رسائل الأدباء عشر رسائل ليزلي مورمون سيلكي و جيمس رايت

-1
مسكواميكت
رودأيلن
28 أغسطس 1978
عزيزتي السيدة سيلكو
أثق أنك لن تمانعي أن يتصل بك غريب. وإن لم أكن غريبا تماما. فمنذ ثلاثة أصياف سمعتك تقرئين قصصا وقصائد في ذلك المؤتمر الشعري الوطني في ميشيجن. أدركت في ذلك الوقت، مثلما أدرك كل من كان حاضرا، أن قراءتك جعلتنا جميعا في حضرة شيء مميز فعلا. ومنذ ذلك الحين، قرأت بعض أعمالك في أنطولوجيات، وكلَّ مرة كنت أجد في نفسي الإحساس نفسه.
والآن أتيحت لي الفرصة أخيرا وقرأت "الطقس"، لأجد نفسي مدفوعا إلى أن أخبرك ما الذي يعنيه لي هذا الكتاب. الغريب أنه ليس كافيا في ما يبدو لي أن أقول إنه كتاب عظيم، ولو أنه قطعا عظيم، أو إنه كتاب كامل، ولو أنه بالقطع بلغ الكمال. يمكنني أن أعتبر "الطقس" واحدا من أفضل أربعة كتب أو خمسة قرأتها في حياتي عن أمريكا ولا أكون جانبت الصدق. لكن حتى هذا لا يقول فعلا ما أعنيه.
أظن أن ما أريد قوله هو أن حياتي نفسها باتت تعني لي أكثر مما كانت لتعنيه لو لم تكتبي "الطقس". ولكن ذلك أيضا يبدو غير كاف.
كان حدثا عظيما أن التقيت بك، وإن يكن لقاء عابرا، في ميشيجن، وأنا سعيد أشد السعادة أنك حية وأنك تؤلفين الكتب.
المخلص
جيمس رايت

***

-2
توسكان، أريزونا
9 سبتمبر 1978
عزيزي السيد رايت
وصلتني رسالتك وأنا في أمسِّ الاحتياج إليها. أشياء مؤسفة كثيرة جدا وقعت لي في زواجي وفي أبنائي، وحسن أن أعرف أن كتابتي تعني شيئا.
أتذكرك جيدا من ميشيجن، فقد كنت مريضا وذكَّرتني بجدي رغم أنني أعرف أنك أصغر كثيرا من ذلك، ولكنه جدي بمعنى أنني كبرت معه. أتذكر القصائد التي قرأتها، قلت إنها جديدة، ولا أزال أتذكر صوتك. لست متأكدة أنني يمكن أن أعرفك من صورتك. تلك "القصائد الجديدة" هي التي حركتني، فيها دأب، ولا أثر فيها للرتوش "الأسلوبية" (وأنا أشعر بغربة حقيقية عن أسلوب الشعر السائد). أستطيع أن أفهم مباشرتك واختزالك مثلما أفهم طريقة العجائز عندنا في الكلام. أنا لا أعرف عالم الشعر الذي يعرفه أغلب الكتاب الأمريكيين من سني. أعرف تاريخيات شكسبير ولا أعرف غير القليل من [والت] ويتمن أو حتى [روبرت] لويل. ولكنني حينما استمعت إليك فكرت أن الخلفية الأكاديمية لها أثرها، ثم عرفت أخيرا أن المسألة قلب وروح.
لا أعرف إن كان كلامي هذا يفي بما تعنيه رسالتك لي. ربما لا. ولكنني أريدك أن تعلم أنك بكتابتك إياها أحدثت بالنسبة لي فارقا عظيما، أود أن أشكرك عليه.
المخلصة
ليزلي سيلكو

***

-3
نيوارك، ديلاوير
25 سبتمبر 1978
عزيزتي السيدة سيلكو
أكتنز لنفسي جمال رسالتك، وأغامر فأرجو أن تكتبي لي من جديد، ولو كلمات قليلة. ثمة أهمية كبيرة في أن نتواصل، ولو لفترة عابرة.
كتبت حالا إلى محرري في دار فارر، شتراوس، آند جيرو بنيويورك أطلب منه أن يرسل إليك كتابي الجديد. عنوانه "إلى شجرة كمثرى مزهرة". كنت لأرسله لك مباشرة من هنا، ولكن ليست لديّ إلا نسخة واحدة، واهترأت تقريبا. في هذا الكتاب "القصائد الجديدة" التي كنت تتكلمين عنها، وأشياء أخرى.
هل لي أن أسأل إن كنت نشرت كتبا شعرية؟ القصائد التي ترد في نصوصك شديدة الجمال حتى لو قرئت منفردة، كما أنني قرأت غيرها. في رأيي أنه من المدهش أن أرى براعتك في الرواية مجتمعة مع قوة ما في هذه الرواية من شعر.
أريك أن أقدّم لك اقتراحا، لو سمحت لي. هل سبق لك أن تقدمت لمنحة ججنهم؟ وارد طبعا ـ وأرجو ألا تأخذي كلامي بوصفه معلومة مؤكدة ـ أن يكون الوقت قد تأخر على التقديم للعام الحالي، ولكن، مع ذلك، لا ضرر أن تطلبي الاستمارات على أية حال، للعام القادم.
أريد أن أعترف لك بشيء، شيء يحزنني للغاية: قبل بضعة أسابيع تلقيت رسالة من د. راي يطلب مني فيها أن أرشح شخصا ما لمنحة ججنهم فيرسل إليه الاستمارات. ومن حماقتي وعماي أنني لم أفكر في أن أرسل لهم اسمك. ولكن، إذا حاولت السنة القادمة، فسوف يشرفني أن تكتبي اسمي لأكتب لك رسالة توصية. أخشى أنني الآن أبدو متباهيا إذ أقترح عليك هذا الاقتراح. ولكنني أتبع حدسي.
سأضع هذه الرسالة في البريد الآن. وسوف يكون من دواعي سروري أن أعرف دائما بأخبارك.
باسم الصداقة
جيمس رايت

***

-4
توسكان، أريزونا
3 أكتوبر 1978
عزيزي السيد رايت
عزيزي جيم
انتهيت للتو من إطعام الديك موزة مسودَّة عثرت عليها في الثلاجة. كان مؤخرا قد بدأ يفقد ريش رقبته الأصفر وأخشى أن يكون ذلك لأنه لا يأكل كفايته. ولكنني أفترض أن يكون السبب أيضا هو طبعه الشرس، فهو ذلك الديك بالذات، من بين كل حكايات الديكة التي حكتها لي جدتي، هو الديك الذي كان يبقى بداخل الحظيرة في الصباحات الشتائية والدنيا لا تزال معتمة وتذهب جدتي وهي بعد عروس جديدة لتحلب بقرة حماها. كان الديك ينتظر إلى أن تحسب أنها هربت منه ثم يهاجمها. وحدث ذات صباح أن هجم عليها يريد أن يخمشها بمخالبه، فإذا بها في رد فعل انعكاسي تضربه بالدلو الذي في يدها. فانهار ولم يتحرك، ومضى تحلب وهي تفكر طول الوقت في ما سوف تقوله لحماها، والد جدي،عن ديكه الذي قتلته. وحينما رجعت بالحليب إلى البيت كان هو جالسا يشرب قهوته . (كان رجلا عجوزا في ذلك الوقت، كان الرجل الأبيض الذي قدم من أوهايو ليتزوج أم جدي، وهي فتاة من قرية باجويت إلى الشمال من لاجونا). قالت له إنها لم تتعمد أن تقتل الديك، لكن الدلو ارتطم به بشدة. يحكون عن جدي هذا أنه كان شخصا رقيقا. وحكت لي جدتي أنه طلب منها في ذلك الصباح أن لا تقلق، فهو يعرف منذ فترة أن في ذلك الديك شراسة. وذهبا معا إلى الحظيرة لكي يتخلصا من جثة الديك فإذا بهما يريانه في المذود. قالت جدتي إنه كان أشرس من أن يموت. ولكنه بعد ذلك صار يتركها لحالها كلما ذهبت لتحلب.
وهناك جميع أنواع حكايات الديكة التي تعرضت لها. أنا سعيدة أن لديّ هذا الديك لأنني لم أصدق مطلقا أن الديكة دائما مثلما نراها في حكايات الديكة. في هذه الأيام الحارة في توسكان، ينبش مقيما لنفسه عشا صغيرا في التراب الرطب أسفل شجرة الليمون المكسيكية جنب الباب الأمامي. لا يقبل من القطط الصغيرة والقطة السوداء إلا الاحترام، هذه مسألة لا جدال فيها، بل الإذعان، بل الالتفاف أو التحرك في نصف دائرة حوله وصولا إلى طبق الماء الموجود أيضا في ظل شجرة الليمون. فإن لم تفعل القطط ذلك فإنه يثب ويظل يطبع بمخالبه على الأرض إلى أن يرى منها الخضوع، فما إن يحدث ذلك، حتى يرجع إلى عشه الطيني.
أحالنا جميعا إلى بلهاء، نخفف الخطو من حوله، ونخاف أن ندير له ظهورنا، كلنا باستثناء الكلبة السوداء العجوز التي لا تسمح لكائن، حتى الديك، أن يكون بينها وبين طبق طعامها. ويتظاهر الديك أنه لا ينتبه إلى عدم خوفها، ويتظاهر أنه انتهى من الطعام عندما تقترب.
كان لزاما على صاحبة متجر العلف أن تتخلى عنه. كان ديكها المدلل، وكان يسمح لها أن تحمله وتربت على ريشه. ولكن الرجال الذين كانوا يذهبون لشراء العلف كانوا يغيظونه فبدأ يهاجم جميع زبائن المحل. وخشيت المرأة أن يؤذي طفلا. فأخذته أنا وقلت لها إنني لا أعرف كم سيطول بقاؤه في المزرعة لأن الذئاب الصغيرة منتشرة في كل موضع من جبال توسكان. لم أتوقع له أن يبقى حيا ولو لأسبوع. لكن ذلك كان في يونيو، ونحن الآن في أكتوبر. ربما شراسة طبعه هي التي تبعد عنه الذئاب، وربما هي أيضا السبب في تساقط الريش عن رقبته.
لا أعرف قط ما الذي قد يحدث حينما أشرع في كتابة رسالة. هناك ناس معينون يثيرون بي أشياء معينة. لم أكن أعتزم الانطلاق في قصص الديكة حينما كنت أريد بالفعل أن أقول لك كم فرحت أن تلقيت رسالة أخرى منك. وأنا مشتاقة فعلا إلى كتابك الجديد. أنا كالجائعة إلى الاتصال بالشعر من جديد. أظن أن الاضطراب العاطفي هو السبب المرجح لابتعادي عن الكتب، عن القراءة. صرت أرى الشعر عبثا، وصارت قصائد قليلة للغاية هي القادرة على القول. لكنني أظنني أنني أنا التي كانت غير قادرة على الاستماع. غير أنه من المفيد أن أنظر في الموضع الصحيح. أنا لم أكن أبحث عن الكتب، كنت فقط أقرأ الشعر الذي يقع في طريقي، في كتاب من هنا، أو مجلة من هناك. عليّ أن أحترس من نزوعي إلى الشعور بأنني غريبة لا تنتمي إلى المشهد الأدبي الأمريكي الراهن. لعلي كلما قلَّ اتصالي بالشعر والكتاب، قل انتباهي إلى أنني لا مكان لي. ولكنني أثق في صوتك، ثقتي في قليلين غيرك. وآن الأوان أن ألتفت إليكم يا من أثق فيكم، وأنصت وأعثر على ما تكتشفونه بينما أنا جالسة هنا واضعة أصابعي في أذنيّ.
أرفق لك الكتاب الصغير الصادر في 1974 وبعض النسخ المصوّرة من قطع تالية علي. لست بالكاتبة الرهيبة غزيرة الإنتاج. أكتب فقط القليل من القصائد حينما أكون منهمكة في مشروع روائي. منذ فترة قريبة وأنا أعيد الاشتغال على سرديات قديمة من لاجونا لسيناريوهات سينمائية تجريبية، وهذا المشروع استهلك وقتي على حساب كتابات أخرى. (الحقيقة أن السيناريوهات ليست السبب بل بقية القرف ـ الطلاق والفلوس إلخ ـ ذلك ما شتتني وليس السيناريوهات، أنا أحب هذه السيناريوهات). عموما، وحتى أجهّز المجموعة لفايكنج، (مجموعة شعرية قصصية)، ليس لدي ما أشركك فيه إلا ما أرفقه هنا.
أشكرك على تشجيعك لي على التقدم لججنهم. الاستمارت عندي، أجهزها كل سنة ثم لا أجرؤ على إرسالها، ولكنني سوف أفعلها أخيرا.
شعرت بالارتياح حين عرفت بتحسن صحتك. أعرف ما يمكن أن يفعله المرض في حياة الواحد. هذا الشهر تمر سنة على إجرائي جراحة عاجلة في البطن. قبل أن يكتشفوا أن لدي نزيفا داخليا لم أكن قادرة على التركيز نهائيا. ثم تبين أن ما لدي من دم لا يكفي إلا لإبطاء مخي. وعلى أية حال، هيا بنا نكن أحسن حالا، وأكثر إصرارا.
أرجو ألا تبدو هذه الرسالة خارجة عن السياق. ربما في المرة القادمة التي أكتب لك فيها لن أنطلق في قصص أو مونولوجات عن عاداتي في القراءة. رسائلي في العادة عن مضخات مكسورة أو طواحين هواء معطلة أو حتى عن سيارتي التي لا تسير جيدا. ولكنني اليوم لم أقو على كبح نفسي. أتصور أنني كنت راغبة في الكتابة عن الديكة منذ وقت بعيد. أنا في العادة لا أكتب رسائل طويلة، ولا أريدك أن تشعر أنك مضطر للرد بمثل هذه الطريقة. ولكنني أريد أن أبقى على تواصل معك.
المخلصة
ليزلي

***

-5
نيوارك، ديلاوير
12 أكتوبر 1978

عزيزتي ليزلي
قبل بضع سنوات ـ نسيت كم عددها ـ بعث لي صديق رسالة من شيكاغو. أقول صديق، ولو أنني في تلك الفترة لم أكن التقيت به. كانت رسالته بسيطة: "أنا وحيد ولم أعد أحتمل الوحدة. لا أقصد العزلة. فأنا بحاجة إلى العزلة. لكن الوحدة تتلف الروح". واضح كما لو أنني أختلق هذا، ولكن أقسم لك أن ذلك ما كتبه إليّ، وكل ما كتبه أيضا. وأخشى أن ردي سوف يكون غير محتمل، و"أدبيا" أيضا. ومع ذلك فالحقيقة البسيطة هي هذه: كتبت إليه على الفور بأنني سوف أذهب للعثور عليه في شيكاغو بعد عيد الشكر (لا أعرف في أي عام كان ذلك) بل وأنني سوف أحضر معي بنتين جميلتين وموزا.
وفعلت ذلك. نسيت كيف فعلته، لكنني فعلته. قضينا عطلة أسبوعية طويلة، نتكلم ونلعب بلياردو. ثم رجعت إلى سان بول بمينيسوتا حيث كنت أعيش في ذلك الوقت.
منذ فترة أفكر في كلامه عن الوحدة والعزلة، لأنني أوشك الآن أن أعثر على الطقس المناسب لحياتي. أرجو أن تغفري لي استيلائي على كلمة "الطقس" لكنها كلمة حقيقية، وأنا بحاجة إليها. وطقسي سيشرق عما قريب. ففي الساعات الأولى أشعر أكثر ما أشعر أنني في مكاني ومع نفسي. زوجتي آني لا تصحو مبكرة جدا، فأبقى ساعتين وحدي أتأمل الأشياء. خلال الأسبوع الماضي ... بل لا بد أن أقول إنها الأيام الأربعة الماضية ... كنت أمضي تلك السويعات مع قصصك وقصائدك. المثير للفضول أنني كنت أقضي بقية اليوم وأنا أفكر فيها وأتلهف إلى الرجوع إليها في الصباح التالي. كنت أضعها معي في حقيبتي، فحتى حينما أكون في المكتب كما أنا الآن وأفكر في ما سوف أقوله لطلبتي بعد الظهر وكيف أنني سوف أحاول الإصغاء إليهم، أعود فأتصفح نساء لاجونا مرة أخرى. أمر مثير أن يكون كتاب صغير كهذا حاويا كل هذا الفضاء الهائل، كل هذا الفضاء المليء بالأصداء والأصوات.
وبالطبع رسالتك الطويلة منحتني نفس الإحساس بشيء ما منعش ولا ينفد. جعلتني فرحا، ليس فقط بسبب قصة الديك، بل بالنثر الذي في الرسالة، بوضوحه وسرعته وقوته، بمثل الروح السارية بسلاسة وقوة هائلة في "الطقس"، أعني الرواية. أتصور أن الكلمة التي أبحث عنها هي "الفيض". أنت فياضة. لا أنت فوضوية ولا مشتتة. فياضة، مثلما المواسم نفسها فياضة. أخشى أن أبدو هنا "أدبيا" أيضا، سيكون هذا مؤسيا، فما أريد قوله حقيقي للغاية بالنسبة لي. أنا سعيد بشدة، وبطريقة ما مرتاح جدا، أنك موجودة.
مررت مرة بالطلاق. ولا أذكر هذا لأحكي لك قصة حياتي، وهي مكرورة ومملة، بل لأقول إنني يمكن أن أتفهم أي أذى، بل وضياع، ذلك الذي تشعرين به. والقصائد تقول بوضوح كم هو مؤلم وعميق ما تمرين به. عموما، وكما تقولين، لا بد أن نتحلى بالإصرار وبالشجاعة. وكما كتبت بنوع من الإطلاق والقطع في "الحكاءة"، لا بد للقصة أن تحكَى، ولا بد لأحد أن يبقى فيحكيها. لا أتصور أنه من قبيل الإطراء فقط أن أقول لك إنني لا أعرف كاتبا حيا يدرك هذه الحقيقة بمثل هذا العمق، ويدرك دلالاتها، مثلك أنت. وأعرف أنني بحاجة إلى هذه الحقيقة، وإلى إيضاحك لها، ولا أحسبني الوحيد في هذا.
أشعر أنني أصبح سطحيا حينما أقول لك إنني من أوهايو، وإن لعائلتي جذورا عميقة وبعيدة جدا في أوهايو وفرجينيا الغربية.
دعيني أقل لك بعض المستجدات. أنا في ديلاوير أستاذا زائرا لفصل الخريف. وأرجو أن أسافر أنا وآني إلى باريس قبل الكريسماس، ونريد أن نقضي الإجازة في شارتر، بعدها سوف نقضي ثمانية شهور في أوربا، سنكون في أغلبها في إيطاليا الحبيبة، في أبوليا، كعب الحذاء. بمجرد أن نحدد خط سيرنا، سأرسله إليك، وأرجو أن نتمكن من الاستمرار في التواصل، حتى أثناء التجوال.
أرجو أن تكتبي وقتما تستطيعين، ولو باختصار.
حينما تشيرين في قصائدك إلى ماي فهل تقصدين، بالمصادفة، تلك الفتاة الصينية الأمريكية التي كانت في ميشيجن هي الأخرى؟ لو أن الأمر كذلك، فقد قابلتها مرة أخرى، في بيت دالواي كينيل. وهي بالفعل شخصية ظريفة، وأيضا شاعرة جيدة.
لقد رجعتِ بي إلى دفتري مرة أخرى، فقضيت صباح اليوم مع قصيدة قصيرة. أستغرق الزمان كله لأنتهي من شيء، لكنني أفعلها في بعض الأحيان وأنتهي من بعض الأشياء.
باسم الصداقة
دائما
جيم

***

-6
توسكون، أريزونا
17 أكتوبر 1978
عزيزي جيم
أقرأ القصائد ببطء، قليلا منها كل يوم، وبعضها مرة بعد مرة. أحاول أن لا تكون لي من بينها "قصائد مفضلة" (مثلما تحاول أم أن تحب أبناءها جميعا بالقدر نفسه) ولكنني طالما آمنت بالحب من النظرة الأولى في حالة الشعر لا في حالة الناس والأماكن. هكذا أعيد قراءة القصائد المفضلة المرة تلو المرة مع استكشافي للقصائد الجديدة. أتقدم ببطء، لذلك لم أعرف بعد كل ما أحبه. وأعني بالحب أن أعانق القصائد بعيدا عن تفاصيل القالب والبناء والأسلوب وكل تلك الأشياء التي يفترض أن يفكر فيها الناس وهم يقرأون الشعر (أو وهم يكتبونه في حدود ما يعنينا). أقرأ القصائد مثلما أكتبها: بأن أستشعر طريقي إليها. ثم إنني أصادف أبياتا يمكنني أن أعيش وإياها إلى الأبد:
حتى نور شمس الظهيرة في الكولسيوم ظلٌّ
ذهبيٌّ لأسد جائع
هو أجمل مخلوقات الرب
فيما عدا الحصان"
و
"ولكنهم سوف يبقون طويلا.
وإني أفضل أن أعيش حياتي
على أن لا أعيشها.
العنبات في المتجر الصغير
هائلة وحمراء كالدخان.
أكلت الآن واحدة.
أكلت أولى بشائر الموسم
وها أنا الآن عاشق".
أحب تكرار "وفي ما أعرف". حكاءة لاجونا تستخدم التكرار هي الأخرى، وهي الأخرى ترفض ادعاء امتلاك أي معرفة يقينية بأي شيء برغم أننا جميعا نستشعر الصدق في ما تحكيه.
أدفع نفسي إلى الانتهاء من السيناريو الأول الذي أحاول فيه أن أحكى قصص لاجونا سينمائيا مستخدمة صوت الحكاءة والمواقع الفعلية التي يفترض أن هذه الحكايات جرت فيها. الغريب، أن مشروع الفيلم تجربة في الترجمة، يضع الأرض ـ بالتلال والغدران والجنادل وحقول القطن في أكتوبر ـ أمام من لا يألفون كل ذلك، لأن هذه القصص في نهاية المطاف خرجت من هنا مثلما نرى نحن أننا خرجنا من الأرض التي هناك. ترجمة قصص لاجونا تبدو بشعة على الورق. ولكن الصوت والوجه واليد والإشارات والإيماءات تحييها، ولكنك لو لم تكن تعرف الأماكن التي تستحضرها الحكاءة في حكيها، إذا كنت لم تخض في نهر سان جوزيه العابر بالقرية، وإذا كنت لم تختبئ مع حبيبتك وسط صفصاف النهر ورمله، فإنك تفقد شيئا ما مما تحكيه الحكاءة لا يفقده أهل لاجونا. حكايات لاجونا شديدة الفقر لأن الأغلبية العظمى من القصص تقوم على معرفة شائعة بين الناس، والحقيقة أن أوصاف النهر وصفصاف النهر غير واردة في القصص إذ المفروض أن المستمعين يعرفون سلفا النهر وصفصافه. لذلك أرجو بالعمل مع سينمائيين بارعين أن أنقل القصص على أخلص نحو ممكن لقلب حكاءة لاجونا. سوف يكون الفيلم بمثابة سياق، أو مكان تقيم فيه الحكايات. المسألة كلها تجربة، والفيلم وسيط شديد التعقيد باهظ التكلفة. وسيكون الحظ قد حالفنا لو نجحنا بالوصول بالورق إلى الفيلم. ولكن نصوص الحكايات جميلة، ونسختها البصرية جميلة أيضا على الورق، لذلك أشعر أنه مهما يكن النتاج، سأكون قد أنجزت شيئا جميلا. لقد كنت بحاجة إلى أن أفطم نفسي عن وصف الأرض، والسيناريو أعانني على ذلك. أعتقد أنني أتعلم أيضا، عن إمكانيات الصورة البصرية وعن حدودها. ويدهشني كمُّ الأشياء التي لا نكاد نفكر فيها نحن الكتّاب ونحن نتعامل مع الورق ـ يا إلهي كم هي مستحيلة بصريا. في المقابل، يمكن أن تترابط صور الفيلم معا فيتلقاها عقل المشاهد على نحو يغنيه عن "الجسور" و"الانتقالات" التي لا بد أن يتعامل معها الكتّأب.
عموما، أرجو أن لا يكون هذا كله مملا لك ، أعني نقاش البصري واللغوي إلخ. وأرجو أن أستمر في التعلم، وهذا من أهم مشاريعي وأكثرها طموحا.
بدأ ريش جديد يطلع للديك. والبغال تسمن ولكن حوافرها يبست من قلة المطر فهي تتشقق (هذا يجعل صوتها أسوأ مما هو في حقيقته. الحوافر تتكسر فتفقد البغال حدواتها) عندما نسوقها بسرعة فوق الصخور. الذئاب لم تأكل القطط أيضا، ولكن قطة حاولت أن تتسلق صبارة بالأمس فقضيت فترة ما بعد الظهر أنزع الشوك من بطنها وذيلها ومخالبها.
أشكرك مرة أخرى على كتاب "إلى شجرة الكمثرى المزهرة"، يا له من كتاب!
المخلصة
ليزلي


***

-7
نيوارك، ديلاوير
28 أكتوبر 1978

عزيزتي ليزلي
كان مثيرا للغاية أن أقرأ كلماتك عن السيناريوهات التي تعملين عليها، ويمكنني أن أفهم تماما ما تعنينه بالقصص التي تعتمد على معرفة شائعة بحيث يكون الجمهور عند حكيها قادرا على التقاط الإشارات ورؤية الآفاق. ولا أعرف إن كان بوسعي أن أقول لك شيئا خطر لي، وليس ذلك فقط في السياق الراهن. الكتابة انطلاقا من سياق مشترك، أو بصحبة هذا السياق، تستوجب جمهورا مناسبا عارفا. ويخطر لي مثلما قلت إن بوسعك أن توجدي الجمهور العارف بسياق القصة المعرفي، من خلال الاستعانة بالتصوير السينمائي المناسب. هذا صحيح وجميل. ولكنك في مرحلة ما من كلامك قلت «لقد كنت بحاجة إلى أن أفطم نفسي عن وصف الأرض…». أنا واثق أنك تتكلمين عن عملك الفعلي على السيناريوهات، لا على وصفك للآفاق في أعمالك القصصية. فهذا الوصف بالذات، في الرواية وفي القصص، هو الذي يوجد كثيرا مما تحاولين حكيه في تلك القصص. لم أشعر قط أن وصفك للآفاق زخرفي أو زائد عن الحاجة. على العكس، فمن أعظم نقاط القوة التي يمكن استشعارها في [كتاب] «الطقس» على سبيل المثال، هو قدرتك على الوصف، أو ما وراء الوصف إذا جاز القول طريقتك في التعامل مع الآفاق ليست مجرد مراكمة للتفاصيل بل استحضار (ولا أجد لدي كلمة أفضل) لشيء ما، لروح مثلا؟ عموما، تأثير ذلك في حالتي هو أنني كما لو كنت أسمع الآفاق نفسها تسرد القصة.
هذه مجرد أفكار عرضت لي وأنا أقرأ كلماتك عن السيناريوهات. وما تقولينه أبعد ما يكون عن الإملال، إنه مثير.
لقد أسعدتني بكلماتك عن «إلى شجرة كمثرى مزهرة». وأعتقد أن أقصى ما يرجوه الكاتب في أعماقه من تأليفه كتابا هو أن يصادف رد فعل صادق من شخص يهتم به الكاتب اهتماما صادقا ويحترمه احتراما عميقا… أريد أن أبعث هذه الرسالة الآن. ويعيش الديك المتعافي.
محبتي
جيم

***

-8
توسكون، أريزونا
1 نوفمبر 1978

عزيزي جيم
الكتابة لك متعة خاصة أكتنزها لنفسي، تماما كانتظار رسائلك. لو كانت رسالتي أرجعتك إلى دفترك من جديد، فقد أرجعتني رسائلك إلى الكتابة عن مناجم الفضة المهجورة ومدينة جرانتس بنيومكسيكو، وسرقة القطار سنة 1918.
رحلتك الوشيكة تبدو رائعة، وسيكون مثيرا لي أن أواصل مراسلاتنا وأنت بالخارج. لا أعرف إن كنت بارعة في السفر. مرة سافرت لمدة شهر في بيثيل بألاسكا، وهي مدينة بالإسكيمو كل من فيها ألفان وخمسمائة، على بعد ثمانمائة ميل من بحر بيرنج. كل يوم قضيته هناك كانت رغبتي في الرحيل تقلّ، وفي اليوم التاسع والعشرين خفت أنني قد أكون تغيَّرت بحيث أنني لا يمكن أن أغادر أهل بيثيل دونما إحساس رهيب بالفقد والحزن، كما لو كنت ولدت هناك. احتجت جهدا هائلا للرحيل عن بيثيل، وما زلت أشعر إلى الآن أنني لا بد أن أرجع إلى هناك من جديد. لعلي بطبعي مقيمة لا مسافرة.
أنت أشرت إلى بعد الأرض شديد الأهمية عندما تكلمت عن علاقة أهل بيوبلو بالأرض فقلت إنه كما لو أن الأرض هي التي تحكي حكايات الرواية. هذا هو الأمر بالضبط، وإن يكن من الصعب نقل هذه العلاقة دون أن أبدو وكأنني مارجريت فولر(1) أو إحد الترانسندنتاليين. حينما كنت أكتب «الطقس» كنت منهارة أشد ما يكون الانهيار لبعدي عن أرض لاجونا فلم يكن غير الكتابة من سبيل لي لإيجاد المكان لنفسي من جديد، أعني إيجاد بلدي لاجونا. وأقول إنني «علَّمت نفسي» لأنني أتصور أن يفهم هذا أغلب الكتَّاب والشعراء، ولكنه نوع من الدروس التي ينبغي أن يعثر المرء عليها بنفسه. ليتني عرفت أفلاطون خيرا مما عرفته. لكن ألم يقل إن فكرة الشجرة أكثر واقعية أو أهمية من الشجرة الفيزيائية الفعلية نفسها؟ حسن، أنا لا أتفق مع هذا أيضا، لكني أظن أن في الفكر الغربي دافعا ماديا يقول إنه لو لم يكن لديك «الشيء الواقعي غير ملموس وغير متغير» فليس لديك شيء من القيمة/المعنى. عندما غزت قوات سلاح المهندسين المقامات المقدسة والأراضي القريبة من منطقة بويبلو، قال كثير من غير الهنود (والهنود أيضا) «حسن، إنها خربة. فلماذا يبقون [أي نحن] على مقربة من هذه الأماكن؟ وها هنا في ما يبدو مجال لعمل هذه الفكرة شبه الأفلاطونية: المشاعر القوية، الحب، الاحترام الذي يكنه أهلنا لهذه الأماكن المغزوة، هذه المشاعر وأهمية هذه المشاعر والذكريات والاعتقادات أهم بكثير جدا من المواقع نفسها. ولست أقول بذلك إنه لم يكن ثمة من أذى عظيم وخسارة جسيمة إثر غزو المقامات، لكن الفكرة أو الذكرى أو الشعور أو مهما يكن الاسم الذي تطلقه عليها أقوى وأهم من الدمار والخراب الذي قد يقترفه إنسان. وكم تعرف أنت هذا وتكتبه في شعرك «حزنا على الظلال» و«قرب الأطلال» و«نظرة أخرى أخيرة على أديج». وكم أحب هذا!
والحال نفسه مع الموت. الموت لا ينهي المشاعر والعلاقات في لاجونا. فحينما يرحل عزيز، يستمر الحب ويستمر في كلا الاتجاهين، إذ ترد أرواح الأعزاء الراحلين الحب بركاتٍ تبعثها إلينا، ربما مع المطر أو ربما مع الإحساس بالاستمرارية والقرب وكذلك مع الذكريات الماضية. ولا يزال الناس يتكلمون عن الأعداء القدامى كأن المعركة لم تزل دائرة. ومعناه للعائلة وضع قليل من الطعام في طبق للأرواح (أرواح الأهل والأصحاب) قبل تناول الوجبة. لا أعرف ما الذي كان يمكن أن يقوله أفلاطون في هذا، لكن لدينا هنا، في ما يبدو لي، فكرة أو ذكرى أو مفهوم عن بقاء الشخص بعد رحيله المادي بوقت طويل. وهكذا يا جيم يظهر لدينا دليل جديد على مقولة قديمة هي أن «المعرفة القليلة بأفلاطون خطر».
اليوم عيد كل الأرواح، وهو يوم مخصص عند شعبي المكسيك وبيوبلو لتذكر الموتى، لكنه ليس بالضبط كالذكرى السنوية. ستضاء الشموع الليلة في لاجونا لدى المقابر ويكون ثمة كل أنواع الطعام وأحب الأطباق من قبيل اليخنة المشطشطة والبندق المحمص لأرواح الأحباب. يحاول الناس أن يتذكروا أحب ما كان من أطعمة الميت. وأنت حينما يموت شخص في لاجونا لا تحاول أن تتجاوز ذلك بالنسيان، بل أن تتجاوزه بالتذكر، بتذكر أنه ما من شخص يمضي سدى وقد كان من قبل في حياتنا ويحبنا مثلما نحبه. وهذا لا يعني أنك تعيش الحياة كما لو كان الشخص حيا. فلو كان جدي لا يحب الطلاء الأحمر ومات يكون بوسعي أن أطلي بالأحمر فالجميع يفهمون أن مثل هذه الأشياء لم تعد تعني الميت.
نفاجوس وقبائل أخرى لا يشعرون بمثل هذا طبعا، فهم يخشون أرواح الموتى. والإسكيمو يطلقون على أطفالهم أسماء الموتى اعتقادا بأن أرواح الموتى عادت في أولئك الأطفال، وإن كانوا يدركون أيضا أن الأمر ليس كذلك طول الوقت. فهي ليست فكرة راسخة كالتناسخ عند بعض الثقافات الآسيوية.
كان هوارد روك شخصا رائعا هو الذي أسَّس الجريدة الأهلية الأولى في ألاسكا باسم «توندورا تايمز». كان يعرف كم يريد أهل الإسكيمو وأسثابسكان أن يعرفوا أخبار القرى، فاستعان بمراسلين رائعين في القرى كان استخدامهم للإنجليزية لا مثيل له، وإن كان خارجا على القواعد قليلا.على أية حال، كنت أقرأ جريدته حينما كنت أعيش في كيتشيكان، وكان كلَّ أسبوع ينشر قصة بسيطة من طفولته في قرية على مقربة من نُومْ. وذات أسبوع تذكَّر أن عمته أخذته مرة وهو في الخامسة لصيد السمك من الجليد. قطعا مسافة مبتعدين عن القرية ومعهما الكلاب ثم حفرت العمة في الجليد حفرة وبدأ الصيد. كانت تلك العمة تنادي الطفل بـ«الجدة» فقد سُمِّي عند مولده باسم جدة بعيدة لها. تذكر هوارد روك أنه في ذلك اليوم اصطاد الكثير والكثير من السمك. وفيما كانا عائدين قالت العمة «تعرفين يا جدتي أنك كنت دائما الأبرع في صيد السمك من الجليد».
أقرأ ديفيد هيوم حاليا، ولذلك أفهمه أفضل قليلا مما أفهم أفلاطون. وطالما فكرت في فكرة العلة والمعلول الغربية في مقابل الفكرة نفسها عند شعب بويبلو. هيوم ينعش ذهني. كم كان شجاعا وحرا في زمانه! كم أنا معجبة بتفكيره. لقد مات منذ مائتي عام وحتى يومنا هذا لا تجد الناس يفكرون بحرية كالتي فكر هو بها في العلة والمعلول.
زارني أصغر أبنائي الأسبوع الماضي، فكان رائعا أن أكون وإياه معا من جديد. كل هذا الاضطراب الشخصي يأخذني من الكتابة، ولكن عندي إيمان بأن كل هذه القصص التي بداخلي سوف تنتظر. لذلك عليَّ أن أتجمَّل بمزيد من الصبر.
الديك الآن عنده دجاجتان بيضاوان صغيرتان وهو في غاية الفخر.
مع حبي
ليزلي

***

-9
نيوارك، ديلاوير
16 نوفمبر 1978
عزيزتي ليزلي
كانت رسالتك الأخيرة استثنائية الجمال، شأن رسائلك دائما. لم أعرف في حياتي إلا قليلين لديهم ما لديك من موهبة الحكي، الموهبة الطبيعية، موهبة امرأة هي ابنة الحياة نفسها، موهبة بدت لي دائما علامة أكيدة على ذكاء أكبر وأكرم. عرفت فتى كذلك في الجيش منذ سنين (من يدري عددها؟). ولكن لا أظنني عرفت غيرك شخصا قادرا لا على تجسيد موهبته فقط، بل (وهذا أمر شديد الأهمية) على وهبها، بمنتهى الدقة وبمنتهى العفوية. رسائلك دائما بهجة لي.
مرة أخرى، هذه الرسالة رد متأخر على رسالتك، وستكون أيضا، وللأسف، رسالة أقصر مما ينبغي. لقد استمتعت بالتدريس والعمل هنا في ديلاوير، ولكنني أشعر الآن من جديد أن الزمن يدركني، ولا تزال ثمة مهام كثير لا بد من إنجازها وواجبات أكثر لا بد من القيام بها. عليَّ أن أستقل القطار أنا وزوجتي آن عصر هذا اليوم في رحلة طويلة، طويلة، بطول الطريق إلى تشارلوتسفيل بفرجينيا حيث يعيش بعض أقاربها. الزيارة نفسها ينبغي أن تكون لطيفة، خاصة وأننا سوف نقضي بعض الوقت مع فتاة اسمها ليزا كَيان. هي ابنة آني بالمعمودية لكننا نعاملها معاملة ابنة أخت، بل كابنة لنا نحن في بعض الأحيان. هي فتاة في الثامنة عشرة، ذات روح طبيعية ساحرة وخفة دم، وإن تكن فيها لمسة حزن. مات أبوها في الحرب الأخيرة في جنوب شرق آسيا. ليزا عزيزة علينا. وقد قضت أغسطس الماضي معنا في باريس.
ولكن رحلة القطار سوف تكون طويلة، ولا بد أن أقوم خلالها بإنهاء بعض العمل الورقي الثقيل. ثم أكمل البعض الآخر في رحلة العودة التي ستكون بالحافلة يوم الأحد.
عيد الشكر الأسبوع القادم وينبغي أن نزور شقيقة آني في بنسلفانيا، وبعدها مباشرة لا بد أن نسافر إلى مدينة نيويورك حيث أقوم بإنهاء بعض الأعمال في كلية هانتر التي أدرِّس فيها عادة. وفي نيويرك أيضا سأقرأ شعري في متحف ججنهم.
عندي حوالي خمس وعشرين قصيدة جديدة (أعني أنها لم تظهر في كتاب بعد)، وتخايلني منذ فترة فكرةُ قراءتها في نيويورك. لكنني لست واثقا مما سوف أفعله بالضبط.
الشيء الذي أريد أن أفعله قريبا هو أن أبعث لك نسخا من بعض هذه القصائد، لا لتكتبي لي رأيك بالضرورة فعندك عملك الثمين جدير باهتمامك ولكن لتستمتعي بها فيما أرجو ولتعطيك فكرة عما كان يتراكم في دفتري على مدار السنة الماضية. يمكنني أن أرى حينما أستعرض العمل الذي أنجزته، أن نقاشنا للعلاقات بين الناس والطبيعة يقع في القلب من هذه القصائد. (وأنت حينما تحبين مكانا، حينما تحبينه حبا حقيقيا يوشك أن يكون بلا أمل، فإنك في ما أعتقد تحبين حتى علاماته الكارثية، تماما كم يحدث أن تدركي أنك تحبين شذائذ شخص ما بل والندوب التي في وجهه. وذلك وقع لي ذات مرة، وكتبت عنه أخيرا في كتاب قديم من كتبي عنوانه «القديس يهوذا»).
سنسافر إلى باريس مساء الحادي والعشرين من ديسمبر، وليس ذلك ببعيد. ولأن سفراتنا تكون معقدة في بعض الأحيان، فسوف أكتب لك قليلا كلَّ مرة، وفي أغلب الحالات سوف أرسل لك بطاقات بريدية. أرجو ألا يكون لديك اعتراض على البطاقات البريدية. هي وسيلة لتبادل بعض الأشياء، بعض الأماكن بعض المسرات، ويمكنها أحيانا، إن حسنت كتابتها وإرسالها، أن تكون بمثابة بضع مويجات يترقرق بها إيقاع المراسلات بيننا. في ميلانو، وهي مدينة في إيطاليا أنا مهتم بها لأسباب عديدة، مدينة عمال مليئة بالمصانع، هناك كنيسة صغيرة على أحد جدرانها أيقونة جميلة (لمريم وقد فردت طيات ثوبها بينما تحلَّق من حولها الفقراء) لا يعرف أحد من الذي رسمها، ومن ناحيتي أنا لا أريد أن أعرف. ليست للاسم الآن أهمية. (لست كاثوليكيا رومانيا. ولا أعرف ماذا أكون). سأبعث لك نسخة من الصورة، إن استطعت أن أجد نسخة هناك.
أنا سعيد إذ أفكر في الديك، وفي أنه لا بد أن يكون سعيدا بالدجاجتين… أوه، نعم: لا بد أن أخبرك أننا حينما كنت أحاضر مؤخرا في فيلادلفيا، قضيت أنا وآني بعض الوقت مع سام هامود وزوجته. وأراد بصفة خاصة أن أذكِّرك به.
أرجو أن تكوني بخير، وسعيدة
مع حبي
جيم

***

-10
نيس، فرنسا
9 يناير 1979
عزيزتي ليزلي
وصلنا إلى باريس في صباح الثاني والعشرين من ديسمبر، وأكتب لك الآن من مدينة نيس، على الأبيض المتوسط. ونحن نخطط لرحلتنا سابقا، كنا نفكر في الذهاب إلى بلدة هوسوم بمقاطعة شلزفيج هولشتاين في شمال ألمانيا. ثمة شعيرة حج ما زلت أريد أن أؤديها هناك، إلى بيت رجل أدين له بمنتهى الإخلاص (2). ولكن الشتاء هاجم شمال أوربا بضراوة. وآخر ما سمعته أن شلزفيج هولشتاين الآن تحت ثمانية عشر قدما من الجليد. حتى نحن غادرنا باريس ذات فجر هطل فيه الجليد قبل أيام قليلة، وأنا الآن حالا جالس في أوتيل دي أورانجير. وتكاد تمس كتفي الأيمن قمة شجرة ميموساMimosa واقفة خارج الشباك، وتحتها شجرة برتقال، وأدركيني يا ليزلي، إنها شجرة برتقال مثمرة. لوقت طويل كنا نريد المجيء إلى هنا لنرى بنفسنا ما إذا كان الشتاء الأسطوري في الساحل الأزرق حقيقة أما وهما. وهو حقيقة. درجة الحرارة تظل حول الخمسين [فهرنهايت]، ولكن ثمة بهرة مكثفة من نور الشمس تسطع على البحر ومنه تضرب المدينة ومنها تضرب التلال. ألبير كامو كان جزائريا، وحدث ذات مرة، عند نهاية الحرب، وقد ضاق من خراب الأرواح والأجسام، أن عاد إلى الوطن لفترة. وفي محاولة للتداوي، وفي حيرة من أمره، أهو حي لا يزال، أم قضى نحبه، أدرك أن طفولته خلَّفت له ما سمَّاه صيفا أبديا في قلبه. أنت نفسك يا ليزلي كتبت بهذه القوة المطلقة عن قوى النور (والليل أيضا) بما يجعلني أتساءل إن كنت ربما تشعرين بمثل شعور كامو حيال طفولتك والجنوب في أمريكا. يجب أن أقول لك إننا سوف نرحل الأسبوع القادم من هذه المدينة إلى مدينة تولوز. سوف نبقى هناك لنحو أسبوعين. سيكون هناك وقت كاف لتكتبي إليَّ إذا سمحت ظروفك، وعنواني هناك بوست ريستانت، تولوز، فرنسا. لن يمنحني شيء السعادة مثل تلقِّي رسالة منك. خلال الشهر الأخير لي في ديلاوير أو نحو ذلك لم يصلني منك شيء.ربما كان ينبغي أن أكتب لك قبل أن نسافر، لكنني لم أستطع، هذا كل ما في الأمر. أريد أن أقول لك إنني كتبت عنك رسالة طويلة للغاية إلى مؤسسة ججنهم. وليس هناك الآن إلا الانتظار والدعاء… لسبب مجهول يا ليزلي، أشعر بالقلق عليك. لقد قلت لي في بداية مراسلاتنا إنك أجريت جراحة. فافترضت أن المسألة انتهت، ثم وجدت هذا القلق ينتابني. أرجو فعلا أن تكوني بخير… ثمة وراء هذه المينة تلال منحدرة وجروف، تتناثر فيها بيوت بيضاء، مثل بويبلو. أرجوك اكتبي إليّ.
مع حبي
جيم




* (1) سارة مارجريت فولي أوسولي Sarah Margaret Fuller Ossoli (1810 1850)، أو مارجريت فولر اختصارا، صحفية أمريكية، وناقدة، وكاتبة في قضايا حقوق المرأة، ارتبط اسمها بالحركة الترانسندنتالية الأمريكية ويكبديا
(2)ثيودور شتورم Theodor Storm

* ليزلي مورمون سيلكي شاعرة وروائية أمريكية ترجع أصولها إلى سكان أمريكا الأصليين، وجيمس رايت شاعر من أهم الشعراء الأمريكيين في النصف الثاني من القرن العشرين. ولد في عام 1927، وولدت هي في عام 1948. لم يلتق الاثنان إلا مرتين، أولاهما كانت لقاء عابرا في واحد من المؤتمرات الشعرية في ميشيجن. وبعد ذلك اللقاء، بدأ الاثنان يتبادلان الرسائل على مدار سنوات طويلة. اللقاء الثاني كان في غرفة في مستشفى، حيث كان جيمس رايت يرقد محتضرا. مراسلات على مدار سنين، يحكي فيها الأديبان الكبيران عن الشعر والرواية، والديكة والبغال، وعن الطلاق والزواج، وربما في هذه الرسائل أيضا ما هو أكثر من ذلك، أو أعمق، أو أبعث على الشجن. هذه هي الحلقة الأولى: ـ

ترجمة: احمد شافعي
** مدونة احمد شافعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى