فكري داود - الجزية.. قصة قصيرة

الجزية


فكري داود


لم يصل إلى علمنا ـ قبل ذلك اليوم ـ أن الولد (واصل)، هو نفسه ابن خفير العمدة.
رأس عِجْل، كفان عريضتان، فم كبير، أسنان، وأذنان.. و.. وكل شيء يمتُ إليه بصلة كبير كبير.
وما كانت معرفته لتصلنا، وما كانت تلك الجِزْية لتعرف طريقها إلينا، لولا هذا الولد (عبد الله) ابن خالتي، الجن المصور، وفعله العجيب:
داخِل علبة خشبية صغيرة، ثَبَّتَ سماعة راديو قديمة، مع بعض وصلات سلكية يعرف سرَّها، وأشياء أخرى، ثم أوصل ذلك كله بسلك نحاسي ممدود، من خشبة المنشر الطويلة إلى درابزين السلم، بعرض السطوح كله.
ثم ـ وبقدرة قادرـ، تنطلق منها الموسيقى والألحان والكلام والسلام، بكل لسان عربي وأعجمي، ليل نهار، دون تيار كهربي، أوحجر بتارية واحد.
انجعص في قعدته فوق المصطبة أمام الدار، مسنداً ظهره إلى الجدار الطيني، تهتز رأسه طرياً، للنغم المنبعث من الداخل، وعيناه تتفرسان وجوه الصبِيْة المندهشة من حوله، قال:
من يحلم بامتلاك مثلها، يحضر سماعة قديمة، وسلك تليفون نحاسي، بطول المسافة بين ساريتي تليفون، من تلك المصفوفة على السكة الترابية بجوار الترعة.
برقت عينا أحمد بن عمي، شريكنا في الدار ـ دار جدنا ـ، قال:
عليك أنت بالسماعة، أما السلك فدعه لي.
الرغم أن مسألة السلك تبدو أكثر صعوبة، صحت محتجاً:
أبداً، نحن معاً على المرة قبل الحلوة.
لفَّه الصمت لحظة، ارتفع حاجباه، اهتزت رأسه كغابة ضربتها الريح، صاح صيحة من عثر على شيء تائه:
لنبدأ إذن بالأصعب، سنذهب لإحضار السلك في الفجرية.
ـ يا خبر. ! فجرية؟! وكيف نصحوا من عز النوم؟!
علت شفتيه ابتسامة الواثق، قال: ضَرْب العكاز يا عبيط.
ـ مستغرباً سألت: أي ضرب؟ وأي عكاز هذا؟!
ثم مال الضرب والعكاكيز بالسلك؟!
أنت أكيد تعبان يا ابن العم!
ـ أبداًًًًًًًًً، ولا تعبان ولا حاجة، الحكاية إن عكاز جدك، وهو في طريقه لصلاة الفجر، لايتوقف عن دق الأرض، قبل دق أذني، ولا يتم زحزحة البلاطة المفلطحة من وراء الباب، قبل تطيير النوم من عيني...، وعموماً ما عليك، إلا إزاحة النوم عن بدنك، أوَل أصابعي ما تزغدك، وبعدها نطلق لجسدينا الريح، قبل عودة جدك من الجامع، وعودة البلاطة من جديد، لتجثم على صدر الباب بعد غلقه.
ـ والرجوع؟
ـ عند الرجوع، ستكون الشمس قد طرحت شعاعها، على جبين الدنيا، وكل الأبواب ستكون مفتوحة على مصارعها.
...
في الفجر جرجرني أحمد ـ وأنا نصف نائم ما أزال ـ، وراحت أجسادنا تنفض الخمول بعيداً، تشق ستائر الظلمة، نقطع حُجُب الصمت، بوَقع أقدامنا الصغيرة، حتى صرنا خارج حدود السكن، وأصبحت البيوت خلف ظهرينا، هي ومِنْ بعدها سراية العمدة، القابعة على قلب القرية، عند مدخلها الرئيسي، تفصلها عن البيوت مساحةٌ مُحرَّمةُ الوطء، إلاَّ للمسموح لهم من زوار سعداء، أوخدم يرفلون في أثواب البؤس.
لصق شاطئ الترعة، اصطفت الساريات الخشبية، كشاهد عيان على كل شيء، يستمع ويُبلَّغ مطيعاً دونما اعتراض، ومن فوقها ترقد الأسلاك النحاسية الحمراء، تهزهزها نسمات الفجر البكرية، فتهتز لها قلوبنا، شوقاً إلى نيل أحدها والفوز به.
ولم يكن أمامنا من وقت، كي أخبر أحمد، أنني قد فهمت الآن مقصده، ولم يمهلني هو أيضاً لأقول شيئاً، وفي لحظة كانت قدماه النحيلتان، تبدلان فوق قُطَم الحديد، المثبتة على جانبي إحدى الساريات، كقرد مُدَرَّب، أمسكت إحدى يديه بإحدى الخشبات الخمس الأفقية، المثبتة على السارية الرأسية الأم، ثم رَنََتْ عيونه إلى أحد الأسلاك الملفوفة، حول إحدى الأكواب الصينية العديدة، بنية اللون.
ومن سيالته أخرجت يده الأخرى، سكيناً حاد النصل، وإن هي إلا لحظات، حتى سقط السلك يتلوى ممدداً، كثعبان مرفوع الرأس من طرفه الآخر.
وما إن وطأت قدما أحمد الأرض، حتى اندفع ناحية السارية الأخرى، وهو يأمرني لاهثاً: لف السلك... لف السلك.
استجابت يداي لاإرادياً، فراحت تجتهد في لفَّه بهمَّة، حول قطمة غصن يابس مهملة، موقنا أن المشكلة الكبرى في صنع السماعة، على وشك الانتهاء.
وبينما كانت السراية، ومن بعدها القرية، وراء ظهري ما تزالان، وأنا منهمكة يداي في لف السلك، مُسَلَّطة عيناي على ظهر أحمد بجلبابه المخطط، وهو يُعْملُ ساقيه، في تسلَّق السارية الأخرى كالقرد، وقبل أن أترك العنان لذهني، يسترسل في وصف عبقرية ابن العم وشقاوته، مسترجعاً ذكريات تفوقه علينا جميعاُ، في تسلق الأشجار، وتفتيش أعشاش الطيور، وتجريدها من صغارها المؤشكين على الطيران، و.. و..، وإذ بيد قوية، تقبض على كتفي النحيل. وفي لحظة لا أدري كيف مرت، بِّتُّ مدفوعاً حتى أصبحتْ قدما أحمد، تعلو رأسي بقليل، وهو من فوق السارية في طريقه إلى الأرض، تنظر عيناه مذعورتين، إلى ذلك القابض على قفاي، ذي الرأس الكبير والأنف الكبير، وكل شيء كبير.
صاح محتداً: ألا تعرفان (واصل) ابن خفير العمدة؟!
وقبل أن تند عنَّا كلمة واحدة، اختلطت كلماته بضحكة متهكمة وهو يضيف:
سلك تليفون العمدة يا أولاد الكلاب؟!... عليه العوض فيكم وفي أهاليكم.
لم يكن شاربه قد نبت بعد، ومع كل ما يملك من صفات، لم يبدُ عمره أكبر من عمرنا بكثير، إلاَّ أنَّ ألسنتنا لم تكن تذكر إسمه مجرداً...
ـ متوسلاً قلت: والله ما كنا نعرف.
صرخ: وَلَو.
خرجت كلمات أحمد مذعورة، حتى ظننت الخرس قد أصابه:
نقبَّل يدك يا عم واصل.
ـ أبداً
ـ آخر مرة يا عم...
ـ ولا كلمة.
ثم راحت يداه تدفعانا أمامه، كأنهما تدفعان عنزتين مريضتين.
وفجأة توقف عن الدفع، وكأن خاطراً خطيراً خطر له، فاجأنا بسؤاله عن أبوينا.
فأخبرناه سريعاً، لاندري أخير يُراد بهذا السؤال أم شر؟
يحدونا الأمل أن يكون في جوابنا الخلاص.
غزَتْ الحُمرة وجهه، لمع العرق فوق جبهته، ثم اجتهد لسانه في سبِّنا من جدي
صاح مستنكراً: عمل خسيس كان (غيركم) أولى به، لأن لحم أكتاف والدك ووالده من خير العمدة، ولولا شرف (شُغْلهم) في أرضه، ما دامت حياتكم؟
انطلقت دعواتنا في نَفَسٍ واحد: الله يخلي العمدة ويكثر خيره.
باتت أقدامنا عاجزة تماماَ عن حملنا، فصرنا لا نساعده في دحرجتنا فوق السكة الترابية، وبدا له ـ على ما نعتقد ـ، أن استمرار دحرجته لنا وَحْدَه حتى السراية، ستكون فيها هلَكَته.
فاجأنا تلاحُق أنفاسه، أجرى كُم جلبابه الفضفاض، مجففاً عرق جبهته، أطلق تنهيدة تعلق بها قلبانا، ثم قال:
ليكن...، أنا ممكن (أُطْلقِكم).
وقبل تسابُق كلماتنا في مدحه، أوالدعاء له، قاطعتنا لهجته الآمرة:
ولكن بشرط..
قلنا في نَفَسٍ واحد: اشرط على كيفك.
ظهرت الصرامة على ملامحه عن ذي قبل، أضاف محتداً:
على أن يمنحني كلَّ كلب (منكم)، قرشاً صحيحاً غير منقوص، عن كل يوم.
يجيبه من البحر أو من البر، يجيبه من الجن أو من الإنس،... أنا غير مسئول.
وكأننا قد وهبنا الحياة بعد الممات، قلنا معا: وماله.
وبداخلنا تتكاثر لعناتنا، على الولد عبد الله ابن خالتي، الجن المصور، وعلى كل السَّماعات وكل الإذاعات.
وما كان علينا، إلاَّ التمرُّغ في الرضوخ، لمطلب هذا الفحل (واصل)، رغم أن القرش الصحيح ـ عندما كنا على تلك الحال ـ، يساوي تقريبا، مصروف سبعة أيام طوال عراض، وربما أكثر.
أضاف واصل ـ بنفس الصرامة ـ: أما السلك والسكين فمعي، ولو تأخر الدفع ولو ليوم واحد، العمدة بسرايته موجود، وفي غيطه مزروع والدك ووالده، من طلعة الشمس وحتى الغروب، الباقي معروف.
وانطلقنا لا نخلف له وعداً، وإن هي إلاَّ أيام، حتى سَرَتْ في قريتنا، حكاية عن العفاريت التي تسكن دارنا، وتسرق النقود أينما تكون!
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى