رسالة من عبد الحكيم قاسم الى سعيد الكفراوي

- رسالة من عبد الحكيم قاسم الى سعيد الكفراوي

برلين الغربية عصر الثلاثاء 6 مارس 1984

أخي سعيد كفراوي
فرحت بخطابك كأنني رأيتك وأخذتك في حضني ورأيت الذي كان رأي العين... يا سلام يا عالم.. والله العظيم يا سعيد إحنا أجدع ناس.. صوتك يملأ سمعي ووجودك يزحم وجداني وأنت لا زلت أنت.. طاقة لا تنفد.. رقيق كطفل.. طيب كأم.. شديد الذكاء.. شديد الدهاء.. مبدئي بلا لحظة مساومة.. شديد الاحترام لذاتك.. أنا فرحان أنك صاحبي.. وسأجتهد أن أحتفظ بصداقتك طول العمر.

كل الذي حكيته عن مصر، عن البلد، وعن القاهرة، عن الأصدقاء والمقاهي والأرصفة والمآذن، كل هذا رأيته وجرّبته وعرفته.. وندوب الجروح في قلبي يا سعيد وفي هذا أريد أن أقول لك.. إن مصر عوقبت بجريرة نظام السادات عقاباً لم ينزل بأمة من قبل ذلك أبداً.. يكفيها ما رأت. لا ينبغي أن نسخط أو نشتم... إلى ذلك فمصر تعود إلى نفسها رويداً رويداً.. ومصر تعرف بشاعة الذنب.. وتعرف فداحة التوبة، لكنها صادقة النية على أن تكفر.. تلك هي الحقيقة فلا تخدعك أي مظاهر أخرى.. وأنصت للنبض الحقيقي وأعد قلبك للفرح.

شيء عجيب.. كلنا بشكل أو بآخر.. وفي وقت متقارب غادر مصر في غيبة طويلة: إبراهيم منصور، جميل، بهاء طاهر، روميش، صبري حافظ، سعيد الكفراوي، محمدصالح، جار النبي الحلو، عبدالحكيم وناس كثيرون آخرون لا أذكرهم. تغريبة مثل تغريبة بني هلال.. حدث كبير لا بد أن يدرس من ناحية الدافع إليه ومن ناحية أثره.. من ناحيتي أنا شخصياً أقول لك إنني لو لم أسافر لكانت أصابتني أضرار فادحة وربما صح ذلك أيضاً بالنسبة لمحمد صالح ولك ولبهاء طاهر ولجميل ولكثيرين.. لكنه رغم ذلك فإن الفراغ الذي تخلّف من هذه التغريبة كان فادحاً.
أحس ذلك من خطابك، كل الذي ذكرته جربته على محمل قلبي.. "الناس الذين لم يعودا في انتظاري.." بل أكثر من ذلك أحس السؤال الجارح الموجع أين كنت؟ وأحس الكراهية والعداء وأقول لك الحق إنني أسلم نفسي في صمت للجرح والوجع. نعم، إنني سافرت وهجرت، كان لازماً لي. كأن الذي سافر ينبغي أن يدفع أجرة السفر. معه أحبتنا كبشر كما لم تحب أحداً قبلنا (أقول مصر وأنت تفهمني) ومصر احبتنا كما لم تحب أبداً قبلنا والآن تلك جفوة نستحقها.. علينا أن نشق سبيلنا رجوعاً إلى الوطن. سيظل بالنسبة لي جميلاً كأجمل ما يكون الرجال. لا ضير من البلى والرثاثة والوسخ. الإنسان إذا هرم اقترب من الموت ومات. أما الوطن فإنه يولد من جديد ثم يصير إلى الشباب والفتوة. ونحن فقط الذين سنكون شموع السبوع، ونحن الجدعان الذين يدقون الكفوف في الفرح.

الذي هو رائع حقاً ظهور مجموعة مبروك، إنه الآن رجل أصلع أكثر مرارة وأكثر حدة وأقول مراساً. لكنه مبروك الذي عرفناه والذي أحببناه، وصدور مجموعته هو عودته إلى الكتابة وذلك مكسب هائل لجيلنا.. هل ترسل لي مجموعته يا سعيد؟

ولقد فرحت بديوان محمد صالح، إنه شعر مجيد وأنا سأكتب عنه، فلو أن أحداً كان قد كتب عنه للآن فقص لي المقالة وأرسلها لي.

أما مجموعتك "حكايات عن الأطفال والوطن والموت" فسأفرح بها كما فرحت بـ"أيام الإنسان السبعة". يا إلهي أنا الجدير بأن أكتب لها دراسة، لا يوجد في الدنيا من يحس بفنك مثلي، لكن لا بأس، سأكتب عنها بعد صدورها. والصديق إدوار الخراط سيقوم بالواجب وأكثر، ولكن عدني بأن ترسل لي نسخة على المكنة لو عندك واحدة زيادة وسأكتب فوراً مقالة تصدر يوم صدور المجموعة. فماذا تكون الدنيا لو لم أكن أنا صاحب النصبة يوم فرحك.

أحوالي هنا على ما يرام، سكن جيد ومدرسة قريبة وعمل مريح وأحوال متيسرة وعندي عربة. لكن لا حساب في البنك، إيزيس قطعت ثلاثة أشهر في عامها الثالث عشر، وكذلك أمير في عامه الحادي عشر. صبية وصبي في غاية الطيبة والانطلاق والفرح بالدنيا. اليوم خيطت أنا جلباباً فلأحيا لأمير ليظهر به على المسرح في المدرسة متحدثاً عن مصر وعن القرية. غيزيس تدرس موسيقى غربية (فلوت) وأمير كمنجة ويقرآن كثيراً ولا يذوقان لحم الخنزير، زينب تعمل مدرسة للاجئين الفلسطينيين واللبنانيين. العمل شاق لكنها تحس أنها تؤدي رسالة مهما كان الأجر متواضعاً.

أتقدم في دراستي ببطء، لكني مصمم على الانتهاء منها. تزحمني الرغبة في الكتابة وأحاول أن أكتبها حتى أنتهي. الحياة هنا مثل الحياة في بهو مستشفى نظيف لامع معقم، لكنه بارد ويملأ القلب رجفة، لكنني عرفت الأشياء التي كانوا يذلوننا بها، عرفتها حتى آخرها، فأنا أكثر مصري على الإطلاق من أول الحكيم وحتى الآن، أنا أكثر مصري شاهد أوبرا ومسرحاً وسمع موسيقى وزار متاحف ومعارض وعرف السياسة والحياة والأدب والفن والناس في أوروبا.
سأجي إلى القاهرة في الصيف، أتمنى أن أبقى نهائياً، لكنني سأعود لألمانيا، ربما للمرة الأخيرة، وفي صيف 1985 أبقى نهائياً. أنتظر بعد قراءة "الأخت لأب" و"سطور من دفتر الأحوال" و"قدر الغرف المقبضة" أن تكتب لي.. وأرجو أن تكون رفيقاً بأخيك فرأيك يهمني جداً.

سلامي لزوجتك وللعزيزين حوريس وعمرو.. أحك لهم عني يا سعيد حتى إذا زرتك لم ينظرا لي كغريب.. سيؤلمني هذا.

سلامي لإبراهيم أصلان وإبراهيم فتحي وعبدالفتاح الجمل وكل من يسأل عني.

عبدالحكيم

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى