محمد خير - 35 ملم

في جلبابها تقترب ببطء من التلفاز حتى تكاد تحجب الشاشة، تقرّب رأسها وتضيّق عينيها رغم النظارة الثقيلة وتسأل: تمثيلية إيه يا ولاد؟
نردّ بنفاد صبر: فيلم يا تيتة، فيلم.
ويظهر شبح ابتسامة على وجه أمي التي تضع قدمها على دواسة مكنة الخياطة، ويدها على القماش تحت الإبرة، وطرف عينها يراقبنا وأنفها يراقب رائحة النضج في المطبخ.
تتراجع جدتي وتجلس أو تخرج من الحجرة التي يطلّ زجاجها على شرفة الجيران، وحتى قبل سنوات طويلة من معرفتي بالفارق العلمي بين صورة الفيديو وصورة السينما، بين الـ في إتش إس والـ 16 ملم، بين الإضاءة الساطعة المسطحة وبين الأبعاد المتباينة الزاهية، كنت أندهش كيف أن جدتي، التي لم تعد تفعل أصلاً سوى متابعة المسلسلات، لا زالت تعجز عن التمييز – ببساطة كالجميع - بين صورة الفيلم وصورة المسلسل، فتسألنا، ونحن متجمعون حول شاشة الـ تليمصر، السؤال نفسه، أو معكوسه: فيلم إيه يا ولاد؟
فنرد بالصوت العالي مغالبين سمعها الثقيل: تمثيلية يا تيتة، تمثيلية.
وأعبر محيطاً وقارتين وثلاثين عاماً. في الطابق الثامن والعشرين، أرتدي ملابسي الشتوية كعادتي رغم التدفئة المركزية، على عكس «آن» التي ارتاحت فوق أريكة الصالة في شورت قصير، ومدت ساقيها الطويلتين بطول الأريكة، وابتلعت من لحظة لأخرى رشفة من النبيذ الأحمر المرتاح على الطاولة، والصالة معتمة إلا من ضوء الشاشة الـ إل سي دي، وفيها تبدو الفاتنة فوق تلة عالية خضراء، تهمس شيئاً للشاب المبتسم، ثم تدفعه فجأة فيسقط صارخاً من حالق.
أترك أوراقي وأقترب سائلاً عن الفيلم.
- مسلسل يا حبيبي، مسلسل.
تجيبني آن، فأحني رأسي تلقائياً نحو الشاشة، محاولاً قراءة الحروف الصغيرة في ركنها، ولجزء من الثانية بين إضاءة وإظلام الكادر، تتجسد صالتنا القديمة، تتسلل رائحة التقليّة وهدير ماكينة الخياطة.




* شاعر وقاص، من إصداراته: «هدايا الوحدة» - شعر، «عفاريت الراديو» - قصص، «سماء أقرب» - رواية، «رمش العين» - قصص.

محمد خير


* عن موقع الاخبار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى