نجيب محفوظ - أحزان الطفولة

مات أبوه فأحدث موته هزَّة عنيفة فى نفسه، فجرت بها ينابيع الحزن والألم والخوف، وجاء الموت بغتة فلم يسبق بما يمهد له عادة من مرض مستفحل، أو حادث أليم، أو عمر بالغ فى الكبر، وقد قابله صباح يوم الوفاة كعادته كل صباح وتناول معه طعام الإفطار وقرأ عليه الصحف وجاذبه بعض الحديث ثم غادر البيت لقضاء بعض الشئون فغاب ساعات معدودات، ولدى عودته وجد البيت- الذى غادره ساكنًا تظلله الطمأنينة- صاخبًا فزعًا يمزق سكونه التصويت ويئن فى تضاعيف جوه البكاء والعويل، وتلقى الخبر الأليم بأن أباه العزيز- الذى كان يحادثه منذ حين قصير، والذى كان يبدو ممتلئًا صحة وعافية- انتقل فى دقيقة من الساعات التى غابها عنه إلى عالم آخر لا يبلغه حى فى ملايين السنين.. وأنه صنع هذه المعجزة الكبرى دون بذل أى جهد أو قوة، بل إنه صنعها بسلب الجهود والقوى جميعًا.. فبلغ به الانحلال ما لا يبلغه استجماع القوى وتوثب العزائم، وغاب فى غمرات ذلك العالم المجهول الذى أعجزت حقيقته خيال العلماء والفلاسفة..
على أنه لم يُعْنَ- فى تلك الساعات الرهيبة- بالتفكير فى كُنْه العالم الذى صعدت، أو هبطت، روح المتوفَّى إليه، ولكنه وقف مبهوتًا، ذاهل الحواس، ذاهب النفس، أمام حقيقة عجيبة لا يجهلها إنسان ولا يقبلها قبوله للحقائق المسلَّم بها أبدًا، وهى أن ذلك الوالد العزيز الذى كان يملأ هذا البيت حياة وسيادة، صار جثة هامدة.. هامدة جامدة كالتراب سواء بسواء، وأن دبيب الفناء يدب الآن فى بقاياه، وأنه سيظفر بها بعد حين قصير ويحوِّلها إلى شيء تعافه النفس والحواس بل والحيوان والحشرات، وأنه أصبح بالنسبة إليه ذكرى لا أمل فى رجوع صاحبها أكثر مما فى رجوع أول ميت من البشر.. فلا لقاء ولا حديث ولا وجود له بعد اليوم..! وكبر عليه الأمر، لأن عواطفه وآلامه طغت على عقله فتساءل جزعًا بسذاجة الطفل: «كيف أمكن أن يموت أبي؟!» ثم بدا له تساؤله غريبًا شاذًا، فتنهد آسفًا وقال: «ليته امتد به العمر حتى أشبع منه وحتى يهون عليَّ فقده»، وثار على قول بعض المعزين: «إن الموت نهاية كل حي» أو قولهم: «الموت لا يُسخِط عاقلاً»، نعم ثار ثورة مكتومة على هذا التسليم المضحك وقال لنفسه: حقا إن الموت نهاية كل حى، ولكنه نهاية حقيقة بأن تذهل الحى عن نفسه وإن كان يقع فى اليوم الواحد مئات المرات. كيف لا؟.. أيكون من الحكمة أن نثور لضياع حافظة نقود أو لسقوط نائب فى الانتخابات ولا نثور لأكبر حادث يقع لحياة الإنسان، فيبدِّل روحها موتا وأُنسها وحشة وجمالها بشاعة ووجودها ذكري؟ ثم إنه رأى فى موت أبيه نذيرًا مخيفًا يتهدده بالموت. لقد مات أبوه فلم لا يموت هو أيضًا؟ وقد كان بمأمن من هذه الفكرة فلاحت لعينيه سافرة عن وجهها البشع المخيف وملأت نفسه عذابًا وسخرية مريرة.. أكبر ذرية أبيه، وقد أوفى حظه من حب والديه على حظ إخوته جميعًا، فكان فى صباه الطفل المدلل المحبوب الذى لا يقال له أبدًا: «لا»، ونادرًا ما يقول «بلي» أو «نعم»، فنشأ على اعتقاد راسخ بأن الدنيا لعبة طيِّعة بين يديه، وأن جميع متعها قطوف دانية يجنيها أو يزهد فيها كيفما أراد، وأن الدهر لا يصيبه ولن يصيبه إلا بما يشاء، وأنه إذا كانت الدنيا- كما يزعمون- غاصة بالمتاعب والأحزان فهو بمنجى آمن منها. وكان إذا اعترضه صعب أو شاكسته مشقة هتف قائلاً: «أبتاه» أو «أُمَّاه»، وسرعان ما يلين الصعب ويسلس الشاق، فلم يصمد مرة لشدة أو يتغلب على محنة، وكُتب عليه ما كتب عادة على أمثاله من الخيبة التامة فى الحياة المدرسية، فبقى فى حضانة والديه رغم تقدم العمر وبلوغ الثلاثين، وتغير الكثير من مظهره، أما نفسه فظلت متشبثة بالطفولة المقنَّعة.. ولذا كان ألمه لموت أبيه غير ألم إخوته جميعًا- بمَنْ فيهم النساء- لأنه يعنى تهدم ركن من ركنَيْ سعادته، وفقد قلب من القلبين اللذين يعيش على عطفهما ومحبتهما.
ولكن لا ينبغى أن نفهم من هذا أن موت أبيه كان يقضى عليه بالفقر أو التشرد، فقد ترك المتوفى لورثته عمارة كبيرة تدر عشرات الجنيهات كل شهر، ونصيبه منها يكفيه ويضمن له حياة رغدٍ تعوضه عما فقد من عطف وما فاته من عمل أو وظيفة.
وكان أشقاؤه الثلاثة موظفين ذوى مستقبل حسن وأرباب أسر سعيدة، وكانت شقيقاته أيضًا زوجات وأمهات يعشن فى كنف أزواج صالحين، فلم تخلف الوفاة له متاعب عائلية ولا حَمَّلته تبعات جديدة. والحق أنه كان من بين إخوته من يحسده على حياته الهادئة المطمئنة الخالية من المسئوليات والهموم، فكان لذلك كله حقيقًا بأن يغتبط ويتعزى ويحمد الله كثيرًا، ولكنه على العكس جزع جزعًا لا حكمة فيه وتردَّى فى أهوال الألم والعذاب والتشاؤم حتى أشفى على الهلاك والفَناء.. والحق أن العالم كان بريئًا مما حاق بنفسه من التغير والعذاب لأنَّا رأينا ظروفه حقيقة بأن يحسده عليها أغلب المصابين فى آبائهم، فلم يبق سوى عالمه الداخلى وحده الذى يتحمل تبعة آلامه، فقد أحدث المُصاب فى نفسه هزة عنيفة عجزت عن تحملها أعصابه فتضعضعت واعتورها مرض طارئ انتقلت عدواه إلى العالم الخارجى، فكسته لباسًا أسود من الحزن والألم والبشاعة.
وكانت الأيام القلائل التى تلت يوم الوفاة أيام عذاب قاتل وألم مبرح ومخاوف مروعة، وقد قضاها فى عزلة موحشة فريسة للهواجس يجتر أفكار الحزن واليأس ليلاً ونهارًا، وقد بدت له الدنيا مظلمة حالكة الظلمة عاطلة من الجمال، شحيحة بالأمل، مليئة بالآلام والوحشة، ولاح لعينيه المحزونتين- فى الأفق القريب- وحش الفناء فاغرًا فاه يبتلع كل ساعة المئات من الناس البائسين الذين يتعبون فى غير جدوى، ويتخبطون على غير هدى، ويشقون بالآمال ويأملون بالأوهام، ثم يهوون بين أنيابه الحادة غير مجزيين على تعبهم سعادة، ولا متعزين عن شقائهم بأمل، ولا مخلفين غير الحسرة والسخرية المريرة.. فأى حياة هذه! وما الفائدة منها؟ وما الحكمة من وجودها؟.. وأى عذاب هذا وأى رعب! وكيف يستطيع أن يطمئن على حياته فى هذه المعركة الخاسرة؟
حقًا إن دواعى الطمأنينة متوافرة لديه، فهو طليق من متاعب الرجال، وموفور الرزق، ولكن من يضمن له أن تظل العمارة- التى هى مصدر رزقه- آهلة بالسكان؟ بل من يضمن له ألا تخلو من الغد من جميع سكانها فيسلك مقهورًا فى عداد السائلين والبائسين ويطرق أبواب إخوته جائعًا خجلاً فيطرده منهم من يطرده أو يطعمه من يطعمه وهو يضيق به؟.
بل ما وجه المحال فى أن تُمسى تلك العمارة أثرًا بعد عين لحادث من الحِدْثان؟ إن شرارة من نار حقيقة بأن تحولها فى دقائق إلى كوم من رماد، أو هزة أرضية مباغتة قد تدكها دكا وتتركها خرائب وتلولا من أخشاب وأحجار، وما الحريق ببعيد ولا الزلزال بمستحيل وهي- لو أمنت اليوم شر النار والزلزال بمستحيل- فما هى بآمنة غدًا ويل الهرم والبِلَى وتناقص الغلة، فالخراب واقع واقع.. والفقر آتٍ آتٍ.
ومن الغريب أنه كان يشعر شعورًا قويًا بأن الفقر ليس هو البؤس الوحيد المدخر له، وأن الدنيا لن تقنع فى تعذيبه بسلب موارد رزقه، بل وتوجس خيفة من ناحية شقيقاته وخيل إليه خياله المريض أن رابطة الزوجية التى تخليه من تبعاتهن لن تدوم أبدًا، وأن شياطين الشقاء ستفصم عُراها بالشقاق والنزاع وتحمل إلى بيته شقيقاته البائسات مع أطفالهن الصغار فيصبح مسئولاً عنهن جميعًا بصفته الأخ الأكبر والأعزب أيضًا فينوء بمتاعب الأزواج وما هو بالزوج ويرزح تحت تبعات الآباء وما هو بالأب، كأنه ليس حسبه ما ينتظره من الفقر والشقاء، وما يستطيع إنسان أن يشرك أشقاءه فى تحمل المسئوليات لأن لكل منهم أسرته، ولأنه أخوهم الأكبر الذى خلَف والده.
على أنه لا يأمن شر ذلك الشقاء الطاغى على أشقائه أنفسهم، ولو أن الأمر كان يتعلق بهم وحدهم ما اهتم ولا قلق، ولكنه كان يخشى أن تضيف المصيبة التى قد تنزل بأحدهم إلى حياته متاعب جديدة؛ فلو أن واحدًا منهم لحق بوالده لأصبح هو مسئولاً عن أولاده، وهو لا يدرى ما كُنْه هذا الشعور القوى الغريب الذى يهمس فى أعماقه بأن أشقاءه هالكون لا محالة، وبأنه سيأتيه نعيهم قريبًا. أى شعور هذا؟ إن أشقاءه مكتملو الصحة والعافية، ولكن وا أسفاه لا الصحة ولا العافية بالضمان الآمن ضد الموت.. ألم يقضِ والده وهو يتحدث ويضحك ويتمتع بالصحة والعافية؟ فالموت يتهددهم جميعًا ومتاعب الدنيا وهمومها تنتظره عن كثب.. وما من قوة فى الأرض تستطيع أن تخدعه عن هذه الحقائق المخيفة ولا أن تمحو من نفسه الشعور بها، فهو يحس بدنوها منه ويتوقع حدوثها ساعة بعد ساعة.. الموت والمتاعب والفقر.
ما أنكد وجه الحياة! إنها لم تقنع باغتصاب والده منه، فهى تكيد لشقيقاته البائسات، وتتربص بحيوات أشقائه المنكوبين، وتعد العدة للقضاء على مصدر رزقهم جميعًا، وهى قوية بين يديها جميع الأسلحة المدمرة من موت وأمراض وشقاق وحرائق وزلال، وسيجد نفسه عما قليل ضحية لقساوتها فقيرًا مُعْوَزًا مسئولاً عن جمع غفير من المطلقات والأرامل واليتامى.
كانت تلك الأيام عذابًا دونه عذاب الجحيم لم ينقذ فيها عقله ساعة من شر ذلك التفكير الوبيل يفرز السموم والعذاب والمخاوف، حتى تمكنت الأوهام الأليمة من نفسه، وكدرت أوقات يقظته وأحلام نومه، وجعل يتوقع كل ساعة أن يسمع عن انهيار العمارة أو ذهابها طعمة للنيران، أو أن يأتيه آتٍ ينعى أحد أشقائه أو ينعيهم جميعًا، وخال كل طارق لبابه أختًا من أخواته راجعة إلى بيته تسحب خلفها أطفالها.. وفاضت نفسه بالجزع فلم يستطع صبرًا وضاق بعزلته فخرج هائمًا وصار يتردد على بيوت أشقائه وشقيقاته ليطمئن عليهم وقد وجدهم جميعًا سعداء آمنين، فعجب من جهلهم وغفلتهم.. وود لو يستطيع أن يقول للرجال منهم «خذوا حذركم من الأمراض والحوادث.. ولا تعرضوا أنفسكم لهواء الشتاء ولا لشمس الصيف. ولا تترددوا فى دعوة الطبيب لأتفه الأسباب. وإياكم والترام والسيارات»، أو أن يقول للنساء «أطعن أزواجكن طاعة عمياء، وتعرفن مواضع إرضائهم وتجنبن ما يضايقهم واصبرن عليهم وإن طغوا وتجنوا عليكن». ولكن الصراحة لم تواته فجعل يدور حول غرضه دورًا ولا يختار حديثًا غيره. وكان يحدث نفسه كلما رجع من إحدى زياراته: ألا سحقًا للذين يقولون إن الأهل عزة وقوة! وياليتنى كنت وحيدًا لا أعرف لى أخا أو أختا، فقيرًا لا أملك ما يجوز أن آسف عليه.. واهًا.. ما أسعد أبناء السبيل! إن اللقمة التى يلتقطونها من القمامة ويزدردونها وهم يغنون أشهى من الطعام الدسم الذى يهبط إلى جوفى مع الهموم والأحزان التى لا تهضم.
وتغيرت صورته وطباعه تغير نفسه، فهزل واعتل وعلت وجهه صفرة شديدة وغارت عيناه وأحاطت بهما هالة سوداء، وتغيرت طباعه وعاش عيشة المذعور الخائف، فصد عن الدنيا وعزف عن الأصدقاء وهجر الطيبات والملاذ واستحال جوده شُحًا شديدًا وتقتيرًا قبيحًا، لأنه رأى أنه من الحكمة أن يدخر المال لتلك الأيام السود التى تنذره بالفقر والتبعات والمتاعب.
هذا ما صار إليه فى الأيام القلائل التى تلت وفاة والده. ولكن حمدًا لله لم تدم هذه الحال، فمضت الأيام حثيثة وأخذ وقع الصدمة يهون على نفسه ونار اللوعة تبرد فى صدره، واعتاد غيبة أبيه كما كان معتادًا لوجوده، ولم يحدث الزلزال ولا شبت النيران، نعم ولا صدِّع الشقاق شمل أخواته ولا اخترم الموت أشقاءه، ومضى يفيق من غيبوبة الحزن والخوف وينفض عن قلبه أشباح الفزع والأوهام، ويستروح الطمأنينة والسلام.. ثم طوى النسيان متاعبه فى زوايا مغلقة الأبواب، فرأى مرة أخرى دنياه القديمة: دنيا الجمال والمتع التى يشرق حسنها فى السموات والأرض والإنسان والحيوان والجماد، لا دنيا الزلازل والحرائق والأمراض والفناء، فانطلق يعدو فى طريقه من حيث حبسته المخاوف حينا ليس بالقصير.. فكان فى مصابه- كما هو فى حياته- الطفل الغِرِّير الذى قد يحزن حتى ليذهله الحزن عن نفسه فيرمى لعبته ويدعها تتحطم عند قدميه ويجهش بالبكاء، ثم سرعان ما ينسى فيعود سريعًا إلى نشوته ويغرق فى الضحك.•


نجيب محفوظ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى