- رسالة من نزار قباني إلى الشاعر مارون عبود يدافع فيها عن شعره

أستاذنا الكبير
تأخرت عن موعدك الأخضر قليلاً . كان عليَّ أن أسبق الشمس إلى ستائرك .
لكن الوهج المغنِّي في معركة بور سعيد أكل أعصابي .. كلَّ أعصابي . سرق السلام من قلبي .. جبلني بحمرة جرح .. جعلني جرحاّ يمشي .
فلا تؤاخذني إذا وصلت متأخراَ، لأن الكتابة إليك رحمة وسلام . واللعب بالحرف ، بالفاصلة السكرى، يحتاج إلى حد أدنى من السكون ... وهذا ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه .
هل نبدأ الآن؟ هل تفتح لي قلبك ؟
يعتبر بعض الناس أنفسهم سعداء إذا وجدوا في امتداد زمني واحد مع واحد من هؤلاء العباقرة الذين أعطوا الإنسانية تراثاً لا تزال الأرض تشرب منه وتسكر..
الذين عاشوا في عصر بيتهوفن وموزارت وليست، والذين عاصروا تولستوي أو ليوناردو دافنشي أو غوغان أو رودان أو فان كوخ ، كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم من رفيعي الأقدار .
ويوم يجيء الدور إلينا ويسألنا سائل: وأنتم ياشعراء الفترة الممتدة من عام 1940 صعوداً إلى اليوم.. من هو هذا الكبير الذي كان يقيِّم آثاركم، ويزن الريش النابت في أجنحتكم، ويدوزن الأنسجة الطرية في حناجركم؟ يوم يواجهنا سائل بمثل هذا السؤال سنقول له بدون أدنى تردد : " كتبنا شعراً في عصر مارون عبود .. وعلى محكّ هذه السنديانة الماردة برينا أقلامنا .. وتركنا أسماءنا .. "

"سنديانة " .. نعم وجدتُ الكلمة . سنديانة من هذه السنديانات التي تفتح زنودها لمئات العصافير الزائرة .. لا تبخل على واحد منها بخيمة ظل، أو سرير ورق أخضر .. أو زوادة قش تحمِّله إياها قبل أن يذهب ..
من هنا ينبع مجد السنديان. مجدك يا أستاذي. يا مضيف الأجنحة المليسة الزغب، يا حاضن الشرانق الحبلى بألف خيط حرير، يا مالئاَ مناقير العصافير الهابطة إليك زهراً .. ورمَّاناً ..
وحبَّات كرز ..
قلَّ أن عرف الأدب العربي ناقداً تطهَّرت ريشته من سواد الحقد .. وتبرأ قلمه من حليب الكراهية العكر .
كل معاركنا الأدبية هي أشبه بمعارك الدجاج والديكة .. ريش نافش .. ومخالب تغرز في الأعناق.. ومناقير استبدلت الغناء بالعض وفقء الأعين ..
ويظهر أننا لم نتحرر حتى اليوم من أسلوب النتف والسلخ في نقدنا . فما زال الدجاج الناقد لدينا كثيراً .. وما زالت الغرائز الدجاجية هي السلوك المميز لأكثر نقادنا .
فكل أثر أدبي يدخل مختبرهم ... وكل خارج من هذا المختبر مولود ..
فإذا تحدثت اليوم عنك، عن السنديانة التي تطعم العصافير وتظلها، فإنما أتحدث عن أخلاقية جديدة، عن ظاهرة غريبة في تاريخ النقد لدينا .
فلأول مرة يتحرر الحرف على يدك من رجس الشتيمة، ليصبح أداة عبادة.. لا مطرقة حدادة ..
لأول مرة .. نعرف معنى التسامح .. معنى الغفران .. معنى ( التعايش الفني ) إذا جاز لي أن أستعير التعبير من قاموس السياسة، حيث يقول بعض الساسة بين شتى النظم السياسية على تباين دروبها وغاياتها.
فلماذا لا نطبق هذه النظرية في الفن، وننادي ( بتعايش فني ) تعيش فيه المذاهب الفنية على تباينها جنباً إلى جنب، حتى يتولى الزمان أمر الفصل في هذه المذاهب وتقييمها.

أستاذنا الكبير

ما قلته في شعري كرامة لشعري . حياة ثانية للحروف التي عاشت معي حياتها الأولى .
لقد عاشت ( قصائدي) بين يديك كما تعيش البنت في بيت أبيها .. حلوى .. وأثواب .. و ( أشيا أُخَرُ) . ولكن لماذا أنت غاضب على (جانين ) ؟ متمسك بالوزن والموازين ؟ ( فجانين ) هذه تعيش في أحد أقبية سان جرمان لا في برقة ثهمد .. إنها تلبس البنطلون .. والخفَّ المقطع .. وتلثغ بالفرنسية .. وتمزق ثوانيها وتهبها لليل ... لجحيم موسيقى الجاز .. للاشيء ..
إنها تعيش حضارة معينة . ونحن كصيَّادي صور، لا يهمنا أن تكون الحضارة حضارة قلق وسواد وتشرّد، أو يكون القبو الذي ترقص فيه كقبو الماعز .. كلُّ مايهمنا أن نرسم جانين هذه في إطارها الزماني والمكاني.. أن نفاجئها وهي في وسط حلبة الرقص ترمي خصلة من شعرها لليل .. وخصلة لله ..
إنني أعالج بقصيدتي ( وجودية) فلسلفةً كاملة هي الوجودية، وأحاول بلقطات صغيرة أن أخلق الجو لقارئ لم تقدمه قدماه إلى هذه الأقبية . لذلك كان لا بد من تغيير المخطط التقليدي للأداء .
كان من المستحيل عليَّ أن أكتب عن جانين... والجاز .. والمونمارتر .. بالبحر الطويل .. أو البسيط.. لأن صلة الموضوع بإطار العرض حقيقة لا يمكن الفرار منها .
هل تريد تجربة صغيرة على ما أقول. إذن فاسمع يا معلم الذوق الجميل:

يا دار ( جانين ) بالعلياء فالسندِ = أقوت وطال عليها سالفُ الأمدِ ..

أعوذ بالله،وبك، وبكل صاحب ذوق مرهف من هذه السماجة .
البيت كما ترى مهندس وفق مخطط الأجداد، موزون بميزان صيدلي، مرسوم بمسطرة ...
ومع هذا فهو مصيبة المصائب .
لماذا ؟
لأن الخياط الذي فصل البيت فصله على جسد ( ميَّة ) المواطنة السمراء في صحراء نجد ...
فحين ألبسناه بعد ألف وثلاثمائة سنة ( لجانين) المواطنة الفرنسية القاطنة في الرقم 73 بولفار سان ميشيل ... أغمي عليها .

قلتَ في مقالك القيم إن بحور الخليل هي أنغام الحدود وموسيقاهم الكلامية، وإن القافية هي وقفة نغم على حدود اللانهاية، كما قلت إن الخليل هو واضع النوطة الموسيقية لأهازيجنا وأغانينا .
كل هذا كلام حسن ولكن له تتمة. لم يعبد أحد موسيقى الشعر عبادتي لها. فهي أساس البناء الشعري لدي . ولكني لا أتصور موسيقى الشعر إرثا أبديا لا يأته الباطل من أمامه أو من خلفه. لا أتصورها حكما من أحكام محكمة التميز لا يقبل الطعن أو الاعتراض .
إن كون (البزق) أو ( الناي ) من تراث الأجداد لا يمنعني أو يمنعك من أن نطرب لآلة مستحدثة كالبيانو .. أو الكلارينيت . أو الأوبوا .. أو أن نقف موقف المتعبدين من ( بولونيز ) شوبان وسمفونية بيتهوفن الريفية و (بحيرة بجع ) تشايكوفسكي ...
على نفس المقياس أقول: إن كون الخليل بن أحمد هو الذي وضع النوطة الموسيقية لأهازيج الأجداد، لا يمنعني من جانبي أن أضع النوطة الموسيقية للإطار الحياتي الذي أعيش فيه . بل لا يمنع أي فنان من بلادي أن يبدع سمفونيته الخاصة فيحذف نغمة .. ويضيف نغمة .. ويعمِّر كوناً شعرياً بألف شكل و ألف أسلوب .
الفن الشعري كالفن المعماري يمكن فيهما توليد أشكال لا حصر لها . فكما أن الفن المعماري يعتمد على وحدة أساسية – هي الحجر 0 لإخراج ألوف التصاميم، فان بإمكان الشعر أن يأخذ الوحدة الأساسية في بناء القصيدة العربية – أي التفعيلة _ لتوليد أشكال شعرية لا نهاية لها .
هذا ما يحدث تماماً في السمفونيات العظيمة، حيث تكون النواة فيها جملة موسيقية بسيطة، ثم تبدأ الإضافات على النواة الأساسية، نغمة تنادي نغمة .. وقرار يجذب قراراً .. ورعشة وتر هنا .. وشكوى كلارينيت هناك .. حتى يكتمل بناء السمفونية العام و تنعقد حلقاتها، وتغدو عالماً بشموسه، و محيطاته ومجرّاته .
انطلاقا من هذه النقطة كتبت قصائدي التي أعجبتك : " حبلى " و"خبز وحشيش وقمر" و" سامبا " . فهي جميعاً محاولات واضحة لتطوير النغمة الأساسية و اللعب بها .
إنني لا أدعي كمال هذه الأشكال الجديدة . فلا شكل نهائي في الفن . وإنما أقول إننا نعطي الصلصال القديم ملامح جديدة . لا تزال أيدينا في الطين .. ولا تزال أزاميلنا تبني وتكسر .. تضيف وتلغي . وربما مرَّ وقت طويل قبل أن تفرض هذه الأشكال نفسها على الذوق العربي. ولكن هذا يجب أن لا يثنينا عن إتمام المحاولة، كما أن النقاد يجب أن لا يتعجلوا الحكم على هذه المحاولة التي لم تتجاوز عمرها بعض سنوات. لأن من هذه المحاولات ما نجح فعلاً وبدأ يجد استجابة لدى الجماهير العربية.

أستاذنا الكبير،
أنت في تفكيرك مدهش حقاً . والأدهش من هذا كله قدرتك الفائقة على تكييف ثقافتك العريضة وذوقك الرهيف مع اختلاف الفصول واتجاهات رياح الفكر والذوق. أما قلمك فهو أصبى من الصبا نفسه، أحلى من دفقة العافية .
الذين وصلوا إلى سنك من أدبائنا لا يزالون في قاعات المجامع العلمية الرطبة، يعانقون أكياس الماء الساخن، ويشربون كؤوس البابونج، ويتعاطون أدوية الروماتيزم .. وينظمون قصائد موسمية تجلب الروماتيزم من مسافة ألف ميل ..
أما نحن الذين عاصرناك وأحببناك، ومسحنا مناقيرنا الصغيرة بجذعك الرحيم العظيم، وسرقنا الحَبّض من جيوبك الممتلئة، فما رددت منقاراً ولاآذيت جناحاً.
أما نحن فسوف نقول لمن يسألنا عن خصائص شعرنا وطابعه : " كتبنا شعراً في عصر مارون عبود .."


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى