أحمد عبد السلام البقالي - المياح

هذه حكاية أخرى من شاطئ الغيب، يحكيها رواد (مقهى الزريرق) المتكئة على السور البرتغالي العتيق، والمواجهة للمحيط الأطلسي، يحكونها للغرباء وهم نشاوى بسحائب دخان كيف (كتامة) وغرقى في كؤوس التواكل يستمرئون أحلام النهار، ويحتسون كؤوس الشاي الأخضر المنعنع يقاسمهم حلاوتها النحل...
حكاية (الميّاح) ليست كحكايات (الهيشات)، وحيتان البحر الضخمة التي صادفها هؤلاء في مغامرات صيدهم بقواربهم الصغيرة، ولا كغيلان الشواطئ، وجنيات أودية ضواحي المدينة وغيرانها، وأرواح مساجدها، وأشباح مقابرها... بل هي حكاية من صميم واقعهم، عاشوا أحداثها، وشاهدوا أهوالها بأعينهم، سمعوا تفاصيلها الخفية من زميلهم (الهاشمي) أحد بطليها.
وتبدأ الحكاية في يوم صيف جميل، والبحر هادئ مرحب بركابه من الصيادين، وطلاب الرزق من أعماقه.
خرج (الهاشمي) وزميله المعروف بـ (الجبل) لضخامة جسده، وقوته، وشدة بأسه، خرجا في قارب (الهاشمي) للصيد مع الفجر.. وما كاد ينتصف النهار حتى رجعا بالزورق مثقلا بالسمك لا يكاد يتحرك، وهما يجذفان بنشاط في اتجاه الشاطئ، على مرأى من رواد (مقهى الزريرق).
وعلى البر سارع إليهما بعض التجار الوسطاء لشراء السمك منهما وبيعه في السوق، ولكن (الجبل) أبى بيعه للتجار رغم ميل زميله (الهاشمي) إلى ذلك، كان (الهاشمي) يؤمن بفكرة «كل وأكل»، وكان دائما يرددها إلى جانب أن بيع السمك على الشاطئ سيريحهما من تعب بيعه والوقوف عليه في السوق إلى آخر النهار.
ولكن (الجبل) كان جشعا شديد الحرص على المال لا يفهم الخير أو الإحسان! وانصاع (الهاشمي) لرغبته تفاديا للخلاف واللجاج مع زميله، فقد كان يحتاج إلى قوة عضلاته للتجذيف، وخفة يديه في صيد الأسماك.
وحملا صناديق السمك على عربة حمال إلى السوق حيث نصبا ميزانا وجلسا يبيعانه.. تحولا في يوم واحد من صيادي سمك إلى تجاره، كما يتحولان وبقية الصيادين من (خرازين) - صناع أحذية - و(درازين) - حائكي أقمشة صوفية- إلى حواتين - صيادين مع مطلع كل صيف.
ومع العصر كان كل ما صاداه من سمك قد بيع، ولم يبق إلا بضع سمكات صغيرة لم يقبل عليها أحد.
وكانت عادة الفقراء من أهل المدينة الوقوف بعيدا في مواجهة بائعي السمك في انتظار نهاية البيع ليوزعوا عليهم ما تبقى من السمك الصغير على سبيل الصدقة.
وانحنى (الهاشمي) على السمكات الصغيرة، وجمعها من قعر الصندوق الخشبي، وأشار إلى أحد العاطلين والكثيري العيال، فأسرع هذا نحوه داعيا له بالحفظ والبركة وفيض الرزق.
ولكن(الهاشمي) فوجئ بزميله (الجبل) الأجلف ينبح فيه بصوت أمر.
- ضع السمكات في «الميّاح»، أنا في حاجة إليها.
و«الميّاح» هو مجرفة خشبية يغرف بها ماء البحر من بين ضلوع الزورق إذا تسرب من شقوقه، أو قذف به الموج إلى داخله.
وانعقد لسان (الهاشمي) واحمر وجهه خجلا وحرجا أمام الرجل الفقير الذي يدعو له، وبقي مسمرا في مكانه والسمكات الصغيرة في يديه، وانحلت عقدة لسانه فقال:
- اتركها لهذا المسكين.. إنه أحوج منك إليها.
- قلت لك ضعها في الميّاح:
فوضعها (الهاشمي) طائعا، وأشار إلى المسكين الذي هم بالانصراف خائبا أن ينتظر، ومسح يديه في خرقة وأخرج من جيب سرواله درهمين أعطاهما للرجل الذي أمسك بهما داعيا له.
- نجاك الله من كل بلاء.
وذهب وهو يردد «الصدقة تنجي، والعبد لا يدري!».
وفي صباح اليوم التالي، خرج الزميلان مرة أخرى إلى البحر، وكان أهدأ وأرق من بحر الأمس، وما كادا يلقيان ببعض (المراغة) وهي معجون من السردين والرمل لاجتذاب السمك، حتى فاض حولهما البحر بالأسماك، فأخذا يغرفانه باليمين والشمال حتى ملآ الزورق في أقل من ساعتين، وبصعوبة استطاع (الهاشمي) أن يوقف زميله عن الصيد حتى لا يغرق بهما الزورق تحت ثقل السمك، فقد أصيب (الجبل) الجشع بنوبة هيستيرية...
وقفل الزورق راجعا بحمولته الثقيلة إلى الشاطئ..
وما كاد يواجه (مقهى الزريرق ) حتى تحرك البحر من تحته وبدأ الموج يكبر فجأة ودون سابق إنذار.. كانت السماء صافية والهواء رخاء.. ورغم ذلك هاج البحر من حولهما، وأخذ يهز بهما الزورق الثقيل على رؤوس أمواج كقمم الجبال، ويلقي به في أودية عميقة زرقاء رهيبة.
وأحس الرجلان بالخطر يحيط بهما من كل جانب.. وأيقنا بالهلاك، فأخذ (الهاشمي) يشهد ويتضرع إلى الله بصوت عال، ويقرأ ما يتذكره من أيام الكتاب من آيات القرآن، بينما استولى الرعب والذعر على زميله (الجبل) فاصفر وجهه حتى بانت عليه زرقة الموت، وجحظت عيناه، وبانت أسنانه كلها، وكأنه تحول إلى هيكل عظمي، وهو ما يزال حيا.
وجاءت موجة من خلفهما، فملأت المركب ماء.. وبحث (الجبل) حواليه كالمجنون وأخذ يصيح:
- الميّاح! الميّاح! أين الميّاح، ونظر بعينيه الجاحظتين على (الهاشمي) وصرخ فيه:
- أين المياح ! أين وضعته أيها الحمار؟!
وأجابه الهاشمي؟! أنت الذي أخذت فيه السمكات التي رفضت إعطاءها للمسكين بالأمس.
وهنا تذكر (الجبل) فَعْلتَه، فضرب على جبينه بكفه ندما...
وجاءت موجة أضخم من الأولى من خلف الزورق فرفعته وقلبته على وجهه فوق سلسلة الصخور المتبقية في ميناء قديم.
وخرج (الجبل) من تحت الزورق إلى سطح الماء، وتوجه نحو الشاطئ دون أن يلتفت إلى زميله. هنا ارتفع الزورق وهوى على رأسه فشدخها، وابتلعه اليمُّ...
وفقد (الهاشمي) وعيه في تلك اللحظة موقنا أنه انتقل إلى العالم الآخر..
وحين عاد إليه وعيه، وجد نفسه ملقى على رمل الشاطئ والناس يحيطون به متسائلين هل هو حي أم ميت، وفتح عينيه وتنفس بعمق رئتيه، وحمد الله، فهلل الجميع من حوله فرحا بنجاته...
ووقف دون مساعدة، وكأنه استيقظ من نوم عميق مريح... ولم يحس بأدنى ألم في أعضائه، أو كسور في عظامه، أو رضوض في بدنه، وكأن يدا ربانية خفية حملته من داخل الزورق ووضعته على الشاطئ.
وسأل عن رفيقه فتحركت الرؤوس أسفا وحسرة.. (الجبل) لم «يبزقه» البحر بعد...
وسأل عن الزورق فجاؤوه به إلى حيث خرج، فوجده سليما لم يصب بشيء، ووجد أغلب السمك فيه، فقد جمعه رواد المقهى من الشاطئ.
وحمد (الهاشمي) الله على بقاء الزورق وإفلاته من الصخور، فقد كان مصدر رزقه الوحيد..
أما رفيقه (الجبل) فقد وجدوه عند الجزر حبيسا بين صخرتين، وقد تهشم كل عظم في جسده وأكلت الأسماك والسراطين عينيه وبقي مكانهما حفرتين فارغتين، وبات يحلم بمنظرهما المرعب كل من رأى وجه (الجبل) الغريق ليالي عديدة.
ولم تعرف قصة بخل( الجبل) بالسمكات الصغيرة على المسكين الجائع إلا حين حكاها هذا لإمام مسجد الجامع الكبير، فجعل منها موضوعا لخطبته لتلك الجمعة، وبدأها بالآية الكريمة،(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتِكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) [التوبة: 103].
ومنذ غرق (الجبل) حرص جميع الصيادين على العادة القديمة في جعل نصيب من أسماكهم للسائل والمحروم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى