رسالة حنا مينه الى محمود العظمة والفنانة التشكيلية عطاف نصري

- رسالة حنا مينه الى محمود العظمة والفنانة التشكيلية عطاف نصري

العزيزان المحامي محمود العظمة والفنانة التشكيلية عطاف نصري!

ما راعنا الدهرُ بالبلوى وغمرتِها = لكننا بالإباء المرِّ رُعناهُ
إن نحملِ الحزنَ لا شكوى ولا مللٌ = غدرُ الأحبةِ حزنٌ ما احتملناهُ
وما راعَنا، على عصفِ الخطوبِ بنا، = هوى حبيبٍ، رعيناهُ ونرعاهُ
ليتَ الذينَ وهبناهم سرائرَنا = في زحْمةِ الخَطْبِ أغلَوْا ما وهبناهُ

مشتاق أنا، وبعض الشوق غالية من نفح الطيب، ومن نفح المودات الغاليات التي كانت بيننا، بغير موعدٍ مسبق، بغير شكليات أو رسميات. وكما النسائم، قيلة قيس بن الرقيات، تهب من أرض نجد، كانت تهب عليَّ من نحوكم، نسائم تنعشني، في لقاءات عابرة، هنا أو هناك. وكنت أذكر كما في كل جمع، في كل محاضرة، في كل لقاء مع قرائي وأحبتي، حتى صار الناس يحفظون قولي: (عندما أضعت البحر، مرة أخرى!) لأنني لم أستجب لدعوتكم، في السكن على مطلّ البحر، في بيت الضيافة الذي تملكان، وكانت ذريعتي أنني لا أسكن إلا في بيت أبي، وأبي لا يملك بيتاً على البحر، أو البرِّ، أو الجهات الأربع!

هذيان، نصف مجنون أنا، ونصف عاقل، وأفضل نصفي المجنون، وهذا معروف عني. وفي جنوني (أضعت البحر.. مرة أخرى!) إلا أن قلبي مصاب.

وذو القلبِ المصابِ وإن تعزّى
مشوقٌ حين يلقى العاشقان
وأنتما في العاشقين نبلاً، وكرماً، وأريحيات غامرة.

أما الآن، وقد رُددتُ إلى أرذل العمر، فإنني عازف عن السفر، بعد أن كنت، زمناً طويلاً، مسافراً بلا حقيبة، في الرياح الأربع، مناضلاً صلباً لأجل العدالة الاجتماعية، هذه التي تحقق، قياساً إلى بداية القرن العشرين، بعض من آمالها، في نصفَةِ البؤساء والمعذبين في الأرض!

إن الشهرة جهنم، وأنا ملاحق في جحيم شهرتي، ورنين الهاتف لا ينقطع، على مدى أسبوعين وأكثر، بعد أن فقدت صديقين عزيزين: محمد الماغوط وعبد السلام العجيلي، وكل وسائل الإعلام وضعتني في مرمى هدفها، سائلة عن رأيي في فقد هذين المبدعين، وعلي أن أجيب، بدقة، عن وقع هذا الفقد، في نفسي وسريرتي، لأنني الأكبر سناً، والأعرف بهما، تاريخاً وإبداعاً، والمطلوب أن أُشبع نهم كل الصحف، وكل المجلات، وكل الفضائيات، وكل الراغبين في معرفة من هو محمد الماغوط، ومن هو عبد السلام العجيلي، وماذا أبدعا، وأنواع هذا الإبداع، وتعداده، وقيمته محلياً وعالمياً، وأثره في نفسي، ونفوس الناس من حولي، وهل الفجيعة بهما ستؤثر في العطاء الإبداعي، وإلى أي مدى؟!

السيد المسيح، وهو على خشبة الصليب، في الجلجلة المعروفة، تقبل إسفنجة الخل، وكان عليَّ أن أتقبل هذه الإسفنجة أيضاً. ولكن دون قيامة، أو رجوةٍ فيها، سوى أنني، على خشبة صليبي، كانت لي مريم المجدلية، ولوحتها عن البحر، المؤطرة بالاحترام، على جدار مكتبي، وفي كل محاضرة أذكر الصديقين العزيزين: محمود العظمة وعطاف نصري، حتى بات القاصي والداني، المستنير والأممي، يعرف أنني (أضعت البحر.. مرة أخرى!) وفعلاً أضعته مرة أخرى، وأنا أردد قول عمر أبو ريشة:

أوقفي الركْبَ يا رمالَ البيدِ = إنهُ تاهَ في مداكِ البعيدِ

هكذا، نحن الثلاثة، أصبحنا معروفين بالبحر، وما أضعته في المرة الأخرى. وتبقى اللوحة عن هذا البحر، هي الآية والشهادة، تقول ولا تقول، فالسحر في الإبداع، ليس له توصيف، وليس له تعريف، لأنه، بكل بساطة، إبداع!

هتفتُ وهتفت وليس من مجيب، حتى صرتُ بين أمرين: أن أكون قد أخطأت بحقكما، في قول أو فعل، أو إنكما، بعد اندفاع في النجوى، في أبو ظبي أو دمشق، قد ندمتما على النجوى، لأن صديقكما قد كشف أوراقه، وقال لكما: إنني خريج سجون ومنَافٍ، وليس خريج جامعات أو معاهد!

قال بدوي الجبل شاعري وصديقي رحمه الله، الذي، في الثالثة والعشرين من عمري، ناصرته في الانتخابات النيابية، ففاز بالنيابة، نكاية بوهيب الغانم:

ما راعنا الدهر بالبلوى وغمرتها
غير أن
غدر الأحبةِ حزنٌ ما احتملناهُ

وحاشا الغدر منكما يصدر، بعد أن كشفت لكما كل أوراقي، وقلت لكما ما ينبغي أن يقال، عن حياتي كلها!

سيدتي الفنانة الكبيرة عطاف نصري العظمة البحر الذي قلت إنه ضاع مرة أخرى، أجده، وأنا أكتب إليك هذه الكلمات، في لوحتك الرائعة، فأنتشي بالأزرق من ألوانه، وأسمع خرير مائه، في الموجة المشرئبة، تاركاً للخيال أن يخترق المدى إليك. ولن أقول بعد اليوم (عندما أضعت البحر، مرة أخرى!) لأنه موجود في مكتبي، وعلى أوراقي، وأحداقي، وأناملي، وقلبي الذي عاطفته إلى شباب، إنما في جسد إلى شيخوخة!

علينا، إذاً، أن نعمل ونعمل، أن نكافح كما كافح (الطروسي) في البحر والبر، بغير كلل أو ملل، وبذلك نواصل حياة الأديب العربي التي هي، مع التخفيف والرحمة، حياة تعاسة دراماتيكية بامتياز!

إنني أحب أكثر شخصياتي الروائية! إنها منقوشة في الذاكرة. ليتها لم تكن كذلك، وليتني أصاب بفقدان الذاكرة حتى أنساها، مرة واحدة وإلى الأبد! تعرفون لماذا؟ لأننا، أنتم وأنا، مصيرنا إلى الجلجلة، وعندئذٍ نصلب فنموت، ونُنزل صليبنا الذي نحمله منذ أمسكنا القلم! هذا ليس من التشاؤم، فالمعروف عني أنني بائع تفاؤل، إلا أن الكاتب، الذي يرى ما لا يراه الآخرون، يعرف أن كل إنسان يحمل صليبه في هذه الحياة، مع الفارق في حجم هذا الصليب وثقله. فالمليونير، وبالدولار كوحدة نقدية، يحمل صليب الشره للاستزادة من جمع المال المنهوب من الفقراء. بينما نحن، الأدباء والفقراء، وكذلك أبناء الشعب الذين مثلنا، نحمل صليب الركض وراء اللقمة، واللقمة، كالفارس في المزدلف، يسابق الريح، فلا نبلغه مهما لهثنا من الركض والتعب، المجبولَيْنِ بعرق جباهنا!

إن الإنسان ابن تاريخه الاجتماعي، والتاريخ حقب ومراحل، ونحن الآن في مرحلة المجتمع الاستهلاكي، حيث النفعية عنوان كبير، وبارز، له مع كل ما ينطوي تحتها من شرور وآثام. لكننا، في الوطن العربي مكتوب علينا أن نواصل الكفاح، في سبيل التحرير واسترداد الحقوق، وضد التطبيع الثقافي، وكل تطبيع، مع إسرائيل، التي تحتل أرضنا وتقتل وتشرد إخوتنا في فلسطين، وهذا الكفاح مجيد، وسيكون مجيداً أكثر، ومجدياً أكثر في مناخ الحرية التي يريدون وأدها، كما في حادثة التفريق الجائرة والظالمة بين نصر حامد أبو زيد والسيدة زوجته .

الإبداع رسالتنا إلى العالم، به وحده نجابه التحديات الثقافية في الجوار وفي هذا العالم، لكن الإبداع نبتة تحتاج إلى الشمس، وهذه اسمها الحرية الفكرية، وهذه الحرية تُنال بالكلمة والموقف، فما هي هذه الكلمة؟ وما هو هذا الموقف؟ ولماذا يعيبون علينا أن تكون لنا أيديولوجية تقدمية، هؤلاء الغارقون في وحل الأيديولوجية الرجعية؟!

قلت، في العنوان، إنني أحاول تجربة في أدب الرسائل، تاركاً هذه الرسائل كما هي، حتى في أسماء الذين أكتب إليهم، من حين لآخر، ولن أبالي (وما انتفعت يوماً بأن أبالي) في هذه التجربة، أن يُقال إنني أداهن في ذكر الأحبة، أو أجحد في ذكر غيرهم. فالأدب تجريب، وقد جربت كثيراً ولا أزال. والأدب استئناف ضد ما هو كائن، في سبيل ما سوف يكون، وهذا الذي سيكون هو الأفضل، لأنه مع الحركة ضد السكون، والغاية، بعدُ، إيقاظ النَّوم في مطاوي الكتب الصفراء، لأننا، في هذا الوطن العربي، بَشِمنا من النوم، والكسل، والإذعان، والملق، في كل أنواع النفاق!

تحياتي المعطّرة بأريج غوطتنا!

حنا مينه

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى