شهادات خاصة يوسف القعيد - مشاهد الأديب المغامر

عرفته سنة 1968… كنت قد انتهيت من كتابة روايتي الأولى: «الحِداد». كان عنوانها الأصلي: الحِداد يمتد عاماً آخر، وحسب تعليمات الدولة** المصرية في ذلك الوقت. كان لا بد من الذهاب بمخطوط العمل الأدبي للرقابة. كانت موجودة في مبنى هيئة الاستعلامات بشارع سليمان باشا. بالقرب من ميدان سليمان باشا. ويومها اعترضت الرقابة على العنوان. قال لي الموظف المسؤول: فال الله ولا فالك. سننتظر سنة أخرى حتى نزيل آثار العدوان؟

لم يكن الموظف يعرف أننا سننتظر سنوات حتى سنة 1973 بالتحديد لكي تتم إزالة آثار العدوان. اخترت عنواناً آخر لروايتي: «الحِداد يليق بأهل مصر». وبينما كنت أستعد للذهاب للرقابة بالرواية بعنوانها الجديد. نبهني صديق إلى أن هذا العنوان هو عنوان ثلاثية مسرحية. كتبها المسرحي الأميركي يوجين أونيل. عنوانها: «الحداد يليق بإليكترا». تتناول أسطورة إليكترا الشهيرة في التراث الإغريقي.

في اللحظات الأخيرة اكتفيت بعنوان: «الحِداد». ولأن الكلمة طبعت غير مشكولة العنوان، نطقها كثير من الزملاء الصحافيين بل والمثقفين أيضاً «الحَدَّاد». والحِداد حالة إنسانية. بينما الحدَّاد مهنة. وأضطر لتصحيح الخطأ أحياناً وأتغاضي عن تصحيحه في أحيان أخرى كثيرة. من باب الحياء لا غير.

كنت أبحث عن ناشر ينشر روايتي. ولم تكن سوق النشر رائجة مثل أيامنا. ولم تكن دور النشر الخاصة كثيرة كما نراها الآن. كان عدد دور النشر التابعة للدولة والخاصة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. إلى أن وجدتني وجهاً لوجه أمام سمير أحمد ندا. هكذا قدم لي نفسه في اللقاء الأول. رغم أنه اشتهر فيما بعد بسمير ندا فقط.

ونحن وقوف في هيئة الكتاب كان مسماها في ذلك الوقت: دار الكتاب العربي. وكنا نقف بالقرب من مكتب صلاح عبد الصبور. الذي كان يشغل مدير عام النشر. في حين كانت رئيسة دار الكتاب العربي الدكتورة سهير القلماوي يرحم الله جميع من رحلوا رحمة واسعة عندما تعرفت على سمير ندا وقلت له: لديَّ رواية أبحث لها عن ناشر. صحيح أننا في دار النشر الرسمية. ولكن طوابير الانتظار فيها تصل حتى ميدان التحرير. كانت دار الكتاب العربي تشغل دوراً من عمارة أوركو بشارع 26 يوليو المعروف جماهيرياً بشارع فؤاد. وعلى الفور قال لي إنه في سبيله لتأسيس سلسلة شهرية تسمى: كتاب الطليعة. تنشر الأعمال الطليعية للأدباء الجدد في مصر.
سمير ندا وكتاب الطليعة
سمير ندا وكتاب الطليعة

تركته على أساس أنه كلام والسلام. مثلما نفعل نحن أهل الثقافة. نتكلم كثيراً ونفعل قليلاً، لكن سمير ندا كان مثقفاً وكانت لديه قدرة عملية في نفس الوقت. وكان يترجم ويكتب وينقد ويمارس كل هذا بدقة تثير الإعجاب. وبالفعل خلال أيام خرجت الفكرة إلى النور. وقدمت له مخطوط روايتي وذهبنا معاً لمطبعة صغيرة في شارع الترعة البولاقية بشبرا. كانت اسمها مطبعة الجبلاوي. وقام بعمل مقايسة لطبع الكتاب تعدت المبالغ المالية التي كانت معنا. وكان المطلوب العثور على كتاب أصغر من حيث عدد الصفحات لنبدأ به السلسلة.

فاتحت صديقي جمال الغيطاني إن كان لديه عمل أدبي يريد نشره. وقد دهش من المفاتحة ونظر لي باعتباري شخصاً غير طبيعي وأحضر لي في اليوم التالي مجموعته القصصية الأولى التي نشرت تحت مسمى: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». وكان عنوانها الذي أعطاها لي به: «أيام الرعب». وبعد قراءة المجموعة اقترحت عليه تغيير العنوان. لأن أوراق شاب فيها رؤيا أكثر من أيام الرعب. وقد وافق فوراً.

سمير ندا دينامو يعمل على مدى الأربع والعشرين ساعة، يبدو أن عقله يعمل حتى وهو نائم. فقد أخرج إلى الوجود مجموعة جمال وروايتي ومجموعة قصص لعبد العزيز مصطفى. وديوان شعر لمجدي نجيب. ورواية سمير ندا: «الشفق».
سمير ندا في اجتماع صحفي
سمير ندا في اجتماع صحفي

لا يتصور أحد أن سمير ندا كان رجل أعمال أكثر من كونه رجل فكر، فعندما كتب رجاء النقاش مقاله الشهير: «هل أصبح نجيب محفوظ عقبة أمام الرواية العربية؟» ودلل رجاء في هذا المقال على أنه في أعقاب كل روائي كبير تأتي فترة تراجع في كتابة النص الروائي. أكد هذا من خلال السنوات التالية لوفاة ديستويفيسكي وتولستوي في روسيا القيصرية ووفاة فلوبير في فرنسا. وتشارلز ديكنز في بريطانيا.

وانطلاقاً من هذه المقولة قال رجاء النقاش – كان ذلك سنة 1969 – إن بعد الدور الضخم الذي قام به نجيب محفوظ في دفع الكتابة الروائية لتحتل مركز الصدارة في الكتابة الأدبية عموماً. لا بد أن تأتي فترة جفاف واضمحلال وتراجع في الكتابة الروائية قد تمتد سنوات طويلة.

كعادة نجيب محفوظ التزم الصمت تجاه القضية. وربما لم يتكلم إلا مع رجاء النقاش صاحب القضية نفسها في حوار لم يؤكد فيه ما ذهب إليه رجاء أو ينفيه. لكني أشهد أننا جميعاً التزمنا الصمت وخفنا من الدخول في القضية. الوحيد الذي تصدى لرجاء النقاش بسلسلة مقالات كان سمير ندا. أصبح يتردد يومياً على دار الهلال وبيده مقالات يرد بها على ما جاء في مقال رجاء النقاش ويثبت أن نجيب محفوظ لن يكون آخر المطاف في الكتابة الروائية المصرية والعربية.
سمير ندا برنامج إذاعي بغداد
سمير ندا برنامج إذاعي في بغداد

ثم سافر سمير ندا إلى العراق ورجع إلى مصر. وعاود السفر إلى المملكة العربية السعودية. ولبى نداء مصر وعاد إليها. ولم يلبث أن شدّ الرحال إلى ليبيا ومكث فيها سنوات وعاد منها ليقضي سنوات عمره الأخيرة يخرج من مرض ليدخل في رحاب مرض آخر. ترك «شبرا» والمنزل الذي ترددت عليه في ستينيات القرن الماضي وكان منزل والده. وآخر مرة هاتفني وقال إنه يسكن في شارع فيصل أو شارع الهرم بالهرم. ثم انقطع الاتصال حتى عرفت بخبر وفاته.
الشفق سمير ندا
رواية الشفق لسمير ندا

كتب سمير ندا رواية: «الشفق». وعلاوة على تجربته الإنسانية التي تجلت في روايته، فقد كانت في الرواية أصداء قراءته للرواية الأوروبية من تيار الوعي وتداخل الأصوات وأنفاس الشعر. ثم كتب رواية: «حارة الأشراف». وبعدها رواية: «وقائع استشهاد إسماعيل النوحي». وله في المجموعات القصصية: «الشروق من الغرب – والله زمان»، وكتب نصاً مسرحياً هو: «لن نموت مرتين».

مغامرة سمير ندا لم تتوقف عند حدود الكتابة. ولا كونه عمل مستشاراً إعلامياً وثقافياً في عديد من البلدان العربية التي زارها وعمل بها. لكنه حاول إخراج بعض الأفلام التسجيلية. وإن كنت لم أشاهد أحد هذه الأفلام. فقد سمعت عنها. وسمعت ثناء من شاهدوها عليها. وقولهم إن الرجل يمتلك رؤية تمكنه من الإخراج السينمائي.

سمير ندا – متعدد المواهب – كان يترجم. وما زلت أعتقد أنه هو الذي ترجم مسرحية صامويل بيكيت «نهاية اللعبة أو لعبة النهاية». وهي المسرحية التي اعتبر صدورها في أوروبا بداية لتيار أدبي كامل هو «مسرح اللا معقول». وعندما قدمت على مسرح الجيب في قاهرة الستينيات. أحدثت دوياً غير عادي. وزلزلت أركان الكتابة المسرحية المستقرة الواقعية التي كانت سائدة حتى تقديم هذه المسرحية. وأعتقد أن الدكتور محمد غنيم هلال كتب له مقدمة لترجمته لمسرحية صامويل بيكيت.
سمير ندا ترجمة
سمير ندا وترجمة لمذكرات جولدا مائير

مغامرات سمير ندا لم تكن تحدها حدود، فهو الذي ترجم مذكرات جولدا مائير رئيسة وزراء العدو الإسرائيلي. وقد استغربت كثيراً من أن يُقدِم على هذه التجربة الخطيرة. فالترجمة ليست محاولة نقل من لغة إلى لغة. بقدر ما هي تمثُّل واستيعاب للنص في لغته الأصلية. والقدرة على نقل النص من هذه اللغة إلى اللغة المترجَم إليها وهي اللغة العربية. وكان سمير ندا ضليعاً فيها.

أقول الآن – 2013 – إنه لولا سمير ندا الذي توفي منذ أيام عن 75 عاماً ما نشرت أنا روايتي الأولى. وما نشر جمال الغيطاني مجموعته القصصية الأولى.

يرحمه الله رحمة واسعة.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى