رسالة سمير نقاش الى إنعام كجه جي

- رسالة سمير نقاش الى إنعام كجه جي

بيتح تكفا في 16/7/1991

اختي نعومة!

اسمحي لي بأن «ادللّك» بهذا النداء العراقي الجميل، بعد اذن اخي سمّوري طبعا، الذي احييه اطيب تحية وأنا واثق من انه ـ ما دامت الطيور على اشكالها تقع ـ مثلك، انسان متفتح العقل والبصيرة ومتحرر من عقد التعصب القومي والعنصري والديني والطائفي والمذهبي والعقائدي، ومن كل هذه البدع التي جعلت الانسانية شيعا واحزابا وحكمت عليها بالتعاسة.

لا شيء يعادل بهجتي وسعادتي حين تمتع كتبي قارئها. وهذا شيء يحدث، في العادة، للقريبين مني عقلية وروحا ومشاعر، اما الآخرون فيشكون من صعوبتها وتعقيداتها. اما حياتي، فزاخرة حافلة منذ أليفها، وان كنت في السنوات الاخيرة، او على وجه التحديد منذ زواجي عام 1983، اشعر بأنني اصبحت مُبددا، تبذر حياتي في هموم الحياة اليومية فقط، بلا تحقيق وجود او ابداع او انتاج!

وعلى كل حال فقد جمعت مادة تستغرق قرنا كاملا من حياة الاسرة، امنيتي ان استعين بها عند كتابة «رواية الأجيال» الخاصة بعائلتي، وكل املي ان اجد الفرصة لإتمام هذا العمل الكبير.

كان جدي، والد أبي، صائغا يتقن النقش الفني على أدراج اسفار التوراة الفضية (ولعلك شاهدتها) ويقال ايضا انه نقش منائر الكاظمين السبع. كانت اسرته يهودية بغدادية عريقة تنحدر الى بداية الخلافة العباسية. وهي اسرة آل شعيد، لكن حرفته غلبت على لقبه فكان يسمى «موشي النقاش» حتى غلب علينا هذا الصيت.

ولدت في بيت «الحجي ساهي» في البتاويين، بين القصر الأبيض وساحة النصر. ولما بلغت السنتين انتقلنا الى بيت على الشط، يقع في ظهر كازينو «ليالي بغداد». واذكر انتقالنا وما بعده بشكل عجيب. وفي هذا البيت وقع الفرهود، وقام بحراستنا بيت آل قروجي الذين سكنوا بجوار البيت، وما زلت اذكر ابنهم جودي وهو يشرع اصابعه نحوي ويقول ده! ده! ده!

وخلال الحرب العالمية الثانية بنينا بيتنا في السعدون، على ارض السباق القديم. وكانت تحيط به القصور الغنّاء، بيوت رؤساء وزارات ووزراء وأطباء.

ارسلتني والدتي مع اختي سميرة (انا الاكبر ولي اربع اخوات: سميرة وانيسة وايفون وفرح. واخي انيس توفي في المدرسة الداخلية في ظروف غامضة اوائل الستينات)، ارسلتنا للمدرسة وانا دون الرابعة من عمري وسميرة دون الثالثة. حتى ان طبيب الاسرة وزميل والدتي في الدورة الدكتور البير الياس كان يقول لها: «ماذا يفعلان بالمدارس في هذه السن؟ يمكن ان يأتيا بالأمراض فقط!» لكن القرار كان حكيما. وبعد عام من الدراسة في مدرسة يهودية اهلية انتقلنا الى مدرسة مسيحية لبنانية نموذجية هي «مدرسة النجاح» لصاحبها فؤاد قومي، وكان مع كل طاقمه من المسيحيين اللبنانيين، جاءوا بأحدث وسائل التعليم يومئذ.

لا اعرف طفلا، فقيرا او غنيا، دلّله اهله كما دلّلوني. ففضلا عن الحب والاهتمام الدائم، كرست العائلة كل وقتها لتمتيعي وتلبية طلباتي. واعتاد خالي ان يأخذني كل سبت الى بعقوبة حيث عائلة شريكنا وبساتيننا، كما كان يأخذني الى الملاهي لأشاهد جعفر بيك لقلق زاده، والى السيرك، وكانت والدتي تصحبني للسينما عدة مرات في الاسبوع، وكانت يومها شيرلي تمبل الطفلة وطرزان وفلاش غوردن. وكان ابي يأتي بصناديق الأحذية ويقول: «جبتولك جكليت» فافتح العلب وأجد رزم انواط الدنانير اعبث بها ثم ارميها. وكان في بعقوبة بستان على اسمي يمتد حتى نهر ديالى، وكانت لي سيارة صغيرة رولز رويز حمراء.. لكنني رغم كل هذا لم اعرف طفولة.

ميزتني، كما استطيع الآن ان احدد، عدة امور ربما تكون غريبة. اولها ذاكرتي وانا في سن قد تقل عن العامين. اني ارى الآن بعض احداث تلك الفترة وكأنها تمر بي الآن. وكذلك انجذابي الى الكتب بشغف لا يعادله شغف منذ تلك السن المبكرة. فقد دمرت مكتبة ابي قبل ان اعرف القراءة. وكنت كلما مررت بها اتوقف عندها واريد هذا الكتاب او ذاك، وكان ابي يلبي طلبي. ومن الكتب التي اشتريتها في تلك الفترة ثم اثرت عليّ بعد ان عرفت القراءة، كتاب «التلميذة الخالدة مدام كوري». وحدث يوما ان سافرت العائلة كلها الى منزل صديق نقل للعمل في شركة النفط في كركوك. ورأيت مكتبته في بيته، فأردت ان اعبث بها، الامر الذي اضطر اهلي الى العودة، يومها، الى بغداد.

الامر الثالث اني كنت اميل الى الانطواء والتفكير في احاجي الكون، فأحلق الى ما وراء النجوم حتى نهاية الكون، ثم اهبط الى الواقع وانا اتصبب عرقا من فرط الخوف. وفي تلك الفترة المبكرة اكتشفت امورا لم اطلع عليها، فيما بعد، الا بعد ان عرفت سارتر. ولما بلغت الثامنة طلبت من ابي ان اقرأ «الف ليلة وليلة». رفض في البداية ثم امام اصراري، سمح لي بقراءة الكتاب، طالبا مني ان امتنع عن قراءة قصص معينة!

كان بيتنا منتدى لمحفل غريب من شدة تفاوت الناس فيه، يهودا ومسيحيين ومسلمين، وكانت تأتيه المرأة القروية مع جود اللبن، تمخضه عندنا لاستخراج الزبدة، وتأتيه زوجة الشيخ والعين والوزير. اناس من شتى طبقات المجتمع ومن مختلف المستويات الثقافية.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى