ست رسائل من مؤيد الراوي الى أنور الغساني

رسائل لمؤيد الراوي تكشف عن أيام سركون بولص الأخيرة

برلين آيار 2007

عزيزي أنور

حتى هذه اللحظة لم تحدد وقت قدومك الى برلين، ولم تكتب عن برامجك، أنت يا سيد البرامج. آمل أن لا يستغرق قدومك طويلا. لقد وصل سركون مع زوجته ايلكا، ولم اتوقع أن ينال منه المرض في الأشهر الأخيرة، وهو في أمريكا، هذا القدر من الأنهاك. قلتَ لي بعد مكالمتك معه في امريكا أنه يتماثل للشفاء ويستعد للمجيء الى برلين. حسنا لقد وصل، لكنه بدى لي وأنا أبحث عنه بين المسافرين في المطار كشبح متعب. وأود هنا أن أكتب لك ببعض التفصيل عن الفترة قبل مجيئه وبعد وصوله.

في الفترة التي سبقت مجيء سركون من سان فراسيسكو الى برلين يبدو أن متاعبه الصحية بدت جادة. وعبر مكالماتنا التلفونية عرفت انه أدخل المستشفى هناك أكثر من مرة. وفي بعض المكالمات الهاتفية كنت اكتشف سوء حالته الصحية من خلال صوته الواهن وعدم قدرته على الاسترسال أو التركيز. فيما كانت شريكة حياته ايلكا تؤكد ثقل مرضه وإنه أصيب بهزال شديد وفقد قرابة نصف وزنه، وقد عزت ذلك ألى ضعف في وظائف القلب وخلل في الصمام. وكان سركون قد أجريت له قبل سنوات عملية تبديل شرايين بعد أزمة قلبية جادة وحادة.
ومع كل الآلام التي يشعر بها كان قد حزم أمره للمجيء الى برلين مقتنعا بأن برلين التي أحبها هي بمثابة دار نقاهة ستخفف من آلامه.
كان موعدنا في مطار تيكل ببرلين وأنا ابحث عنه بين الوجوه خلف لوح الزحاج. لم يكن الشبح الذي يسحب بصعوبة حقيبة هو سركون الذي أعرفه. بدا هزيلاً بطيء الحركة يتوقف في الممر المزدحم ليتماسك. قالت زوجته التي ترافقه "رجاء أعنه، سيسقط من الإرهاق بعد قليل." إحتضنته وأخذت الحقيبة. توقف طويلاً ليعتذر."هذه المسافة اللعينة هدت قواي، لكنني سأكون غداًعلى ما يرام بعد أن أنال قسطاً من الراحة".
سركون بولص قبل المرض

في الطريق الى مركز المدينة كان كل شيء ألقاً مشذبا، الشوارع والبنايات والأشجار، وكان سركون مستغرقا في استيعاب ما يحيط به كأنما يواجه هذا العالم لأول مرة. كان سركون قد أمم كل شيء في حياته لصالح الشعر، يجادل مع ذاته عما يراه ويعيشه في كل لحظة ويفكر في كيفية استخدام ذلك في القصيدة. وكثيرا ما كان يقول لي "موضوعات الكتابة هي في كل مكان، الكتابة هنا في هذه الغرفة، وعن هذه المنضدة وتلك البيوت التي تشف عنها النافذة".
في الأيام القليلة التي تبعت ذلك استعاد بعض قواه. والتقينا مع اصدقاء ثم تجولنا في المناطق التي يحبها، خاصة تلك التي تزخر بالأتراك والمهاجرين. كان يشعر فيها بالألفة وكأنما هو في كركوك.
كانت محنته الأساسية تبدأ في منتصف الليل حين تستبد به آلام القدم والساق وقد اختزنت بالماء وتضخمت فلا يقر له قرار، ولم تجد الحبوب التي يتناولها عموماً في طرد الماء، يبدو أن القلب والكلى لم تعد قادرة على القيام بوظيفتهما كما ينبغي.
عزيزي أنور،
• أعتقد أنه من المناسب أن نترك سركون يسكن لوحده في الشقة، وتبحث أنت عندما تأت عن مكان عند الصديق بيتر حينها سنعرف كيف ستمشي الأمور.
لقد عرفت من سركون، وهو في حالته المرضية هذه أنه ينوي السفر الى روتردام ومن ثم الى لوديف الفرنسية. في الواقع لم يكن بمقدور أحد أن يحول دون سفره ومساهمته في المهرجانين الشعريين. تجادلنا طويلاً و تخاصمنا لكنه أصر على السفر قائلاً ان السفر والمساهمة في المهرجان هو بمثابة مشفى له وهو يعيد تجديد روحه. وكنت قد نويت السفر الى باريس وقضاء بعض الوقت عند الصديق حسين عجة كاحتجاج على سفره المحاط بالأرهاق. وكان قد ترك لي بسخاء 200 يورو على منضدتي في الشقة مساهمة منه في تكاليف سفري، قائلا سنلتقي عندما نعود.

***

September 18

عزيزتي سهام

مرة أخرى أتحدث عن الوضع الصحي لسركون العزيز، لأضعك في الصورة ولأخلو إلى نفسي بالكلمات التي تعينني في تقليل اضطرابي، ولربما تهدئ من شعوري بالتقصير، أنني لم أستطع زيارته أمس في المستشفى. ومع أنني شعرت بالذنب إلا أنني طمأنت نفسي بجدية المعالجة وإمكانية طرد الماء من جسمه بالدواء الذي سينشط الكليتين كما شرحت لي الطبيبة المسئولة.
وكنت آمل اليوم أن يكون في وضع أفضل ونتمكن من الحديث ونقل الأخبار والثرثرة، وعن انشغاله بترجمة قصائد تيد هيوز الذي رافقه في المستسفى. وفي مدخل المستشفى التقيت بصديقين ينويان زيارته أيضاً وقد حملا معهما باقة من الورد. صعدنا إلى الردهة الخاصة بعلاج أمراض القلب وتوجهنا إلى الغرفة 11 المخصصة له. وما أن فتحنا الباب حتى رأينا مريضين آخرين. وأمام حيرتنا جاءت ممرضة لتقول لنا بأن سركون قد نقل امس إلى غرفة العناية الفائقة في الردهة رقم 1. يبدو أننا لم نتكلم طوال اجتياز الأروقة وصولاً إلى الغرفة. كل منا كان يتأمل ويخمن وينتظر مشاهدة سركون ليتعرف بنفسه على حالته. رأيناه ممدداً على السرير فرفع يده بدهشة وارتسم الفرح على وجهه. قبلته وشد الصديقان على يده وقد بدت علينا الطمأنينة. كانت الأجهزة والأسلاك والانابيب تحيط به وتربطه. تحدث بصوت بطيء وقال لقد أعادوا إليّ الحياة. ثم قال: تصور ان قطع سلك واحد من هذه الأسلاك يعني الموت. كان وجهه أكثر هدوءاً من ذي قبل، ولا تلمح إشارة الألم في ساقيه. يبدو أن محاولة طرد الماء من جسمه بواسطة تنشيط الكليتين لم تجدِ وأزاء خطورة حالته نقل إلى غرفة العناية الفائقة بغية غسيل الكلية ومراقبة قلبه المريض. لم يعينني الطبيب المناوب في شرح تفاصيل وسبب نقله إلى غرفة العناية الفائقة، بل قال أن نختصر الزيارة لئلا نتعبه بالحديث. كان سركون مملوءأ برغبة الكلام والتعليق على حالته، حديث عن الغياب ثم العودة إلى الصحو، وعن كرم الأطباء وجديتهم. كنت حزيناً لرؤيته فيما بدى مشحوناً بالثقة. وعندما انزويت في ركن من الغرفة كان يتحدث باستمرار إلى الصديقين. أشار لي أن أتقدم فأمسكت بيده وشعرت بأنه يضغط على كفي بقوة لم اتوقعها كأنما يقول ممتناً أنت معي. لأنه قلما يقول ذلك للآخرين ويعنيه فعلاً. قبلته وودعته قائلاً: يجب أن نغادر ذلك ما يرغب فيه الطبيب. لكنه قال بدهشة: انني فرح بكم، لماذا لا يفهم الطبيب الأحمق هذا الشيء.

قلت له نحن سنذهب وستأتي فخرية مع ريناتا التي تعرفها بعد قليل. ففرح بذلك.
في الطريق إلى خارج المستشفى شعرت ببعض الهدوء ومشيت بين الأشجار التي تتقدم المستشفى. وقلت في نفسي أنه تحت أياد أمينه، وسوف يقدمون له كل العون ليعود إلى صحته. ومع ذلك كان الحزن في موقع ما من قلبي. حزن من يكتشف أول وأسهل اكتشاف: الأضداد. كنت حزيناً أن أواجه سركون الممتليء حيوية وعافية وتدفقاً في حالة من الضعف والهزال.
وسوف أراه غداً أكثر استقراراً كما امل وأوفر صحة.

ملاحظة: قلت لسركون أنكِ أتصلت به تلفونيا في الشقة التي غادرها الى المستشفى. كما نقلت له تمنياتك له بالشفاء، وهو يشكرك على ذلك من كل قلبه ويوعدك بأن يتحدث معك حينما يتمكن من ذلك. إن حيرتي تكمن في عجزي عن أن أقدم له عوناً فيما أنتظر نتائج علاجه من خلال الأطباء الذين يقدمون بعض المعلومات الطبية التي أعتبرها مبهمة.
يبدو أن الطب ليس مثل الكلمات التي نحفر فيها ونحاول أن نخلق بها الرؤى. وأتذكر في رسالة من رولان بارت إلى انطونيوني يحدد فيها "القوى الثلاث، أو الفضائل الثلاث، التي تشكل شخصية الفنان وهي اليقظة والحكمة" ويقول في القوى أو الفضيلة الثالثة للفنان والذي يصفه بما هو أكثر مفارقة: "الضعف". لقد رأيت هذا الضعف الإنساني في سركون مثلما تمثلته فيّ، أنا العاجز، أن أقدم له شيئاً، وهو العاجز أمام وضعه ومواجهة مصيره، متذكراً يقظته وحكمته التي بالتأكيد جعلت منه فناناً وكاتباً مهماً.
ليس هذا رثاء بالتأكيد، بل هو بعض التثمين للعلاقة الطويلة التي استمرت بيننا أكثر من خمسة عقود منتظراً أن يخرج من المستشفى متعافياً، صاخباً في الحديث وفي الحوار، كما كان.
أكتب لك كل هذا وقد أثارني مشهده الأخير، وسأسرد لك ذلك دون تحميل عواطفي ما ينوء بها أصلاً.

***

September 19

عزيزتي سهام

يوم آخر وتقرير آخرعن سركون، ولكن هذه المرة يأتي التقرير معززاً بالتفاؤل والإنفراج.
وصلت المستشفى في حوالي الخامسة مساء عكر المزاج مرتبكاً من توقع رؤية سركون وغيره من المرضى في الغرف التي تسمى بالعناية الفائقة، المزدحمة بالآلات والأجهزة والانابيب والأسلاك، تنبعث منها أحياناً أصوات وأزيز ربما هي أنذار. على أية حال، عندما دخلت الغرفة التي رقد فيها سركون أمس لم أجده فيها. كان قد غادرها قبل ساعة ونقل إلى الردهة رقم 38 الخاصة بالباطنية والمجاري البولية في الطابق الخامس. وفي الطريق إلى الردهة عبر الممرات الطويلة المضيئة بازعاج شعرت ببعض الراحة وتذكرت قصة قصيرة كابوسية لكاتب لم اعد أتدكر اسمه يتحدث عن مرضى يفرضون عليهم الهبوط من الطوابق العليا إلى السفلى، طبقة فطبقة، حيث ردهة الموت تكمن في القاع. ومع أن القصة مصاغة بسوء فهم لحالة شخص ما سليم يجد نفسه في الطوابق العليا إلاّ أن الهواجس والصدف وقرارات المستخدمين والموظفين هي التي تقرر حالته الصحية وتدفعه درجات إلى الأسفل نحو الموعودين بالرحيل ليواجه الموت. كان هذا مجرد تأمل واستذكار إلى جانب العديد من الأفكار التي تثيرها الدهاليز والأسرّة وروائح الأدوية والمطهرات.
في خضم الأفكار كنت امل أن أجد سركون في فراشه من غير الزوائد التي كانت تربطه أمس، فنتحدث ونحن نملك مزاجاً مناسباً للحديث.
اليوم مشمس في هذا المساء. ضوءٌ خريفي كما ضوء العراق في الشتاء. ستتلون السطوح القرميدية التي يمكن مشاهدتها من النافذة التي سيطل منها سركون. وسيكتشف بدء الخريف من خلال أوراق بعض الأشجار البعيدة والقريبة في حديقة المستشفى وقد بدأت بالتلوّن. فكرت إنها نفس المستشفى التي أجريت فيها عملية جراحية لى قبل عقد من الزمن، وهي نفس المستشفى التي أجريت فيها قبل أعوام عملية جراحية لصديقنا أنور الغساني لدى زيارته القصيرة لنا في برلين حينما نقلناه إلى الطواريء ليلا. في هذه المستشفى ولد أبني مازن، ودخلتها زوجتي فخرية. يا للصدف ونحن نزور سركون بولص في الطابق الخامس الذي يمكن منه مشاهدة العمارة التي نسكنها والتي لا تبعد اكثر من ثلاثمائة متر تقريباً، خلف الأشجار، ونحن نخترقها وصولاً إليه.
على أي حال إلتقيت سركون في الغرفة رقم واحد جالساً على كرسي أمام النافذة. لم تكن دهشتي شديدة لأنني ربما مهدت لتوقع رؤيتي له على نحو مختلف عما كان عليه أمس. بدا صوته أكثر وضوحاً وأعلى نبرة من ذي قبل. فرح بالقدوم وتحدث كثيراً عن تجربة أمس بعيداً عن التسميات الطبية، وأخذ يسرد الحدث كما لو مر بغيره، من خلال سرد ووصف وتجسيد أشياء لم تنتم إليه، وهو مندهش ومغترب في آن واحد. قال أنه لا يشعر بالألم في ساقيه مطلقاً، وقد طرد منهما الماء وعادتا كما كانتا، دون انتفاخ ومن غير وجع، فيما يستطيع التنفس دون صعوبة. كما قال إنها مجرد البداية وستكون هناك مزيدا من الفحوصات. فعلاً سيُجرى له بعد غد صباحاً كشف لمعدته وأمعائه بما يسمى" ماكن شبيغل"، حيث سيقوم سلك رفيع يحمل آلة تصوير يدخل المعدة من الفم بكشف تصويري حيثما يمضي ويصل.
كان سركون قبل دخوله المستشفى يرفض القيام بهذا الفحص. وأعتقد بأن هذا الإجراء بديل لما يسمى بـ" كومبيوتر توموغرافي " الذي يصور مواقع من جسمه وهو يدخل في جهاز ضخم هو بمثابة أنبوب بسعة الجسد. وكان سركون قد رفض ذلك بحجة الرعب من الأماكن الضيقة، فيما لم يجدِ توسل الأطباء وغضب الأصدقاء من امتناعه. ومهما يكن فقد وافق اليوم بإجراء الفحص البديل، مصرحاً بأنه شيء مقزز وغريب أن يدخل في بلعومه ويصل إلى احشاءه شيء غريب يحمل ألة تصوير. لكن مشكلته في الوقت الحاضر لم تكن الفحص المنتظر، كما كرر مرات ومرات، بل ضرورة الامتناع عن الطعام هذا اليوم وغدا، لحين إجراء الفحص. يبدو أن قرار منع الطعام جعل من سركون طفلاً مشاكساً يكرر الجهر بجوعه ومعاناته ثمّ يغضب: "أي حيوان بمقدوره أن يصوم أياماً". وقلت له انه صعب، لكنه يرد عليّ بأنني أخفف الحالة باستخدام الكلمة هذه، وهو يريد مني أن أرفع من شأن الكلمة لأقول بأنها تعذيب.
مشينا إلى غرفة الإستقبال وجلسنا هناك. وكان الطبيب قد أذن له بالمشي القليل.ثمّ جاءت زوجتي ليكرر أمامها ما حدث ويطلب توسطها بالحصول على قليل من الحساء!!!.
ودعْتُ سركون على أن أعود إليه غداُ. كنت غير مرتبك في عواطفي وفي تأملاتي بحيث أنها لا تداهمني من حيث لا أريد. كان المساء قد أذن بالإنتهاء وخرجت أتنفس الهواء الذي يدور في الفضاء الفسيح. ثمّ أردت أن أكون في مقهى هاديء أجلس وفوق منضدتي قهوة دافئة وأنا أمنح نفسي للنظر، لا شيء غير رصد الأشياء دون حرقة الروح.

***

Berlin 19.9.07
مؤيد الراوي

عزيزي أنور

1 ـ أسف لسوء الصدف التي منعت محاولاتك المتكررة من أن نتحدث هاتفياً. وعلى خلاف ما تقول لم أكن اتجوّل في المقاهي، بل كنت مرتبك الذهن لا أستقر على حال، بعيداً عن نفسي، منشغلاً بوضع سركون سواء في الفترات التي أكون معه أو في الفترات التي يأخذني الإنشغال الذهني والشعور بالضيق من حالته الصحية إلى حيث لا أقدر أن أخلو إلى نفسي وأقتنص بعض الراحة والهدوء.
منذ أن غادرت انت برلين ساءت صحة سركون. وما عدا فترات وجيزة، تدهورت صحته بحيث نقلناه مرات إلى الطبيب ـ كل يوم تقريباً. كان يتعذب من الألم. أصيب بمزيد من الهزال، وبدت عليه علامات الأعياء التام، حتى نقلناه من شده الامه وانحطاطه الجسدي إلى الطواريء. ومع توسلاتنا ونصائح الطبيب كان دوماً يمتنع عن الدخول إلى المستشفى. ولكنه في النهاية عندما وصل إلى حالة حرجة اضطر إلى القبول.
يوم الأثنين الأسبق دخل المستشفى. وفيها ساءت صحته. لم يقبل بإجراء فحوصات يريدها الأطباء، فيما ينتظر بذهنية طفل أن يعطوه قرصاً سحرياً ينهي آلامه ليعود إلى النشاط. ولكن الأطباء كشفوا لي عن بضع صعوبات جدية يعاني منها. قلب ضعيف لا يقدر على ضخ الدم بالشكل المرجو، وكلية ضعيفة غير قادرة على طرد الماء المخزون في جسمه وكبد غير صحي وطحال. وأزاء الآلام الشديدة التي لم تنفع معها الحبوب قاموا أمس الأول بخطوات طبية معقدة ليكون بمقدورهم عبر أدوية أن ينشطوا الكلية لعلها ستدفع السوائل المخزونة في جسمه الى الخارج. يبدو أن العملية لم تنفع وساءت صحته بحيث نقل إلى غرفة العناية الفائقة وهو في حالة خطرة. وأعتقد انهم غسلوا الكلية خلال ساعات. حسناً لقد خرج اليوم من غرفة العناية الفائقة، وهذا مفرح، ولكن أمامه جملة من الفحوصات البديلة لكنه يرفض، بدواعي الرعب من الأماكن الضيقة، أن يجرى له " كومبيوتر توموغرافي" الذي أكد الأطباء أنه ضروري لتشخيص العلة الحقيقية على نحو مؤكد ـ إن وُجدت تلك العلة.
على اية حال لا أقوى على كتابة تفصيلات عن المسألة. ولكنني سأنقل لك رسالتين كتبتها إلى صديقة اسمها سهام تتصل بي دائماً وتعنى بصحة وبوضع سركون منذ أن كان في لوس أنجلس. آمل أن اشعر بالهدوء وبالطمأنينة، أقصد بأن أخلو إلى نفسي كي أتمكن من الكتابة إليك. معذرة، وتحياتي.

***

September 23

عزيزي أنورين

هذه الرسالة "عرض حال" كتبتها كما ترى لـ سهام أمس لم أعطها تقريراً عن سركون. اليوم زرته وكتبت الرسالة التالية. أعتقد سوف لا أزيد على المعلومات التي دونتها عنه عندما سأكتب لك رسالة أحوال جديدة. آمل أن تقرأها وأن لا تنزعج من عدم كتابتي لك على نحو خاص، طالما الرسالة تفي بالغرض، أقصد معرفة وضع سركون، فمعذرة.
على اية حال لا أقوى على كتابة تفصيلات عن المسألة. ولكنني سأنقل لك رسالتين كتبتها إلى صديقة عزيزة اسمها سهام داوود تشرف على مجلة " مشارف" الحيفاوية تتصل بنا باستمرار وتعنى بصحة وبوضع سركون منذ أن كان في لوس أنجلس.
آمل أن اشعر بالهدوء وبالطمأنينة، أقصد بأن أخلو إلى نفسي كي أتمكن من الكتابة إليك. معذرة، وتحياتي.

***

Sebtember22

عزيزتي سهام

كنت حذراً في إطلاق مشاعر التفاؤل هذا اليوم لدى زيارتي لسركون في المستشفى. لست أدري كيف ومتى ولماذا أطرد التفاؤل حينما أواجه معضلة معقدة. ربما لكي لا أصطدم بما هو أسوأ فلا يكون بمقدوري التحمل. على العكس سأكون فرحاً ومتناغماً، أكثر من المعتاد، عندما أتلمس النهايات السعيدة. هكذا كان الأمر في زيارتي لسركون حوالي الخامسة مساء. رأيته في صحة جيدة جالساً على كرسي في حديقة المستشفى تحت شمس العصر الباردة.
كما قلت لكِ أمس، في مكالمتنا التلفونية، عن انشغالي وعدم تمكني من زيارته أمس. كان قلقاً ومتخوفاً من الفحص المسمى "ماكن شبيغل". ربما كان خوفه يتضخم بسبب هواجس من نتائج الفحوص. طمأنته في وقته وكنت على ثقة بنتيجة الفحص الأيجابية. وحاولت أن أتحدث عن تجربة انور الغساني الذي نقلناه إلى الطواريء قبل أعوام وأجري له نفس الفحص قبل عملية قرحة المعدة. ونقلت له مكالمة أنور الغساني معي قبل ذلك بيوم واحد طالباً مني شرح ذلك لسركون مضيفاً تمنياته طالباً مني أن أحتضنه وأقول له "أنور يحبك". وقد فعلت ذلك. ولكن لا شيء ينهي قلق سركون. ربما يتظاهر بالإقتناع أو يقلل من خوفه إلاّ أنه في النهاية لاعب وحيد يمتثل دوماً لما يعتمل في داخله ويمضي في تجسيده بعيداً. وبهذا الشأن قال لي إن الليل وهواجسه من أصعب الأوقات عندما يفكر المرء بما هو أكثر سوءاً.
حسناً، في حوالي الخامسة عصراً قرعت باب غرفته وفتحتها. لم يكن سركون موجوداً. كان سريره مرتباً كما لو انه غادر الغرفة. وبادرني نزيل الغرفة الآخر بأنه خرج إلى قاعة استقبال الضيوف. وأمام القاعة كانت الممرضة ترصف بعض قناني المياه الغازية وتعنى بالقهوة والفناجين فقالت لي أن السيد بولص غادر الغرفة مع صديق، ربما إلى مقهى المستشفى. إذن، هو في حالة حسنة وبمقدوره المشي، وقد رفعوا عنه الزوائد الأخيرة التي كانت ترتبط بجسمه. كنت متلهفاً لمشاهدته. مشيت الرواق الطويل المضوي في النهار باللون الأصفر. لم يكن في المقهى. بل كان المقهى خالياً من الزوار تقريباً. ثمة شمس متألقة في حديقة المستشفى والأشجار واضحة ينحتها ضوء معلن. رأيت سركون من بعيد مع صديق لوح لي فتبينته من شعره الأبيض ومن مشيته البطيئة. من المفرح أن ترى سركون في الفضاء الأخضر بعد أيام عصيبة طويلة ملازما سريره. ترجم لي أفكاري قائلاً: هذه هي الحرية بعد الزنزانة.
تحدث عن تفاؤله وعن ابتداء حياته من جديد وكذلك عن عدم عثور الأطباء على ما هو سيء في الفحوصات. لكنه كان جائعاً وقد تناول بعد أيام بيضة مسلوقة كما تناول قطعة خبز مع الجبن وهو يستعد لتناول وجبات حقيقية كما قال على سبيل المزاح. وحذرته من تناول الملح دون حذر. ثم تحدث عن نزيل غرفته وعن زوجة النزيل التي جلبت معها طعاماً شهياً لزوجها. على أية حال كان يناور معي ليصل إلى طلباته التي عدد بعضها وصولاً إلى طلب خجول وبصوت خافت لما سماه قناني صغيرة جداً من الكحول وهي تباع مباشرة عند الحاسبات. وعندما صرخت به قال لي أعرف أنك قاسي القلب ولكنها صغيرة للغاية ولمجرد المتعة. قلت، إنها لك بمثابة السم، خاصة بعد هذه الأيام الصعبة وبفراغ المعدة وبهزال الجسد.
قبل أن تغلق الحوانيت ذهبت وابتعت له أنواعاً مختلفة من العصائر وقطعاً مختلفة من الشطائر وبعض أنواع الفواكه وعلب اللبن الخالص وغيرها من المحلاة بالفواكه. وحينما عدت كان المساء قد حلّ ولم تبق إلاّ قمم الأشجار مضاءة باللون البرتقالي، وبدأت مصابيح ممرات الحديقة تلقي ضوءها الشحيح. كان المستشفى غادره الزوار، فصعدت الطابق الخامس. فرح سركون بالكيس الممتليء ووصفني بالملاك. إنها ذخيرة السبت والأحد حين يكون المستشفى في هذين اليومين أقل صخباً وعدداً من الأطباء والممرضين.



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى