رسالة من عبد الرقيب مرزاح إلى الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح

- رسالة من عبد الرقيب مرزاح إلى الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح

الأستاذ الدكتور/ عبد العزيز المقالح المحترم

أستاذنا القدير، نحن جيل نشعر بالضعف، نتمنى لو لم نوجد في هذا العالم قط. أُسِرُّ لك بذلك في وقت نشعر فيه بالقرف من أنفسنا، وهذا ما معناه أن تموت العلاقة والمسافة بيننا وبين طموحاتنا؛ هذا ما كلفتنا إياه المعرفة. ثمَّ ماذا؟ لا شيء، سوى أن نبقى وحيدين في البياض في الفضاء الموحش، مطموسي الملامح، عديمي الفوارق، حيث لا شيء ينهض أو يختلف، أو يتميز؛ حيث المساواة البغيضة في أتم صورها لدرجة الفناء، لدرجة العدم.

والآن نحن نعرف أنه يمكننا أن نموت وأنه يستحيل أن نموت، نعرف أنه يمكننا أن نعيش وأنه يستحيل أن نعيش، نعرف أنه يمكننا أن نعرف وأنه يستحيل أن نعرف، نفقد لحظة الجهل المكتسب، ونفقد لحظة الجهل الخالص، الأشياء تخرج منا من دون أن تعود، وشيئاً فشيئاً يتلاشى الإحساس بالحضور، وكذلك يتلاشى الإحساس بالغياب، وكذلك تتلاشى أي دهشة بالخراب، كل خراب، هنا في الداخل وهنا في الخارج، ويصبح التشوش رديف أي ظاهرة ساكنة ومكتملة وأبدية، لا معنى لأي شيء، والغياب هو الخيار الوحيد، وهو الموقف الأكثر تزمُّتاً وصرامة إزاء عبثية كاسحة كهذه.

على الجانب الآخر، لطالما خطر لنا أن هذا العالم أكبر من أن نُقيم معه علاقة. وكانت الطريقة الوحيدة أمامنا، لبناء تلك العلاقة، هي بتقليص العالم وتجفيفه وتعليقه من قدميه داخل إحدى القصائد؛ إننا نعالج حجم العالم وقدرته الهائلة على السيلان والحركة والتمدد في جميع الجهات، من خلال الكلمة؛ كنَّا نجمِّد الوجود في حرفين لكي يسعنا أن نتأمل المشهد من خلال برواز.

السؤال: من كان يصدق أن ننتمي لعالم لا يشبهنا، أن نتناقض ونتشظى لآلاف القطع!؟ وأنت -يا سيد الحرف- تعرف ما معنى أن يخونك صوتٌ نشاز وأنت مندمجٌ في غمرة أغنية مرحة! تعرف معنى أن تجيء أصدق مما يجب! هذه هي المشكلة؛ أن نجيء صادقين ثم نجد أنفسنا خارج منظومة الزمان وحتى الجغرافيا، ربما خارج منظومة الصواب والخطأ. حسناً ولـمَ لا؟ حتى مفاهيمنا الراسخة في اليقين عن الخير والشر، كلها تصبح -فجأة- فارغة على نحو مرضيٍّ، كل شيء مطروح للشك. سأصارحك: أنا شخصياً أتذكر نفسي وأحاول أن أُحدث حفرة في صدري وأختبئ هناك إلى الأبد.

الأسوأ من ذلك، من اللافعل، من الانطفاء، من اللاأحد، أن يكون الشيء الوحيد الذي تقدر عليه غير مرئي أمام الآخرين، رغم أنه يقضي عليك، ورغم أنه يدمرك، ورغم أنه يجعل العالم شاسعاً ومترامياً وغريباً وواضحاً وغامضاً، ورغم كل ما تكابده وتتكبده من معاناة في سبيل تلك الجذوة المقدسة، وتبارك فناءك في غمرتها؛ ومع كل هذا لا يراك الآخرون، ولا يشعرون بك.

لا شيء، أبداً، يوازي هذه الغربة، لا شيء نجربه في حياتنا يشبه الحقيقة في أكثر أشكالها بروداً أو بساطة، مثل أن نقف، وجهاً لوجه، أمامك أيها العالم ولا نفهمك.

ولكن هل خطر لنا -والأرض تتزلزل تحت أقدامنا الآن- أن حبنا لهذا العالم، وكرهنا له أيضاً، وكل ما يربطنا له، ليس أكثر من كذبة دشّناها نحن؟ أننا لم نتعاطَ مع الوجود قط على حقيقته وبكامل حقيقتنا؟

نكسنا رؤوساً، وأخرى كدسناها في صدورنا. دفنا صوت أنفاسنا لكي لا يكون للانتظار وقع أقسى؛ وكان. كان لا بد أن نمضي قبل أن تتفطر أقدامنا عن حبر لا تشتهيه نواياهم. كان لا بد من عقوق تحاشيناه طويلاً لفرط الحبّ. كان لا بد أن نستعجل المضيّ قبل أن يسقط كل واحدٍ منا في الهاوية التي ما فتئت تحدِّق فينا وما فتئنا نبتلعها. وسمينا الفناء بحثاً. مضينا مطفئين، ذائبين، بظهور مقوّسة تماماً كتلك الجسور التي حلمنا بها بيننا وبينهم.

***

أيها الشاعر/ الشاعر:

والآن، هل تتوقع منا أن نؤمن بقضية، أو ندافع عن مبدأ، أو حتى نحلم مجرد أحلامٍ حمقاء مثقوبة؟! لا أظن ذلك؛ لأن الحقيقة باتت تقع فيما وراء الشجاعة والخوف، ما وراء الخير والشر، ما وراء الصواب والخطأ، الحقيقة هناك. وهذا الغبي بيتس الذي قال: "إن ما تبحث عنه مليون شفة في هذا العالم لا بد موجود في مكانٍ ما". آمنّا بذلك والله، لكننا لا نراه، هذا الشيء الذي تلهج به مليون شفة؛ الحقيقة، لا نراها؛ ربما لا ينبغي أن توجد الحقيقة أصلاً! ربما لو سلمنا بأن كل ما حولنا هو تجسيد لوهم وامتداد لعلاقات متحركة أزليّة، لأضغاث حلم، لو سلمنا بذلك هل سنكون أحسنَ حالاً؟ تسمَّرنا كالخشب المسندة، وسمّينا أنفسنا أشجاراً لم تثمر، وحدها الفوانيس المعلقة في أذرعنا، كانت تتأرجح في الهواء، ترسم أشكالاً للرعب، تلك التي هدهدنا بها أطفالنا وقلنا إنها ظلالكم.

***

أستاذنا القدير، أظننا اليوم نفهم معنى أن يكون الزمن البعد الرابع للمكان، أن يكتسي لحماً ويصبح من الناحية الفنية مرئياً، ربما محسوساً. كل هذا يجئ متأخراً جداً بالنسبة إلينا، ليس لأننا لا نستطيع حتى الآن أن نرى وجه القصور الزمكاني في تجاربنا، بقدر ما نكفر -في هذه اللحظة تحديداً- بالكتابة، بالصراع، إضافة إلى أن المكان المحيط بنا لا يغري بمكوث أو مضي، أو حتى بالتردد بين الإثنين. وإذا شئنا أن نستخدم سياسة النظر إلى الكأس الممتلئة سنكون جيلاً مهذباً، ومقراً بالجميل، ونعترف بأن المعرفة تزيد من قدرتنا على التسامح، على التماهي مع الآخر، على التلامس مع النقيض البعيد. إنها تشعرنا بالحياة لحظة نمسك بزمام الأسئلة. وهي فوق ذلك "تزيد سعة الأرض"، وهذا أهم ما في الأمر.

لكن المشهد يبدو في أنظارنا لا إنسانياً، فالمعرفة التي (يفترض أنها) تنهض بالإنسان أصبحت تحطُّ من قدره كثيراً. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، حينها نستطيع أن نحزم حقائبنا ونختفي في كهف ما، وندّعي أننا لم نكن يوماً، وهذا العالم كله سوف يبرع في نسياننا! نحن متأكدون من ذلك، الجامعة ستنسى صولاتنا وجولاتنا، والمؤسسات الثقافية التي كانت يوماً بنا ستنسى مشاكساتنا وما دشّنَّاه من حملات ضد تفاهة العالم. ولكن المشكلة الحقيقية أننا معاشر ممتهني اللغة، أو معاشر الشعراء، كما يطيب للبعض أن يسموا أنفسهم، لا نستطيع أن نتواصل مع هذا العالم بدون أن نصنع عالماً موازياً له، عالماً مفارقاً له، عالماً ندشِّنهُ نحن باللغة، يجعل العالم شاسعاً ومترامياً وغريباً وغامضاً عن ملامح العالم الفعلي الذي قُذفنا فيه دون رغبة منا... أليست هذه هي الطريقة التي (نظن أننا) من خلالها نستحدث علاقات نزعم أنها غير موجودة، ونمد جسوراً بين أطراف نزعم أنها غير موصولة... وما إلى ذلك من نُزهات، في الوقت الذي نبعد عن العالم الفعلي/ عالم الجديد، العالم الذي لا يحترم الدمع ولا يقدِّس الدم، ونسعى لتكريس القطيعة معه؟

***

شاعرنا العظيم وأستاذنا القدير،

هل أتينا حقاً بما ليس في هذا الوجود؟ أم أننا نبرع -فقط- في اجترار أوهامنا، نلوك الكلمة في أفواهنا لساعات، حتى يتحلل مذاقها ويذهب عبقها، ثم نخرجها للنور؟ نستهلك العالم بالكلام، حتى تخلى العالم عن كل معانيه بالنسبة لنا، وأصبح ذلك الند، ذلك الكيان الشاحب الذي وجدنا أنفسنا نتخبط داخل أحشائه؟

والآن كيف يسعنا أن نواجه العالم؟ كيف نستطيع أن ننظر إليه لأول مرة في حقيقته الأفقية، عالماً للشواش والارتباك والفوضى المقدسة، عالماً تختلط ماهيته وتنقض حقائقه بعضها بعضاً، عالماً غير قابل للتفسير ولا للاحتواء ولا حتى...؟ وهل بإمكاننا أن نتجرأ على عالمٍ كهذا ونغيِّر قوانينه، ونربك علاقاته، ونخلخل مبانيه، ونفجِّر ثوابته، كصنيعنا سلفاً مع العالم الموازي، عن طريق اللغة الدينامية، اللغة نوبل؟

***

أستاذنا الفاضل،

ما العمل الآن؟ كيف نستطيع أن نبرر أنفسنا، أو أن نفهم أنفسنا، أو أن نعرِّف أنفسنا...؟ كيف نستطيع أن نكون، نكووون؟ كيف نستطيع أن نشرح للعالم كل هذا الصمت؟ كيف نستطيع أن نشرح للعالم وأن نختبر هذا العالم، الحقيقي بما يتجاوز الفجيعة، المادي بما يفوق الرعب؛ بدون لغة؟ إنَّ ما نخشاه أن نفقد لغتنا في ظل هذا الحصار؛ ربما قد تسقط منا سهواً عند منعطف من منعطفات وزارة التعليم العالي، أو أن تُنسى فوق مقعد من مقاعد الباصات الكثيرة، جراء ازدحام الأجساد؛ لتعيش بعد ذلك قصة حبٍّ تخصها وحدها، دون أن تتعرض للاستهلاك والاستخدام!

***

يا أبانا،

لا أخفيك أني حاولت السيطرة على العالم بواسطة لغتي، معتمداً على رشاقتها واشتقاقاتها الأكثر من جريئة، وسَهَري الدؤوب بحثاً عن حرفٍ مناسب قد أضيفه إلى الأبجدية العربية... لكني أخفقتُ!!

أتعرف لماذا؟! لأن المجتمع الذي أنا واحد منه لا يقرأ، وفي حالة قراءته قد لا يفهم.

وحاولت مرة أخرى، أن أسيطر على العالم، من خلال إلقاء نظرات معمقة عليه. هتفت بالعالم: فقط دعوني أنظر في عيونكم وأنا كفيل بأن أتسرَّب إلى أعماقكم! لكن الصدى عاد إليَّ قائلاً: لا تنظر إلينا هكذا، كفاية، كفاية، إنك تدمِّرنا! وبهذا الصدد لا زلت أتذكر ما قاله صديقي العزيز/ إبراهيم الهمداني في ساعة تأمل: "لا تحدّق في الشمس هكذا، فقد تسبب في إطفائها".

ومن ذلك التوقيت -بالتحديد- لم أجد أي وسيلة أخرى للسيطرة على العالم سوى الاعتناء برائحتي، محاولاً إضفاء عنصر الخلود عليها، في الوقت الذي أفاجأ بالسواد والنتانة واللامعنى.

يبقى السؤال/ الخطئية: لماذا يسجنون العطور في قنينة، يا أبي!!؟

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى