منير عتيبة - تسع خرزات زرقاء لأجل القادم

الخرزة الأولى

أغلقت حجرة أمها على نفسها.. أخرجت الصندوق القديم من تحت السرير.. بصعوبة استطاعت أن تقلبه وتفرغ كل محتوياته على الأرض.. أخذت تلقى جانبا ببقايا الملابس القديمة.. الأوراق البالية.. قطع الحلى الزجاجية.. أخيرا عثرت عليها.. كانت واثقة أنها ستجدها فى هذا المكان.. خرزة زرقاء كبيرة بحجم إصبع رجل عملاق.. أخبرتها أمها أنها اشترتها منذ خمسة وعشرين عاما من عجوز نوبية طلبت منها ربطها فى سلسلة حول صدرها لتحفظ لها حملها..
قبلت الخرزة الزرقاء.. وضعتها فى جيبها.. أعادت محتويات الصندوق إلى مكانها.. دفعته تحت السرير.. استلقت فوق السرير تحلم.

الخرزة الثانية

حملت الطشت الألومنيوم الكبير فوق رأسها.. مشت بخطوات وئيدة بينما حماتها تمصمص شفتيها غيظا.. وصلت إلى موردة إسماعيل الجناينى.. أنزلت الطشت من فوق رأسها.. بدأت تغسل ما فيه من أوانى.. فوجئت بسمكة حمراء اللون تقفز من عمق المياه إلى الطشت.. استعاذت من الشيطان الرجيم.. تقيأت السمكة خرزة زرقاء وقفزت عائدة إلى المياه.. تابعتها مشدوهة.. ابتسمت ردا على ابتسامة السمكة لها.

الخرزة الثالثة

تابعت بعيني الطفلة القديمة قطرات المطر البلورية تتساقط من السماء.. رأت نفسها بضفيرتين طويلتين تحاول أن ترقص تحت المطر فتتزحلق فى الطين.. فتحت زجاج الشباك.. مدت يدها.. تساقطت حبات مطر فيها.. ضمت قبضتها عليها.. أغلقت الشباك بيد واحدة.. فتحت قبضتها.. وجدت فيها خرزة زرقاء بها عروق مضيئة من قوس قزح.


الخرزة الرابعة والخامسة

راقبت القطة السوداء ذات العينين الزرقاوين منكمشة فى حجر حماتها.. تنظر لها نظرات مرعبة.. كان زوجها يضحك لخوفها من القطة.. تخبره أنها لن تنجب إلا إذا خرجت هذه القطة من البيت.. وتخفى فى نفسها بقية العبارة.. أن تخرج أمك مع القطة أو قبلها.. انتهزت فرصة موت الحماة فى قيلولة ما بعد العصر حيث لا تشعر بما حولها ولو كان زلزالا.. وضعت طبقا كبيرا به بقايا شوك سمك أمام حجرتها.. أسرعت القطة تأكل منه.. سقطت ميتة.. لفتها فى خرقة.. خرجت مسرعة إلى أرض النخيل.. عيون القطة الميتة تهدر ببرق مخيف.. استحضرت حلمها فأمدها بشجاعة وقسوة غير اعتياديتين.. بالسبابة والوسطى أخرجت العينين سليمتين.. لفتهما فى منديل.. وضعته فى جيبها.. دفنت القطة.. عادت يغمرها شعور قوى بالانتصار.

الخرزة السادسة

تحبه عندما ينسى عمله المرهق فى ورشة الحدادة.. وطلبات أمه من أجل زواج أخواته البنات.. ومشاكل إخوته الصبيان.. والضائقة المالية الدائمة التى يعيشون فيها.. يلقى كل هذا خلف ظهره.. يفرش بطانية من مخلفات الجيش على الأرض وفوقها ملاءة مثقوبة.. يمسكها من يدها.. يخلع عنها ملابسها بنفسه.. يعد الحسنات المنشرة على كتفها الأيسر.. وفخذها الأيمن.. وعلى قمة كعبيها.. يقبلها.. يدور بها فى عالم لا نهائى من التفانى.. يصلان إلى قمة الحلم فى نفس اللحظة.. فيتقاسمان نفس الثمرة.. ينظران لبعضهما بحب وامتنان.. يغمضان عينيهما.. تمد يدها.. قطرات من عشق حميم تقع فيها.. تضم قبضتها عليها.. يقوم ليرتدى ملابسه.. تفتح يدها.. لا تصدق جمال الخرزة الزرقاء التى أصبحت تمتلكها.

الخرزة السابعة


أخبرتها جدتها أن النخلتين المتعانقتين أمام باب الدار لهما سر مجهول لا يعرفه غيرها.. لو باحت به تموت.. لكنها أشارت إلى الطريق.. اخلعى قلبك فى ليلة قمرية.. اغسليه بماء ورد بارد.. ادفنيه تحت النخلتين لمدة ساعة واستلق بجانبه.. ثم استعيديه وضعيه مكانه مرة أخرى.. واصمتى فى تلك الليلة لا تتحدثى إلى أحد.. لا تلمسى زوجك.. اجلسى عارية فى طشت نحاسى جديد ملئ بماء الورد المقروء عليه آية الكرسى وسورة الجن.. لا تفكرى إلا فى القادم.. إياك أن ينشغل بالك بأى شئ آخر..
صحت متأخرة من إرهاق الليلة التى استجمعت فيها كل إرادتها وعزمها لتنفذ ما أمرت به الجدة.. شوق غامض جذبها إلى النخلتين المتعانقتين.. حفرت فى نفس المكان الذى دفنت فيه قلبها فى الليلة الفائتة.. وجدت خرزة زرقاء على شكل بلحة.. رأت على سطحها وجه غلام يشبهها إلا أن أنفه تشبه أنف حماتها.. كانت ابتسامته أجمل ما رأت عيناها.

الخرزة الثامنة


ترددت فى إخباره.. استجيبت دعوتها فلا يستطيع أحد أن يلاحظ ما بداخلها.. هل تضيع تعب الشهور الماضية وتخبره.. سيخبر أمه.. وستعرف العائلة كلها.. أخته الكبرى ذات العينين الحاسدتين تكرهها.. وأخته الصغرى يمكن أن تذهب مع أمها إلى الشيخة وداد لشراء "عمل" يسقط حلمها..
نظر فى عينيها وابتسامة ما تتحرك على وجهه.. محبة وعطف وسخرية لطيفة.. وضع يده على رأسها.. قبل جبينها.. أخرج من جيبه خرزة بحجم كف يده.. فوجئت.. فكرت أن تسأله.. كيف عرف؟ من أين أتى بها؟.. نظرت إليه.. ابتسمت صامتة فاهمة.. قبلت ما بين عينيه.

الخرزة التاسعة

نظر إليها حموها العجوز بامتنان وهى تضع له طعامه على الأريكة.. منذ أصاب الشلل يده اليسرى وقدميه وهى الوحيدة التى تعتنى به.. هو عمها قبل أن يكون والد زوجها.. تقدم له الطعام والملابس النظيفة والحنان.. تجلس معه لتحدثه.. تستمع إليه بصبر وهو يحاول أن يستعيد أيام مجده عبر كلمات تخرج متكسرة مضنية..
فوجئت به يفرد أصابع يده اليسرى المضمومة فى قبضة إجبارية منذ سنوات طويلة.. يقدم لها خرزة على شكل غلام.. يمسح بأصابعه على بطنها مبتسما.. تستعيد أصابعه وضع القبضة الإجبارية.. تسقط دمعة من عينيه.. يحاول أن يمسحها بكمه الأيسر.. يفشل.. تمسحها هى بيدها..

تلضم خرزة الجد مع بقية الخرزات فى خيط حريرى.. تلف عقد الخرزات حول عنقها.. تتمدد على سريرها.. أمها جالسة بجوارها فى انتظار الحلم القادم.



منير عتيبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى