هشام جلال أبوسعدة - بائعات الهوى

نحن نمتلك رخصة يا سيدي. هذا ما سمعه من الشاب داكن اللون، لعله جرّاء عدم الاستحمام، في واحدة من شركات التسويق. التسويق لماذا! لا أحد يعرف، لعله التسويق لكل شيء وأيّ شي؛ فتلك مهنة دخلت مصر في ثمانينات القرن الفائت، عصر الانفتاح، بدأت بشركات توظيف الأموال وانتهت بشركات الياناصيب وبيع ما لا يمكن بيعه، ما لا يصح بيعه، يبيعون الهواء. شابُ رِبِع، قصير عريض، يرتدي قميص أبيض مائل للصفار، يملأ أثر العرق وجه ولحيته التي قصها مُتأسيًا برجالات الخليج، قابع خلف مكتب خشبي، على وجهه ابتسامة لئيمة، تبدو حُفِرَتْ في تجاعيده فميزت سماته؛ يكاد المريب أن يقول خذوني، يبدو عليه يبيع الهواء برخصة.

***

كانت للباغية رخصة. لعل كثيرون منا لا يعرفون أن البغايا في مصر كان يُطلق عليهم بائعات الهوى، أول مهنة عرفها التاريخ كانت البغاء، يقولون أنها نشأت كعادة في المعابد المصرية القديمة لفض غشاء بكارة البنات المقبلات على الزواج، يقوم بذلك أيُ شابٌ قادمٌ للصلاة في المعبد وتصادف وجود الفتاة، فيفض الغشاء ويُلقي بالمال في حجرها. تلك الفعلة باتت عادة مهما ارتفعت مكانة الفتاة.مهنة دخلت مصر مع العرب، ثم انتشرت في القرن السابع الميلادي، فباتت رسمية مُسجلة في مقر رئيس الشرطة (الصوباشي)، كان لها ضريبة يُطلق عليها ضريبة البغاء، نظمها الاحتلال الفرنسي، أما الاحتلال الإنجليزي فقد أتى ببغاياه معه من الخارج. الغاها محمد علي باشا في العام 1837، لتصدر لائحة التفتيش على العاهرات في العام 1885، ثم كان لهن لائحة تنظيم للمهنة حتى الُغيت في العام 1949. من أشهر شوارع مصر لبيع الهوى (كلوت بك) و(محمد علي) و(عماد الدين) في وسط القاهرة. كانت لها محلات لبيع الأجساد بمعسول الكلام؛ تسلية بما حرمه الله، فتعريف البغاء البسيطأنهممارسة أيّ مهنهة أو طرح أيّ فكر أو اتخاذ أي موقف تشوبه شبهة غيرّاخلاقية والانغماس فيه لأجل المصلحة طمعًا في مال أو جاه أو سلطة بأسلوب يتسم بالخسة والدناءة؛ مُدعين فاعليه الشطارة والفهلوة ...؛ لكِ الله يا بلدي، امتلئتي بالبغايا.

***

دار ذلك في باله أثناء حديثه مع واحد ممن يُطلقون على أنفسهم اليوم "مندوب تسويق" في واحدة من الشركات التي لا تتبين لها نشاطًا مَعروفًا، فهم يبيعون الهواء كما يُطلق عليهم. لا يعرف لماذا ربط بين بيع الهواء بحرف (الألف)، بيع الريح، ما لا يمكن رؤيته ولمسه وبيع الهوى (بالألف المكسورة)، لعل الرابط بينهما أن كليهما حرمه الله، بيع ما لا يمكن بيعه بمعسولِ الكلام؛ نصبٌ. يتذكر واقعة النصب التي وقع فيها هو ويقع فيها عشرات مثله من الراغبين في الفوز بشيء يبدو في بلدنا أنه أنه ليس من حقهم؛ هاتف جوال، ساعة رقمية، كاميرا ضوئية. إنما في الكل مكان فكرة الياناصيب المفتوح للفوز بأيِ شيءٍ وكُل شيء مقابل التسويق لسعلة محددة أو عدة سلع أمر معروف ومشروع. حتى في بلدنا هناك أجهزة ووزارات تُشرف على هذه العمليات وتجعل لها شكلًا قانونيًا واقتصاديًا مَعروفًا. فالقانون أباح لبعض الشركات الراغبة في تحريك الأموال وحركة البيع أن تأخذ من شكل الياناصيب فرصة لجذب أكبر عدد من العملاء لتشجيعهم على الشراء، ثم يُخصم جزء من كلفة هذا الياناصيب وما تقدمه الشركة من خصومات لعملائها من ضرائب الشركة، ومن هنا يُصبح العميل مُستفيدًا بالخصم، وتُصبح الشركة مُستفيدة بتحريك رأس المال بالبيع، وهنا يستفيد بعض من لهم حظوظ في الحصول على ما هو مطروح في الياناصيب من أجهزة كهربائية أو غيره مثل وجبة في مطعم أو سيارة من الفئة الثالثة، في بعض البلدان العربية تكون السيارة من أحدث طراز. العالم كله يقدم هذه الخدمة ضمن عرف مُتفق عليه بين كل أطراف المستفيدين: الحكومة، أصحاب الشركات، العملاء، من يكون لهم الحظ في الفوز بالجوائز حتى لو لم يكونوا من العملاء المباشرين، إلّا في بلدنا جرى العرف أن يتحول الأمر إلى حالة من حالات الغش التجاري، بيع الهوا، استعراض لبيع الهوى، فبعد طول معاناة مع بائعي الهوا (أو الهوى) يتحول الأمر إلى حالة نكدة من الشد والجذب في محاولة للتهرب من كُلِّ الأعراف التي تم الاتفاق عليها شفاهة، في محاولة من هؤلاء المدعين في عدم الالتزام بأي اتفاقات مسبقة، في محاولة للتشبه ببائعات الهوى التي تبيع جسدها ثم تقف بعلو الصوت لتقول لك إنت فاكرني إيه؟ أنا واحدة بتشتغل بشرفها، لحتى أرادت واحدة من مخرجات هذا الزمان العودة لتقنين تلك المهنة، تأسيًا بكل ما يحصل في حاضرنا اليوم من بيع للهوى، وما العيب إن كان الكل يُنادي بفصل الدين عن السياسة، بعدم ذكر أي ما يخص الأديان في دستور البلاد، أن يقوم بوضع الدستور مخرج أفلام تحض على الرزيلة، وشارب بانجو، وحرامي غسيل:
- إنت ليه محسسني إنك قاعد مع حرامي غسيل!
هذا ما قاله له مندوب بيع الهواء بعد ان استفزه مُعربًا له أنه يلف ويدو، يحاور ويداور، لا تتبين لا ملامح، لا يريد الوفاء بما وعد وقت تقديم العرض في واحدة من دور العرض السينمائي بأكبر متاجر وسط المدينة، فبانت لهذا المندوب ضحكة صفراء. أمسك الضيف بدعوة العشاء وكوبونات السحب واستمارة التسجيل ومزقها بكُل ما يحمله من قرفٍ بالغ حاصل هذه التجربة اليومية الغبية. *** - حضرتك يا فندم كسبت معانه. صوتٌ قادم من البعيد، يتذكر يوم استوقفه شاب قبل أيام قليلة من الحاصل في مكتب هذه الشركة التي تبيع الهواء. ليل داخلي، في الطابق الخامس للسوق التجاري المغلق،شابٌ سُفيف لا ينظر في عينيك أبدًا مثل فرقع لوز، يقفز على أطراف أصابعه، ملوحًا بظرفٍ أصفر كموني في يده، كأنه يصطاد به شيئًا، قلت لكم مثل بائعات الهوى، (إيرما لادوس) بائعة الهوى الفرنسية الشهيرة كانت تقف على أطراف النواصي تصطاد الرجال بابتسامة وضحكة، (شادية) الفنانة المصرية فعلت ذلك في بعض أفلامها. اصطاده الشاب وزوجته وطفل صغير، عارضًا مظروف فيه دعوة عشاء، وقعت النحلة في طبق العسل، شبكة بغاء تسويقية منظمة تعرف كيف تسحب الفريسة، الحق يقال ما فعلوه لا يمت لمهنة التسويق بصلة، هو أقرب لبيع الهوى.
- سيادتك يا فندم أول مرة تشرفنا؟
- مش فاهم؟
- سيادتك كسبت معنا عشاء فاخر في مطعم فاخر، بس يا ريت تسجل اسمك معانه، تفضل...، تفضل...
يُطلقون عليها في بلدنا جر رجْل، أول خيط من شبكة خيوط العنكبوت، يقع فيها الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، بعضهم طمعًا في المكسب السهل، وبعضهم اعتاد في الدول المحترمة على تلك المفاجأت في المتاجر الكبرى وأمكنة الترفيه والتسلية، قلت لكم عرف اتبعه العالم المتقدم لتنشيط الاقتصاد، انتقل للعالم النامي في صورة الضحك على الذقون، تسييل لعاب الفقراء والمحرومين. لكنه هو من النوع الثاني، اعتاد في زياراته للبلدان المتقدمة أن يقدم له العاملون في تلك الأمكنة ترويجًا لسلعهم. - كسبت معنا يا فندم عشاء فاخر في المطعم الفاخر.
- ده صحيح، شكرًا، عرفت ذلك من مندوبكم في الخارج.
- حضرتك فيه حاجة كمان. - ماذا؟ - ممكن تكسب كمان معانه هدايا فورية.
- عال ...، عال.
- من سعيد الحظ في الأيام السابقة؟
تراجع الزوجين ليقدما الطفل، متفقين معًا على أنه صاحب الحظ الأوفر.
- انظروا لهذه الكوبونات الزرقاء، لم تحظ اربع أسر قبلكم بالجائزة الكبرى، إن كشطتم الكوبون ولم تفوزوا معنا، ستظل دعوة العشاء سارية، كما سيمكنكم كسب هدايا فورية مجانية هائلة.
أخرج كتيب براق لامع فاتحه على صورة تضم: أي فون، ساعة رقمية، كاميرا من أجود الأنواع. - أيوه أيوه عايز الأي فون. هكذا صاح الطفل صيحات متتابعة فرحًا بالجائزة.
- أكشط هنا من فضلك. - ......
- تصدق أنتم أول أسرة تفوزونالليلة بهذا العدد من الكوبونات؛ خمسة كوبونات مرة واحدة.
- ما الجائزة الكبرى؟ - عربية سيادتك إيه؟
- بيجو - عربية المدام إيه؟ - تويوتا كورولا
- الجائزة الكبرى سيارة مرسيدس موديل هذا العام، ... أتصدقون؟!
ذلك كان الخيط الثالث من شبكة خيوط العنكبوت، كما عرفنا الخيط الأول المظروف الأصفر كموني لحفلة عشاء لفردين، الخيط الثاني الهدايا الفورية الرقمية وارد الخارج، الخيط الثالث السيارة طراز حديث، نموذج لشبكة بغاء تسويقية محترفة ومتمرسة في بلد يفتقر للأخلاق. في الواقع حتى الآن هو لم يقدم لك أي شيء في مقابل استهلاكه وقتك وجهدك وانتباهك، بل واستقطاع ساعة من وقت نُزهتك مع أسرتك، كُل هذا لا يهمه؛إنما كُل اهتمامه أن يكسب مال من الهواء. - في الحقيقة سيادتك هتشرفنا في مقرنا الكائن في مقر الشركة الرئيس لتتعرف على منتجنا الأصلي، منتجع سياحي خمس نجوم بأفضل تسهيلات لهذا الموسم. هكذا قدم خيطًا رابعًا ليس له أيّ علاقة بالخيوط الأولى، يفعل مثل المرأة السحابة، التي تبدأ معك بفتلة خيط هدية، قبلة على الخد حتى تتمرمغ معك في دولاب الخطيئة الأحمر الداكن. - إذن موعدكم السبت ضُحى...، آه ... آه...السبت القادم هو موعد استقبالكم في مقر الشركة للحصول على الجوائز. - شكرًا جدًا.*** شكرًا جدًا، ولسه هتشوفوا، تلك هي الحياةوما وصل إليه الحال من بغاءٍ ودعارة فكرية تسويقية وقانونية وأمنية، في الحقيقة لم يعد أحد يطمئن لأحد، الكل يعد أصابعه بعد مصافحة الكل، ربي...، كيف يمكن لأدمي أن يعيش في مثل هذه بيئة عفنة نتنة ...؟ بيئة حياتية مريضة تستهين بكل القيم الإنسانية الأخلاقية والتربوية. لم يعد لنا عيش فيها، مات من نحب في الوقت المناسب، رحلوا عن دنيانا في أشد الأزمنة خِسة ودناءة. - رب إخرجنا منها على خير، ليس لنلقى الأحبة فحسب إنما حتى لتنقذنا من أوهن البيوت؛ بيت العنكبوت. تلك دعوته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه، رحل عن دنيانا في نفس العام مصحوبًا بزغاريد وتهاليل.

تعليقات

أعلى