فؤاد قنديل - حميدة ولدت ولد

رغم أن زوجها كان أنانيا وجاهلا وبخيلا وفاقدا للإحساس ولصا وذا لسان بذىء وحشّاشا وكل العبر فيه، فقد كانت حميدة- لدهشة من يعرفونها - لا تود أن يصيبه أذى أبدا، ولو كانت امرأة غيرها لتمنت أن يطلع عليها النهار فتجده قد اختفى من الوجود إذ سوف ترى بالتأكيد أنه أسوأ من خلق الله على وجه الأرض.. لكنها كانت حميدة ولم تكن امرأة أخرى، وعندما زارت الحى العجيب الذى تعيش حميدة بين مستنقعاته الخضراء العفنة الدكتورة أستاذة علم الاجتماع وسألت نساءه الحافيات عن رأيهن فى رجالهن، قالت المسحوبة من لسانها حميدة قبل الجميع، "ضل راجل يا ست الدكتورة ولا ضل حيطة " عندئذ حط الهم على الزائرة ولعنت الأمثال الشعبية التى تشجع النسوة على قبول ظلم الرجال واستبدادهم، ولم تتح الفرصة للنساء كى يفهمن معنى قولها: يجب أن تزول دولة الرجال.

كان محروس زوج حميدة عاطلا ولا فخر، والأدق أن يقال إنه كان يعمل يوما وينام بالبيت عشرة، وكل عدة أيام يتحين فرصة زيارة حميدة لأهلها فيقلب البيت رأسًا على عقب بحثا عن غنيمة تكون قرون استشعاره الملهمة قد سرّبت إليه خبرها، وألقت فى روعه سر مال هنا أو هناك، أو عما يمكن أن يتحول إلى مال.. حواسه كلها وخاصة أنفه مبرمجة فقط على المال أو ما يساويه فى الفائدة ولا يعنيه شيء آخر.. فى مرة فك خياطة المرتبة ودفس أصابعه التى تشبه كثيرا- وعند السرقة فقط - أصابع الجراح.. لمّا لم يعثر على شيء اضطر لإدخال ذراعه الطويلة حتى الإبط وإذا به يعثر على أسورة من ذهب، وفى مرة ساقته أنفه إلى خزانة الأوانى فى المطبخ ليجد بداخلها كيسًا أسود وبداخله قطعة قماش ثمينة فأسرع بحملها بعيدا عن الأوانى والزيوت والنار ولم يبخل عليها بالبيع لمن يستحقها أو لا يستحقها وهو يصب اللعنات على الجميع وأولهم طبعا حميدة.

كانت حميدة تدخر بصعوبة ثمن خاتم بواقع شلن كل يوم تخصمه من مصروف البيت، وتخفيه بعيدا عن يد محروس فاقد الإحساس فقد يلزم ليوم أسود تشتد فيه الحاجة.. وفى كل الأحوال يتصرف محروس بالبيع ولو بنصف الثمن ويحمل النقود كى يبعثرها على المتلطعين والمتنطعين بالمقهى حتى يبدو فى نظر الجميع شخصا كريما يستحق أن يخسر له الكل أدوار الطاولة والدومينو ولو ليلة الجود فقط..شعور يتمناه دائما ولا يكاد يطاله.. وفى غمرة انتشائه بالمديح والنصر لا يشغل باله إذا كانت زوجته قد تناولت عشاءها أم ستكمله بالنوم، وربما -وهذا ما يحدث فى أغلب الليالى - تنتظره وقد أعدت العدس أو الشكشوكة أو الجبن بالطماطم أوالطعمية وأحيانا المسقعة، لكن البيت ومن فيه أتفه من أن يخطر بباله.. ونادرا ماعرف رائحة اللحم وفى الغالب يكون أبوها هو الذى أحضره.

فى مرة علم أخوها نجيب أن زوجها ضربها ضربا مبرحاً فاستدرجه بعيدا عن الحى مدعيا أنه وجد له عملا عند أحد المقاولين، فقد عمل محروس بعض الأيام فى هدم المبانى القديمة، وأحيانا كان يعمل مساعد نقاش وفى الغالب لص.. بعد أن ابتعدا نسبيا عن العمران بدأ الفأر حثيثا يلعب فى "عب" محروس لأنه يعلم أن نجيب ملاكم وعندئذ همّ بالفرار لكن نجيب قبض بسرعة مذهلة على زمارة رقبته وقبل أن يلمسه شعر زوج أخته أن النهاية قادمة فى قبضة صهره الشهيرة.. لم ير نجيب داعيا كى يرحمه وكان بالفعل عند سوء ظنه فأوسعه ضربا لعله يرتدع وينعدل ذيله المعوج، ولم يتركه إلا بعد أن صار حطاما لا يكاد يقدر على منع فمه وأنفه من لعق التراب، ولما رأت حميدة زوجها وليس فيه ذراع أو ساق سليمة سألته عمن فعل هذا.. أجابها بكلمات مهشمة:

- ليس غريبا..إنه أخوك ابن الكلب وحياة أمه لأقتله، أسرعت حميدة إلى أخيها وقالت له إنه من اليوم ليس أخاها وعليه ألا يدخل بيتها حتى لو ماتت.
استعطفها أخوها بعد شهر حتى عفت عنه وبكت على صدره واعترفت إنها لا تستطيع أن تستغنى عنه مهما جرى.

مرت شهور وسنون حتى اضطرت حميدة إلى الموافقة على فكرة الطلاق التى ألح نجيب على ضرورة تنفيذها لأن المحروس لا ينفع فى شىء مطلقا وعلاقته بالرجال مثل علاقة النملة بالبغل.

الغريب أن زوجها الذى يبدو فوق كل عيوبه عقيمًا وليس له فى صنف النسا، زارها قبل إتمام الطلاق بأيام وشاركها الفراش على أساس أنها نومة الوداع، فوجئت حميدة بعد أقل من شهر أنها حامل.. فكرت أن تتراجع عن الطلاق حتى لا يربى المولود بعيدا عن أبيه، لكن أخاها وأباها طلبا منها أن تساعد نفسها وتساعد أهلها للتخلص من بنى آدم بهذا المستوى، لأنه سيظل سببا فى تعاستها وتعاسة أهلها.

تم الطلاق واختفى الزوج من الصورة إلا قليلا.. كان يعلن للجميع أنه يحب حميدة وعلى استعداد لتقبيل قدميها حتى ترضى.. تحن حميدة كلما كبر بطنها وسرعان ما يندلع جنونه مثل سيجارة ألقيت فى محطة بنزين فتندم لأنها فكرت فى العودة إلى حياة المهانة والذل.

وضعت حميدة ولدا.. لما رأته زغرد قلبها وكادت تطير من الفرحة لهذه الهدية الربانية التى لم تكن تحلم بها.. فرحت كأنها أنجبت من قيصر روما أو كسرى الفرس أو كلينتون الحليوة المعجبانى.. اقترحت جارتها وهى تداعبها أن تسميه عبد الصمد طبقا للأغنية الشعبية.. حميدة ولدت ولد.. سمّاته عبد الصمد.. فكرت حميدة ليلة بكاملها فى اختيار اسم له، وإن ظل عبد الصمد يراودها ويشاغلها حتى التقطت اسم جد جدها..حَمَد، فليكن اسم ولدها حمد على اسم جد جدها.. رضى أبوها جدا بالاسم الذى لم يخطر ببالهم منذ زمن، ولم يحمله ولد رغم عشرات الأحفاد.

أيقنت أن الله كافأها على طول صبرها بهذا الوليد الذى كلما مرت الأيام وهو ينمو بسرعة وتتبدى آيات ذكائه التى بكل تأكيد لم يرثها عن أبيه، كلما شعرت أنه أصبح زوجها وأخوها وأنيسها وابنها وأملها وهو الدنيا كلها.. صار السعادة كلها وغذاء الروح والقلب.. لا تفارقه ثانية، ولا تسامح نفسها إذا وجدته يبكى، وبسرعة تحاول أن تهدئ من روعه فتغنى له الأغانى، وإن لم تستطع أن تتجاهل أو تتجنب الأغنية الشعبية التى ذكرتها بها الصديقة:

حميدة ولدت ولد.. سمّاته لله حَمَد.. مشّاته ع المشّاية.. خطفت راسه الحداية.. حد ياحد .. يا راس القرد.. عسكر فوق وعسكر تحت.. اخص عليك يابتاع البخت.

بعد عام استيقظت حميدة فى يوم متأخرة وكانت الناموسية كحلى فلم تجد ولدها نور عينيها فى حضنها كالعادة.. هبّت من سريرها تبحث عنه تحت الدولاب وداخله.. تحت السرير وفى الصندوق الكبير.. تحت المنضدة والكنبة.. فى الصالة وفى المدخل.. صعدت إلى السطح تفتش فى عشة الفراخ وفى كل مكان.. صرخت وولولت وجرت مكشوفة الرأس تدفع أبواب البيوت وتنادى وتسأل وتصرخ وتواصل البكاء.. ساعدها شباب من الجيران كى تسأل فى المستشفيات وأقسام الشرطة فلم تجد له أثرًا.

لم يكن أمامها إلا أن تبلغ الشرطة وتحرر محضرا باختفائه.. سألها الصول عشرات الأسئلة وحولها على الضابط.. من إجاباتها مال الضابط ذو النجوم الثلاثة مبدئيا إلى أن الجريمة تتجه بأصابعها إلى اتهام أشخاص عديدين، قد يكون منهم زوجها السابق وقد يكون منهم رجل ذو لحية يسكن الحى طمع من قبل أن يتزوجها على زوجاته وصدته فلم ييأس..

اضطرت أن تقطع عرقا وتسيل دما فطردته أو ما يقرب من ذلك.. وقد يكون منهم مسجل خطر كان قد اتهم من قبل كثيرا بسرقة الأطفال الذين هم فى سن حَمَد أو أكبر قليلا، لكنه كثيرا ما كان يخرج من كل القضايا كالشعرة من العجين.. تمنت حميدة على الله أن يَمن على الضابط بخمس نجوم دفعة واحدة إذا رد إليها حَمَد.. اقتنعت أن الشاب سوف يساعدها لأن وجهه ينطق بالمروءة.

لمّا سألت الشرطة الجيران.. قال أحدهم أإنه رأى فى صباح اليوم ذاته الذى غاب فيه الولد اثنين من أهل الزوج السابق يمران بالشارع الذى تقيم به حميدة.. وقال ثان إنه رأى امرأة منقبة تخرج من بيت حميدة وبيدها لفة.. لم تصل الشرطة على الطفل ولم تستدل على سارقه.

وهكذا توفرت لحميدة كل أسباب الجنون، لأن وليدها الذى فى رأيها لا وليد مثله والذى هو بالنسبة لها الرجل والابن والأخ والأب والونيس والدنيا كلها قد اختطفته الحدأة المجهولة التى لم تمسك بها الشرطة بعد، والتى لم تعد مجرد كلمة فى حكاية أو أغنية بل حقيقة مُرة علقم طعنت حميدة بجد فى قلبها وسوّدت عيشتها.

وهكذا تمر الشهور وحال حميدة يسوء فلا بقى الزوج السابق ولا بقى الوليد الأمل، وقد شغلها الغائب عن أحوالها وعن بيتها وطعامها وهندامها.. الدنيا كلها فوضى وبلا معنى.. مضت على وجهها حافية تجوب الشوارع والأزقة.. تحدق فى كل وجه حتى لو كان وجه عجوز فقد يكون حمد.. حمد الذى تمنته من الدنيا ذهب وتركها تضرب كفا بكف بينما صار هو مثل رمش عين طيرتها الريح.

وهكذا تصورت فى لحظة - وكان العقل قد أصابه الكثير من التشتت - أن حمد ذهب إلى البحر يسبح وراء السمك فانطلقت وراء هدفها الذى له ذيل سمكة، ولمّا اقتربت من البحر ولم تجده سألت البحر فأنكر.. وهكذا تصورت أنه هبط إلى القاع بحثا عن اللؤلؤ المدفون فى زجاجة كبيرة تحت المقعد الذهبى الذى تجلس عليه الجنية.. والخوف كل الخوف أن تكون الجنية قد أخفت حَمَد فى شعرها يفرشقاع البحر الكبير.. وهكذا تمشت نحو الماء الأزرق المالح الذى يتراقص ويتقلب بصورة مخادعة وخبيثة.. تدريجيا شرعت تهبط عازمة أن تسأل الجنية عن حَمد.. لابد أن حمد عندها.. وفى آخر لحظة سمعت الهتافات والصرخات.. التفتت خلفها ورأت مشهدا لم تتخيله.. كان عشرات الآلاف يحملون حمد ويرفعونه إلى أعلى ويلوحون لها كى تخرج.. وقفت مذهولة وغير قادرة على أن تصدق ما تراه.


.
قنديل.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى