليس الإرهاب حالة بقدر ما هو منظومة تستند إلى مسلمات غير قابلة للنقاش، فتسعي لإثبات أنَّ طواحين الهواء أقوى من الهواء نفسه وأنَّ الطُفيل أجدى من الجسم الذي يوجد فيه، وأنّ بعض الظلام يحُول دون بزوغ النهار. الخلل دائماً ليس في مناعة العقل عبر المواقف الإنسانية، بل في انهيار نظام العقل إمام المعايير العامة. فمَنْ يمتلك استعداداً لترهيب غيره، إنما لا يستطيع التأقلم مع أي سياق عام من جنس الدولة أو مؤسساتها. ولا كيف ينطلق كإنسان من حيث يحيا الغير. كما أنَّ الإرهاب يختلف من ثقافة إلى أخرى ويندرج على طاولة الجدال الذي لا ينتهي. وهذا ما يسمى بالشيء العرضي فيه والذي يجد نفسه داخل دائرة ما هو جوهري ( دين– أخلاق – معرفة - ميتافيزيقا )، أي يجد نفسه ملتصقاً به أو عاملاً على منواله أو محولاً إياه إلى برنامج حرب.

يمكننا أن نتساءل تباعاً: لماذا يسعى الإرهابُ لأنْ يكون استثنائياً وغير مباشر؟ لأنه يأخذ في صفاته معالم هذا البعد الجوهري بالرغم من كونه طارئاً في حركته وآلياته كما قلت. لا يعني ذلك أن الارهاب لا شيء، بل يحتل المواقع الثقافية والفكرية والأيديولوجية القائم فيها. إنّه قد يرهب بآليات التدمير أو التفجير أو الهدم أو التخويف وبشكل أكثر وقعاً. فهو يقتات- مثلاً- على العنف الطائفي أحياناً وعلى التعصب المذهبي أحياناً أخرى وعلى اختلاف الأديان أحياناً كثيرة وفي أوقات غيرها يعتمد على رصيد الحرمان بأصنافه الاجتماعية والسياسية والسيكولوجية. ولذلك يبقى الارهاب مرتبطاً في المقام الأول بالغواية اليوتوبيةutopian seduction للهوية التي نشأ عنها. إذ بدلاً من كون الطريق إليها مفروشاً بالآمال والوعود الحرة، سيصبح ملطخاً بالدماء. الإرهاب في هذا الشأن لا عيون له، لأنه لو أبصر لميّز ابتداء أين يقف بأقدامه الملوثة، إنما خطابه طائش تماماً مثل قذائف طائشة لا تفرق بين بريء وغيره.

حصيلة هذا كله أنَّ الارهاب يؤكد على كونه جريمة ميتافيزيقية بمعنى الكلمة. لأنه يغتصب اسرار الموت والمجهول والحياة وترك كل الآثار على صعيدها، وبالوقت ذاته يأخذ مكانة إلهية مقدسة تقرر مصير الأشياء. وفي ذلك الاتجاه يستمد قوته من محاولة استعمال الميتافيزيقا في اعمال القتل والتدمير. وأيضاً جميع ما سبق يوضح علاقة الإرهاب بجوانب الدين رأساً دون جدال. لكن ماذا يضيف البعد الديني له؟ هنا ليس للإرهاب غير سلطة القتل رمزاً ومادةً. إذن من سيعطيه السلطة بهذا البذخ الدلالي؟

إن الإرهاب يحتاج إلى دماء قوية تتدفق في أذرعه الممتدة عبر المجتمعات. والدين لا يأتيه بمتون النصوص والفتاوى التي تهدر أرواح الآخرين فقط، إنما يجعله بالغاً، متجاوزاً فكرة الله ذاته لدى البشر؛ أي سيجعله ممسكاً بالوجود الإلهي آخذا قدراته في عبارات التكبير والحمد والمنّة على ما يردد ممثلوه بعد عمليات الإرهاب. فالارهاب عمل تخريبي في بيت المعاني الإلهية، في وجود الله و أفعاله وصفاته ونصوصه المقدسة. لم يعد التأويل العنيف يطال النص في شكله الحدي، لكنه يتدخل بحماقة منقطعة النظير في ماهية الله.

معنى الله في نظر الإرهاب لا يعدو أن يكون جهاز انذار قابل للتفجر عن بعد. يحمله هذا الملثم أو ذاك تاركاً أثره القاتل باتساع الساحات والأبنية العامة. لأول مرة في تاريخ الإسلام تقول طائفة إن الله يُفجر ويقتل ويذبح وإنه مدموغ كبصمات بارزة على فتيل قنبلة بصناعة القاعدة أو داعش أو غيرهما " made in". وإذا كان البعض يستغرب من عبارة نيتشه " الإله قد مات"، فإن هذه التنظيمات الإرهابية قد أمعنت في قتله علناً بوضح النهار. كل عمل إرهابي هو تجاوز مقيت لما هو الله داخل البشر. لم يوجد من يزعم بأن الله يقتل سوى هؤلاء الطغمة الدموية التي لا تتورع عن انتهاك شرائعه جميعاً سواء أكانت شرائع إبراهيمية أم غيرها.

كيف تجري فكرة الله مع من يفجره بهذه الصورة الميتافيزيقية؟ من تلك الجهة هي فكرة خرافية قديمة جداً بمدلولها هذا. لا أبالغ حين اعتبر الجماعات الإرهابية جماعات وثنية بملء الكلمةِ. لأنَّها تنظر إلى فكرة الله كألة قتال بالدرجة الأولى كما لو كانت رمحاً أو عجلة تجرها خيول أو سكيناً أو قنبلة مدمرة. الارهابيون يسهرون بشكل معاصر ومتأخر على صناعة إله الحروب في الأساطير الغابرة. هذا الجانب الميتافيزيقي لإلهٍ هو المنتقم، الجبار، المتكبر. إله سيحرق عباده في لهيب النيران دون أية صفات ولا أفعال تسامحية أخرى. الإرهابي لا يأبه بانفتاح الفكرة الإلهية وتنوعها في التاريخ، حتى لو قالت له جميع الإنسانية قاطبة: هذه جريمة ميتافيزيقية!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى