رسالة عبد الستار ناصر الى سهيل ادريس

- رسالة عبد الستار ناصر الي سهيل ادريس

سيدي العزيز:
فجأة ومن دون تخطيط مسبق، فكرت بالكتابة إليك، أنت واحد من خمسة مبدعين عرب غيّروا حياتي.

ليس في الأمر من شكوي أو رجاء بشيء، هي المحبة وحدها ولا شيء سواها.
في سنة 1967 علي ما أذكر، وربما بعد ذلك أو قبله، نشرتم قصتي (ذات يوم بارد) وكان نشرها في (الآداب) قد حرك الدنيا من حولي وأعطاني القوة والتصميم علي أن أكون كاتبا.
رأيت نفسي في مجلة يحترمها القاصي والداني وثمة من يأتي ليسألني : كيف نشرت في الآداب؟ مع أنني بعثت بها في البريد وقررت نسيانها فوراً لئلا أحزن أو أحبط حين تغفلون عنها أو ترمونها في سلّة المهملات.
أقول: تحرك العالم حولي، ولا أدري يومها ان كنت أنا الذي جتحرك حول العالم، قد أصبحتُ (محترماً) بين أقراني وصار بعضهم يتوسل صداقتي لأنني رسمت اسمي في مجلتكم.
يا لتلك (الآداب) كم كانت خطيرة ومؤثرة، هي التي جاءت بمئات الأسماء ــ المعروفة اليوم ــ وأعطتهم جواز مرور إلي المجد والشهرة وأظنهم دونها ما حصلوا علي قطعة أرض في ولاية الخلود!

أقول خمسة من المبدعين غيّروا حياتي أنت يا سيدي واحد منهم، يأتي بعدك الشاعر العظيم (أدونيس) الذي احتواني وأكرمني دون ان يعرفني يوم ان تصدّي للدفاع عني في مجلته المحترمة (مواقف) حين رموني إلي دهاليز المخابرات العراقية بسبب قصة عنوانها (سيّدنا الخليفة) دفعتُ ثمن نشرها سنة من عمري انفرادية تحت الأرض لا أدري مكانها (أين؟) في خارطة بغداد الجوانية!

لكن الرجل الشاعر قال كلمته بشأني ولم يسأل أو يلتفت خوفاً من نتائج ما سيأتي من غضب السلطة الحاكمة في العراق، وكان لفعلته تلك ان جاءت رسالة خطيّة رسمية من السيد كورت فالدهايم الأمين العام السابق للأمم المتحدة وهو يطالب بالإفراج عني فوراً دون قيد أو شرط .

أنا لا أنسي من أكرمني وحقق لي شروط بقائي حياً علي قيد الإبداع والحياة معاً، وأقول بإصرار (إنك واحد منهم) أيها الكبير.

واعذرني إذا ما طالت عليك رسالتي وذكرت اسم المبدع الثالث الذي لولا أنه مرّ في حياتي لما أصبحت (عبد الستار ناصر) الذي تعرفونه اليوم، انه الشاعر الذي أمطرني بنصائحه وجنونه ووصاياه في الكتابة والحياة، فوزي كريم الذي قال لي ذات مساء في شارع (أبي نؤاس):
ــ أعتقد أن القليل من الجنون والفوضي والخمرة ستجعل منك مبدعاً مرموقا.

وكان يومها يرمقني بشيء من الحسد الجميل، أو هكذا ظننتُ في صباي، حتي إذا ما كبرتُ خمسة أعوام أخري تأكد لي أن فوزي كريم كان هو الأب الروحي لقصصي وكتاباتي وبداياتي حصراً وكان عن وعي مفرط يعرف أن هذا الصبيّ المزعج الذي اسمه عبد الستار ناصر يمكنه أن يحقق شيئاً مع القصة القصيرة والرواية، لذلك أعطاني نصف وقته في تربيتي، ولو أنه أعطي هذا الوقت لنفسه لما تمكن أي شاعر في الأرض أن يجاري موهبته الكبري لكنني أخذتُ منه أثمن ما كان يملكه في تلك السنوات.

يشهد الله أني أخاف عليكم جميعاً، وسأعترف بأنني أخاف اليوم الذي أسمع فيه برحيل أي واحد منكم مع أنها سُنة الحياة، قد كان لكم الفضل في تربيتي وفي بزوغ إحساسي بجدوي أن نكون في هذا العالم.

المُبدع الرابع ــ ودون ألقاب أو صفات أو بهرجة إعلامية ــ هو الصديق الشاعر المترجم حسين حسن، وكم يؤسفني انه علي جانب من الكسل والتواضع والعزلة واللامبالاة، بحيث أنه يرفض حتي أن يصدق (كم هو شاعر مهم) مع أنه ذات شتاء من عام 1963 راح يسخر مني حين رأي (إحسان عبد القدوس) بين صفوف مكتبتي، هو الذي أرشدني إلي مجلة الآداب وإلي ديستويفسكي وبلزاك وشولوخوف وألبير كامي وجان بول سارتر وجورجي أمادو وهمنغواي وجيمس جويس وأخبرني ان الطفولة حان وقتها في أن تغادرني، وأوشك ان يمزق بعض ما رأي من الكتب وهو يكرر:

ــ لو لم أكن قد رأيت هذه التفاهات بنفسي لما كنت أصدق أنك تقرأها.

ولكم كان عسيراً عليّ وداع يوسف السباعي وأمين يوسف غراب ومغادرة إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله وثروت أباظة ومحمود تيمور، لكن الحكم الذي فرضته محاكم حسين حسن جاءت دون أي استئناف أو رجوع إلي محكمة الإبداع!

هذا الرجل ــ صديق طفولتي الأول ــ سلّمني مفتاح البيوت التي يسكنها أوسكار وايلد وهنري ترويا ودينو بوتزاتي وجورج أورول وصاموئيل بيكت وأناتول فرانس وهرمان هسه وآستورياس وأرغمني علي قراءة (دون كيخوته) و(الحزن العميق) و(سن الرشد) و(وقف التنفيذ) و(صحراء التتار) و(صورة دوريان غراي) و 1948 و(الدون يجري هادئاً) مع أنه أسلم نفسه للصمت والخمرة والقراءة ولم يلتفت إلي اسمه ولا مرة واحدة طوال ثلاثين سنة كنتُ (أنا) فيها أرسم خارطة المستقبل دون هوادة وكأنني أسابق الزمن إلي شيء لا أعرفه!!
يكفيني فرحاً أن حسين حسن ما يزال حياً مع أن أصدقائي ــ وهو ليس بأصغرهم ــ ماتوا تباعاً من فرط الحسرة والفجيعة تحت خيمة صدام حسين الذي أعطانا السُم بالتقسيط المريح!

أما المبدع الخامس (بينكم) فهو أول أساتذتي العرب في كتابة القصة القصيرة وأعني به طبعاً (يوسف إدريس) الذي رفضته اجتماعياً وأخلاقياً حين عرفته عن قرب، لكنني لم أتخلّ عن قراءة أعماله أبداً، ومحض مصادفة في التأريخ صرت صديقاً مقرباً إليه يوم قال عني بأنني (خليفته) الأول والتالي حين قرأ قصة لي عنوانها (النورس في مدريد) أخبرني بعدها ــ ربما مجاملة أو لغاية في نفس يعقوب ــ بأنه هو نفسه لن يستطيع أن يكتب مثلها، أصابني الكثير من الغرور حتماً، هذا المبدع الخطير الذي أخافه والذي كتب ((مسحوق الهمس) و(النداهة) و(الحرام) و(لغة الآي آي) يقول إن قصتي تجاوزت ما كان يكتبه، ويريد مني تصديق ذلك دون عناء أو شكوك!

في واحدة من زياراته الخمس إلي بغداد راح يسألني عمّا أكتب، أعطيته قصتي (في مقهي لاباس) وفي الصباح التالي أعادها وهو يقول :
ــ أيّ شيطان يكتب بالنيابة عنك؟
ولولا خوفي أن يقال بأن هذا الكلام يأتي من رجل (ميّت) وليس من شاهد عليه، لقلت ما هو أخطر وأكثر عجباً من ذلك!

سيدي العزيز سهيل إدريس،
سأقول بمسؤولية لن أحذفها من تأريخ حياتي، بأنكم جميعاً أساتذتي وأهل بيتي، أنت وأدونيس وفوزي كريم ويوسف إدريس وحسين حسن، وانني حقاً أتمني الرجوع إلي تلك السنوات (الحلوة) التي كان العالم فيها اكثر طيبة وبراءة مما نحن عليه اليوم، إذ يحزنني أن الدنيا توشك أن تكفّ عن القراءة بل جفّ ذاك البحر العميق من المحبة وصناعة الكتاب ونسج الرحلات بين القصة والشعر والرواية و(قرأت العدد الماضي من الآداب) فما عاد من أحد يهمّه ما جري أو ما يجري في مجلاتنا الأدبية، وصارت السياسة تأكل الأخضر واليابس من إبداعنا العربي المعاصر!

لماذا أكتب لكم هذه الرسالة في وقت كهذا؟

السبب هو ما جاء في مذكراتكم أولاً، والتي عرفتكم بعدها اكثر مما كنت أعرفكم، ثم الملف الذي تكرمت به مجلة (أخبار الأدب) المصرية والتي ضاع اسمي بين أسماء من ساهموا بها، وبما أنني قاب قوسين من نهايتي (وهو أمر سوف يستغربه المولعون بتكذيبي (فأنا أتعطّش حقاً للماضي الذي خسرناه والذي أري متأكداً بأنه لن يعود ولن يتكرر وهذا ما يخفف حجم أسفي إذا ما رحلت.

أنا حقاً غير آسف علي الرحيل إذا ما تمّ غداً، قد كتبتُ اكثر مما كتب أقراني وأحبابي، وصار مجموع الكتب التي نشرتها يزيد علي ثلاثين كتاباً، وهذا يعني أنني عشتُ حياتي بما ينفع الناس.

أرجوك أن تعذرني إذا ما ظننت (أنت) بأنني كتبت الرسالة لغاية أخري غير التي جاءت (هكذا) دون قرار مسبّق غير قرار المحبة والامتنان لمجلة الآداب ولكم أولا.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى