د. سيد شعبان - حنجول!

جلست بجواره وأخذت تمتاح من ذاكرتها، يبدو أن الأمهات يأتين بما يمكث في الأرض: ضرب الجدب الكفر في سنواته العجاف؛ دارت الرحى بحب غريب لايشبه القمح ولا الذرة لم تخرجه باطن الأرض؛ تزهو كل امرأة بما فوق رأسها؛ صفائح لا يثقلها غير الضنى.
خليط عجيب تلتهمه أفواه الجوعى، لايعرف حنجول غير أن يختلس قبضة من هذه وعيارا من تلك؛ في ركن خفي تسكنه أم علي زوجته التي سمنت حتى ترهلت عجيزتها، بؤس هنا وامتلاء بطون هناك، تتصايح النسوة أيهن يقدم طحينها حنجول أولا!
أقاويل غرق بها الكفر؛ تفر الصبايا من وجه حنجول؛ تبور الواحدة منهن إذا ما لاكتها سيرته؛ يشبه جرب العنزات بعضه يعدي وكثيره يذر القطيع نهب الذئاب.
تغافل عن ذات قربى؛ وهل تراه إلا مجيد قنص حفنة من دقيق؛ يكون الخبز أغلى حين تجدب الحقول، تتراقص بهية وتتمايل، مرة وراء أخرى بسيل لعابه؛ تختال في مشيتها؛ لا تملك صفيحة قمح ولا عدلها ذرة؛ عيناها غمازتان تعرفان كيف تشد حنجول فيضل سعيه إلى ركن أم علي؛ يوما وراء آخر وهي تبدي زينتها؛ حين يضرب الفقر باب بيت فلا حياة بغير الحيلة.
يغمس يداه في أوعية يربطها الحرص، يتحايل في دهاء شيطان، يقترب من بهية فيسكره حاجباها، يدور وراءها فتتمنع في خبث؛ تفر من قبضته، يحمل على كتفه الطحين فتذروه هباء منثورا.
أشارت إليه فسال لعابه؛ أفعى تدير حيلة وراء أخرى؛ ركن أم علي به الدقيق والسمن والعسل؛ ويمتليء بصفائح يختزن فيها الدهن؛ لحم مقدد وملح وخبز.
يسألها ومن حنجول؟
ومن أين أتى؟
أدارت في ذاكرتها ألف مطرقة كتلك التي يدير بها حنجول إطار ماكينة الطحين؛ حجران كبيران يعصفان بالحب؛ تتناثر حبة هنا وهناك تطمع بهية في ملء وعاء من طحين.
تضرب الغيرة قلب أم علي؛ تشدها إلى بئر الطاحونة؛ فالجن هناك يسكنون؛ صخب يتماوج بنثار دم تخرجه عينها؛ قطع من ثياب ممزقة؛ تعوى كلاب جوار الحائط؛ تخرج بهية ويداها بها بقية من شعر أم علي؛ يطرب حنجول، تدور النداهة في الكفر؛ حرامي الطحين يرمي بأم علي في بئر النار.
انتشر الخبر في كفرنا تناقلته أفواه العجائز، بات الناس يتساءلون ومن يدير ماكينة الطحين؟
لا يعبأون بما جرى لأم علي تشغلهم بطونهم حتى ولو كان ما يطعمونه أرغفة مغموسة في بئر يرتج من دمها؛ يزدهي حنجول وتسكره خمرة تتقاطر من ريق بهية التي تسكن ركنه الذي امتلأ بأكداس من الغلال: فول وقمح وذرة وصفائح السمن يتراص بعضها فوق بعض.
كلما ضرب الجوع بطونهم تمنى كل واحد منهم أن يكون مكانه؛ وجاهة المعلم حنجول وقوامه الفارع؛ لا يشغلهن أن أسنانه من صفيح يقسم سموعة مزين الصحة أن بفمه عظام كلب أجرب غرست له في البندر، لايهتمون بغير سمنه وعسله.
تفلت عن يسارها؛ تلك طبيعة فيها حين يتداعى إليها خبره؛ تذكرت كيف قصت عليها الجدة حديث الغجر الذين سكنوا الخرابة القبلية؛ كانوا أشبه بالبوم ينعق في كفرنا ومن يومها سرح فيه الفقر.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى