أ. د. محمد عبد الرحمن عطاالله - الرمز ونعومة الملح عند سيد شعبان

" ناعم يا ملح " قصة قصيرة من قصص الدكتور سيد شعبان ؛ يمتزج فيها الواقعي بالأسطوري، والشعبي بالخرافي، وهذا النص مفعم بالرموز، شديد الإيحاء، يُلمِّح ولا يصرح.
تدور أحداث القصة في إحدى القرى المصرية، ولم ينصَّ السارد على قرية بعينها؛ بحيث يتسع المكان؛ ليشمل قرى مصر بأسرها، ويتلبس الحدث بسبعينيات القرن الماضي " تُقال حكايات: إنهم بنوا سدًّا عاليًا عند بلاد النوبة؛ ستأتي الخيرات لاحقًا؛ هذه تميمة جدتي: كفٌّ مبتور مخلوط بدم أضحية العيد؛ لكنه يأتي على أية حال؛ وراءه سرٌّ يغلفه بألف حكاية؛ الفقراء يدخلون الجنة مبكرًا".
هنا يختلط الواقع بالخرافة؛ بناء السد العالي – من المفترض – أنه رمز الرخاء والخير والوفير؛ بينما تأتي الخرافة متمثلة في تميمة الجدة، وتبقى العبارة في نهاية المقتَبس رامزة إلى خداع الفقراء، وتخدير مشاعرهم؛ ليرضوا بفقرهم، وشظف عيشهم.
ويرمز بائع الملح/ الشخصية الرئيسة في النص إلى السواد الأعظم من الفقراء، وتَبْرَع شعرية اللغة في تصوير شقاء الرجل، أو عناء الشعب " يحمل جِوَال الملح، وللعرق في الصيف عناء؛ تلفح وجهه النار؛ تدفعه الحاجة إلى أن ينادي على بضاعته الكاسدة؛ ترى من يشتري الضنى، وقد امتلأت الحياة رهقًا: يا مصلح يا ملح!"
ويستدعي السارد النيل زمن طفولته؛ عندما كان يتدفق ماؤه غزيرًا؛ يغدق كفه على المدائن والقرى، ومن ثم انعقدت وشائج الحب، وعلائق العشق؛ بين النيل والمحروسة/ مصر " كنت أنا ذلك المغطى بكساء أزرق مثل النيل؛ يوم كان يتهادى؛ يحب المحروسة؛ يقبل شفتيها".
وينقلنا السرد مباشرة إلى المرأة التي تشتري الملح؛ تلك المرأة الجميلة؛ ترمز إلى مصر؛ التي قبَّل النيل شفتيها؛ زمن تدفقه، وعطائه الفيَّاض" ينظر من نافذة نصف مشرعة؛ تخرج يدٌ بيضاء حلوة؛ مثل حليب بقرة جدِّي؛ منديل يهفو به ألوان زاهية؛ حواشيه مطرزة بالخرز الفضي اللامع. ينادي مرة ومرة؛ مصلح يا ملح!".
وترمز البقرة في الملفوظ السردي إلى المنح والعطاء، ويستمر عطاء النيل؛ فيمنح " أم رمضان" خيره؛ فتزرع، وتأكل " أم رمضان وراء الكوم تزرع الثوم! يا خالة يا أم رمضان؛ قومي اتسحري بالجرجير، والعيش الطري".
وتظل المرأة/ مصر جميلة شابة فتية؛ زمن الخير والعطاء " يتورد خدَّاها؛ مثل الورد الأحمر، وقد غازله الندى! ابنة عشرين عامًا حلوة، بل أجمل البنات".
ونعاين في فضاء السرد قفزة زمنية؛ تحمل في طياتها فعل المفارقة؛ وتبدّل الأحوال " مضى أربعون شهرًا؛ واحدًا وراء آخر؛ بي للعب حنين، أرتدي الثوب الأزرق بلا سروال، اُطلق ساقي تدبُّ؛ ترى أين هي الآن؟"
الزمن هنا مجازي؛ فالأربعون شهرًا؛ ربما تمتد إلى أربعين عامًا؛ ومن هنا ينقلنا السرد من الزمن الماضي إلى الزمن الحاضر، ويشير الثوب الأزق بدون سروال إلى حالة شديدة من حالات الفقر والضنك.
وهذا الفقر، وشظف العيش؛ لم يتوقف عند السارد؛ بل شمل بائع الملح، والمرأة الجميلة/ مصر المحروسة " أما تزال حمراء الخدين؟ يبدو أن الملح صار مجعدًا مثل صوف الشاة؛ ضمر ثدياها؛ كان مثل حبتي الرمان، تمزق منديلها؛ ابتلعه البحر بملوحته. انطفأت بلادي".
إن عبارة "انطفأت بلادي"؛ كشفت الرمز الكامن في المرأة/ الوطن؛ فجاء ضمور الثدي؛ رامزًا إلى انقطاع العطاء؛ ومن ثم صار الملح مجعدًا؛ فقد أصاب الضنك " بائع الملح" باعتباره رامزًا لطبقة الفقراء من أبناء الشعب.
وانتهت القصة بنهاية المرأة برمزيتها في العطاء" أم رمضان ما عادت تأكل الخبز الطري؛ مثل أعواد الحطب؛ تذروها الريح في كل مكان".
هذا النص برموزه المتعددة؛ كان له القدرة على الإيحاء النفسي؛ بتعبيره غير المباشر؛ مما يجعل للمتلقي القدرة على استنتاج فكرة المبدع، والبحث عن ثيمة النص؛ فيضحى مشاركًا في إبداعه؛ عبر فعل القراءة الواعية.




1627118579529.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى