رسالة من محمد عبد السلام منصور إلى الدكتور عبد العزيز المقالح

- رسالة من محمد عبد السلام منصور إلى الدكتور عبد العزيز المقالح

أخي العزيز الشاعر العربي الكبير عبد العزيز المقالح المحترم

في هذا الزمن الذي يسعى سدنة ماضيه إلى تسفيه ما كان لدينا من إصرار على التمسك بجوهر فعلنا الثوري، أجدني مضطراً إلى أن أحييك تحية الفعل الثوري ذاته.

فَتحيةً ثوريةً نقيةً تتمنى عليك وعليَّ الوقوف، من أجل اليمن، موقفاً أخلاقياً يلفت إلى قيم ثورتنا الإنسانية، التي كفلت حقوق المواطنة اليمنية المتساوية، حتى لأعدائها، ومدى أهمية التمسك بجوهر هذه القيم كونها هي الأسس التي لا بد أن ينبني عليها مجتمعنا اليمني الحديث، الذي استهدفه قيام الثورة ذاته، مجتمعاً موحداً يحكم نفسه بنفسه، من أجل أن يحقق لأفراده الكفاية والعدل والحرية، وهو مؤمن، في الوقت نفسه، أنه جزءا لا يتجزأ من وطن عربي كبير، يجب أن تتوحد إمكانياته الاقتصادية والبشرية والثقافية، في كيان سياسي ديمقراطي قوي، يتيح له النهوض من عثرته الطويلة، وتجاوز التخلف الذي يعيشه، من أجل البدء، ثم المضي، في مواصلة أداء دوره الإنساني، في بناء المكونات المادية والروحية للحضارة الإنسانية الحديثة، هذه الحضارة التي قطعت المجتمعات المتقدمة، في سبيل بنائها، شوطاً طويلاً، في حين كانت إسهاماتنا العربية غائبة عنها غياباً لافتاً ومخجلاً.

أما بعد:

فإن هذه الرسالة لا تريد التحدث عن موضوع هذه التحية الثورية، قدر ما تتمنى عليك وعليَّ، أن يكون موضوع الثورة، مجالاً لأحاديث طويلة قادمة تثوِّرُ النسل وتحيي الحرث، ثورةً وحياةً دائمتين، وأن يكون موضوعها -وهو الأهم- مجالاً لإبداعات جمالية وأدبية وفنية خفاقة الروح، داعية إلى استمرار سريان الحياة في جوهر فعلنا الثوري، وإلى ضرورة التمسك به، والنظر إليه بكونه، في كل مرحلة من مراحل تطورنا، منطلقاً حامياً لحكم الشعب، ومجدداً لتطور المجتمع، وأن تبقى أهدافه داعية إلى مزيد من العمل الدؤوب حتى تتحقق كاملة، في واقع حياتنا، وبخاصة منها الجانب الاجتماعي، الذي كان إصرارنا على التمسك به، والسعي إلى تحقيقه، هو سبب الخلافات، التي اشتملت اتجاهات القوى الجمهورية، وأفضت إلى الزج بأهم المدافعين عنها في سجون تتالت على كثير منهم، حتى قيام دولة الوحدة؛ تم ذلك بحُجّة نزوعهم اليساري المتطرف.

أخي العزيز

لقد ترددت كثيراً في الكتابة حول هذا الموضوع، واخترت التوقف عنه؛ خوفاً من استرجاع خلافات مضت، خاصة وأن أهم القوى التي تبنت ما كان يسمى بمواقف الجانب الجمهوري المعتدل، قد أدرَكَتْ ضرورة العودة إلى التمسك بجوهر أهداف فعلنا الثوري، وضرورة العمل على تحقيقها، ابتداءً من توحيد النظام السياسي لشطري الوطن؛ فتم قيامه على أسس ديمقراطية تضمن الحرية والمساواة والعدل؛ فانخرط تحت لوائه كل اليمنيين بمختلف اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية. لذلك فإنني مؤجلٌ الكتابةَ عن مرحلة ما قبل الوحدة، إلى أن يحين موعدها الجاعل منها: إما كتابة تاريخية ترصد الأحداث بشكل موضوعي، وإما عملاً إبداعياً يتضمن كل أبعادها الحساسة، وبخاصة منها السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية.

ولأني قد قررت ألاَّ تكون هذه الرسالة مثيرة للشجون والمواجع، فإني سوف أقصر حديثي فيها على جانب واحد من الجوانب التي يصح لي أن أسميها جوانب إيجابية، للحياة في السجن، نعم أريد أن أقرر هنا أن للسجن جوانب إيجابية كثيرة؛ فالإنسان، بإرادته التي لا تقهر وصبره الذي لا ينفد، يستطيع أن يحول من الأوقات التي اسْتُلِبَتْ فيها حرية تنقله، إلى أوقات يعزز فيها حريته المتكاملة، وبخاصة حينما يكون سجنه بسبب موقفه العام، أو اتجاهه الفكري والسياسي، فإن السجن يتيح له سعة من الوقت تُمَكِّنه من الوقوف مع نفسه مواقف طويلة، يتأمل فيها ما قدم في سالف حياته من إنجازات أو إخفاقات، وعمَّا إذا كانت رؤاه ومواقفه هي الرؤى والمواقف الصحيحة، فيعززها بمزيد من العلم والمعرفة، أم كانت خاطئة فيتحول عنها إلى ما يدرك أنها هي الرؤى والمواقف الصحيحة، فيثبتها ويعززها أيضا بمزيد من العلم والمعرفة.

ولما كانت حياة السجن الأول، الذي تطاول إلى ما يقرب من الثلاث سنوات، قد توزعت بين الحجز الانفرادي للبعض، وأنا منهم، ثم السجن الجماعي؛ فقد أتيحت لنا فرصتان: في الأولى راجع كل منا نفسه. وفي الثانية، وبسبب أننا كنا نمثل اتجاهاً جمهورياً موحد الرؤية تقريباً؛ فقد تمت مراجعة جماعية تقييمية لتاريخ الحركة الوطنية اليمنية والعربية معاً، وفي المراجعتين أدرك معظمنا أموراً ثلاثة:

الأمر الأول: إن الاتجاه الثوري الذي تبنيناه، هو الاتجاه الأكثر تمثيلاً للأهداف التي أعلنتها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وسارت على خطى تحقيقها ثورة الرابع عشر من أكتوبر. كما أن هذا الاتجاه ذاته، هو المنسجم انسجاماً تاماً مع مضمون النظام الجمهوري، المعني بالسعي إلى تحقيق تلك الأهداف، التي أصبحت تمثل عقداً اجتماعياً، بين النظام الجمهوري، والجموع الشعبية التي قبلت بهذه الأهداف، وانضوت تحت لوائه؛ تثبت كيانه السياسي وتحميه من اعتداءات مناهضيه، المحليين والإقليميين والعالميين، وتعمل، من بعد ذلك، على تطويره حتى يتحقق مضمونه الاجتماعي كاملاً كما نصت عليه أهداف الثورة.

الأمر الثاني: ضرورة الحفاظ على هذا الاتجاه الذي نمثله، وحشد قوى الشعب من حوله؛ ففي الحفاظ عليه حفاظ على أهداف الثورة، لكونها هي المطالب الشعبية الدائمة التي يجب تحققها كاملة، ليكتمل بذلك إقامة النظام الجمهوري الديمقراطي العادل، وضرورة إفهام الجماهير أنه لما صار هذا الاتجاه مستهدفاً بدرجة أساسية، من قبل قوى دولية وإقليمية ومحلية معادية للنظام الجمهوري، فقد أطلقت عليه اتجاهاً يسارياً متطرفاً، دعت إلى التخلص منه، كمقدمة للتخلص من النظام الجمهوري ذاته، وطرح مشروع الدولة الإسلامية، بديلاً له، مستخدمة في سبيل ذلك كل وسائل التحريض، الدينية والمناطقية والقبلية، حتى وصل هذا التحريض إلى تفجر نزاع مسلح داخل الصف الجمهوري، أفضى إلى وضع أصحاب هذا الاتجاه قيد السجون المختلفة.

غير أن معظم القوى السياسية في الصف الجمهوري أدرك، بعد ذلك، حقيقة أهداف القوى المعادية للنظام الجديد، فالتفت من حوله، وصارت جموعه تطالب بالإفراج عن أصحاب هذا الاتجاه المتهم باليسارية، كون أفراده من أهم القوى التي دافعت عن الجمهورية منذ قيامها حتى انهزم أعداؤها بفك حصار السبعين يوماً عن صنعاء؛ فزج ببعض هؤلاء، المدركين هذه الحقيقة، في السجن أيضاً، مما عمق قناعة الجميع بحقيقة أهداف أعداء الثورة، الذين يريدون استئصال فعلنا الثوري من جذوره؛ فأدركنا

-تبعاً لهذا- الأمر الثاني: ما سيترتب علينا من جهود نضالية كبيرة في سبيل توحيد الصف الجمهوري أولاً، ثم استمرار النضال من أجل تثبيت النظام الجمهوري والسعي إلى تطويره حتى يتم إكسابه كامل مضامينه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من خلال إقامة وحدة اليمن السياسية، ودمج نظامي شطري اليمن في نظام سياسي واحد، يشتمل هذه المضامين كلها. وكان يجب علينا، ونحن في السجن، القبول بما يتطلبه هذا العمل النضالي من تضحيات، والاستعداد له استعداداً فكرياً تاماً.

وهذا هو الأمر الثالث، المقصود بقولي إنني سأقصر حديثي في هذه الرسالة على جانب واحد من الجوانب الإيجابية للسجن.

فقد أدركنا ضرورة الاستعداد الفكري التام لكل من أراد أن ينشغل بالهمِّ العام، وبخاصة إذا كان مثلنا يتبنى اتجاهاً سياسياً تحديثياً، يهدف إلى تحقيق وحدة الوطن اليمني، والنهوض بكيانه السياسي، ليكون عاملاً فعالاً في حركة التنمية العربية، ساعياً إلى تحقيق الوحدة العربية الكبرى التي لا نستطيع بدونها دخول العالم المعاصر وأداء دورنا الحضاري الحديث كأمة قادرة بإمكانياتها المتعددة أن تلعب هذا الدور حقيقة لا طموحاً. لذلك فقد وقف كل منا ووقفنا جميعاً في مراجعة طويلة لنوع وحجم الثقافة التي كنا نحملها إلى ذلك الوقت، وما يجب علينا إزاءها من توسيع وتعميق، حتى تصير ثقافة شاملة، تمكننا من فهم واقعنا اليمني والعربي الذي نعيشه، فهماً صحيحاً شاملاً كلَّ جوانبه التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ فكان لا بد لنا، في المرحلة الأولى، من مراجعة تامة لمحددات الثقافة السياسية التي كنا نحملها، والاتجاه الفكري الذي تبنيناه، لنكتشف في المرحلة الثانية ما هي النواحي التثقيفية والفكرية التي تنقصنا. ولمّا كان وجود الكتاب غير متوفر في السنوات الأولى من السجن، فقد بادرنا إلى تنظيم ندوات ومحاضرات كانت تنعقد في كثير من الأحيان ثلاث مرات في اليوم، صباحاً ومساءً وليلاً، يتم خلالها استعراض موقف من مواقف القوى السياسية في اليمن أو في الوطن العربي، سواء على المستوى القُطْري أم القومي. وكانت هذه الندوات أو المحاضرات كثيراً ما تتضمن طرح قضية من قضايا الفكر والأدب العربي بمختلف جوانبهما، العلمية والفلسفية والفنية. وقد ساعد على نجاح هذه الندوات والمحاضرات وأحياناً الأحاديث، أن هذا الجزء الكبير من جسد الحركة الوطنية الذي زج به في السجن تضمن -في من تضمنهم- قادة سياسيين وحزبيين وعسكريين وإداريين، وفيهم المهندس والشاعر والمدرس والقانوني والاقتصادي والمقاول والعائد من المهجر والروائي والفنان التشكيلي وغير ذلك الكثير من أصحاب التخصصات المختلفة، ومعظمهم إن لم يكن كلهم يتمتع بمستوى ثقافي رفيع، قد مارس الحياة بمختلف جوانبها، سواء منها التخصصية أم العامة، ولدى كل منهم -وبقدر متفاوت- القدرة على أن يستعرض تجربته، ويقيم تجارب غيره، استعراضاً وتقييماً موضوعيين، فاستحال السجن إلى خلايا أكاديمية وعلمية فياضة بكل نواحي العلم والمعرفة، مما حفزنا أكثر وأكثر إلى متابعة ما يجري خارج السجن من الحداث، المحلية منها والإقليمية والعربية والعالمية. وازددنا تطلعاً إلى إدخال الكتب إلى السجن، لاسيما تلك التي أدركنا ضرورة العودة إليها لمراجعتها بعد أن أثير كثير من الخلافات حول موضوعاتها، أو تلك الكتب الضرورية التي لم يتمكن بعضنا أو كلنا من الاطلاع عليها، وهي كثيرة، كثيرة تشمل جميع جوانب العلم والمعرفة، وأهمها كتب التاريخ السياسي العربي والإسلامي والعالمي، والكتب الراصدة لتاريخية التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على المستوى اليمني والعربي والإسلامي والعالمي، وكذلك كتب النقد والأدب التراثية والحديثة، فضلاً على كتب الإبداع الأدبي والفني، عربية الأصل منها والمترجمة عن الإنتاج الإبداعي العالمي. وفوق هذا كله أدركنا ضرورة الاطلاع على الميراث الإسلامي العظيم في كل جوانبه المختلفة، ومن أهمها كتب التفسير والحديث: علوماً ومتناً، وكتب المذاهب الفقهية المختلفة: أصولاً وفروعاً، بالإضافة إلى كتب أصول الدين وما أنتجه علم الكلام الإسلامي من مدارس كلامية عديدة، من أهمها مدرستي المعتزلة والأشاعرة، ومنها أيضا تلك الكتب التي ترجمها الفلاسفة العرب عن الفلسفة اليونانية والتي أنتجها هؤلاء الفلاسفة في محاولاتهم الجادة للجمع بين الحكمة والشريعة وتبيان عدم تعارضهما. وفوق ذلك كله أدرك الجميع ضرورة التزود بلغة عربية صافية؛ كونها الجسر الضروري الذي يجب أن يعبر منه المثقف إلى هذه العلوم كلها. وهذا يتطلب الحصول على كتب النحو والصرف وعلم الدلالات، بما تطور إليه من العلوم اللسانية الحديثة.

نعم كنا بحاجة إلى متابعة الأحداث في الخارج، لنظل منغمسين في الواقع الذي نعيشه. وكنا بحاجة أيضاً إلى قراءة هذا الكم المهم من الكتب، حتى ننمي ثقافتنا ومعارفنا المختلفة. وكانت حاجتنا إليهما حاجة ماسة؛ ففي الحقيقة، أننا بدون هذا الانغماس التام في الواقع، وبدون التسلح بثقافة ومعرفة: واسعتين كماً، وعميقتين نوعاً، لا نستطيع أن نقوم بالأعمال النضالية التي هيأنا أنفسنا للقيام بها في السجن أو خارجه، سعياً إلى تحقيق تلك الأهداف النبيلة التي أعلنها فعلنا الثوري على الملأ، يمنياً وعربياً وعالمياً.

فكيف أعاننا الله على هاتين المسألتين؟

الانغماس في الأحداث الجارية، والحصول على الكتب وقراءتها.

أما المسألة الأولى، أيها الأخ العزيز، فقد اعتمدنا فيها، في البداية، على الزيارات التي كان مسموحاً بها، تحت المراقبة، حيث كان يزورنا الأهل والأصدقاء وكثير منهم من المشتغلين بالشأن العام، ومن قادة الأحزاب الذين لم يطلهم السجن، أو أولئك الذين كان يفرج عنهم من بيننا تباعاً. وكنا من خلالهم نقف على معظم الأحداث خارج السجن. كما كنا نتلقى ممن لا يستطيع منهم زيارتنا رسائل تفصيلية، دساً بين المأكولات، أو نتناولها منهم خلسة أثناء الزيارة، تتحدث عن الأوضاع السياسية وسير العمل الوطني والتطورات التي طرأت عليه، وكان من أهمها تلك التحولات التي حدثت في أوساط واحد من أهم الأحزاب السياسية في اليمن، هو حزب البعث العربي الاشتراكي، وتحول رؤى كثير من كوادره باتجاه رؤيتنا، وبخاصة بعد متابعاتهم لما جرى ويجري في الساحة السياسية اليمنية، بعد فترة ما سمي بالتصالح، وهو ما أدى إلى ما ألمحت إليه سابقاً من إنشاء هذه الكوادر تنظيمات تتبنى وجهة النظر التي نتبناها. ليس هذا فحسب، بل إن معظم الكوادر التي كانت منضوية تحت أجنحة الحزب صارت تقف إلى جانبنا مواقف حاسمة، منها المطالبة، بل العمل على الإفراج عنا، كما سيتضح قريباً، كما أنه بمرور الوقت تنشَّأتْ، شيئاً فشيئاً، معرفة بيننا وبين حراس السجن خففت من قسوة قلوبهم وصلافتهم اللتين التي حرصت الإمامة على تربيتهما فيهم، فصاروا، بسبب هذه المعرفة، يتعاطفون معنا بعد اطلاعهم على حقيقة أمرنا، من خلال سلوكنا الإنساني داخل السجن وما ندعو إليه من أفكار حضارية، فقد لاحظوا ما كانت تدفعنا إليه طبيعتنا الإنسانية من العطف على ضعفاء المساجين واهتمامنا بمحو أمية الأميين منهم، ورعاية وكفاية المحتاج، وما قمنا به من تنظيف الزنزانات والحمامات والمسجد والساحات، نظافة يومية، حتى جعلناها صالحة للاستعمال الإنساني، بعد أن كانت لا تليق بالحيوانات. كذلك لاحظوا، باستغراب شديد في البداية، اهتمامنا بتنظيف مجانين السجن وإلباسهم ملابس لائقة بالإنسان، بعد أن كان معظمهم عراة، وإقامة علاقات معهم، بقدر متفاوت، وبحسب المستطاع، حتى أبرزنا كثيراً من الجوانب الإنسانية الظريفة لديهم، والتي عبّر عنها تعبيراً قصصياً فنياً وجميلاً الروائي اليمني الشهير محمد عبد الولي. ومن خلال هؤلاء الحراس استطعنا أن نحصل على بعض المطبوعات، ولكن بقدر قليل ونادر جداً، المهم في الأمر كله أننا استطعنا الحصول من خلالهم على جهاز راديو في حجم كف اليد، مصحوباً بسمّاعةٍ كاتمة للصوت، كنت أقوم غالباً بالاستماع إليه، ثم أنقل إلى الزملاء في صباح اليوم التالي الأخبار المحلية والعالمية والمواضيع الهامة التي ألتقطها أثناء الاستماع. ومن خلال ذلك كله كنا نقف على معظم الأحداث الجارية في اليمن وخارجه، فكنا ونحن في السجن منغمسين في تلك الأحداث بأكثر مما لو كنا خارجه.

أخي العزيز:

أريد هنا بمناسبة اتصالنا بالأحداث خارج السجن أن أسجل حادثة ظريفة، وأخرى غريبة. أما الأولى فهي متعلقة بجهاز الراديو، الذي كان في إهدى الليالي مع زميل من زملاء الزنزانة التي كانت تضم من اشتهروا بـ"الضباط الثمانية"، وخوفاً من مداهمة الحراس التفتيشية المفاجئة، كانت طريقتنا في الاستماع إلى جهاز الراديو أن نضعه في تجويف موجود في اللباس الداخلي يجعله مخفياً بين الفخذين، ثم نسرب السماعة من تحت الملابس لنضعها في الأذن، وهو ما اتبعه زميلنا مستمع الجهاز، فداهمنا حراس السجن يفتشوننا، فأزال الزميل السماعة من أذنه لكنه لم يستطع، بسبب المفاجأة، إخفاءها، فتدلى طرفها المسموع حتى صار بيّناً للعيان من تحت "المعوز" (الإزار) الذي كان يأتزر به الزميل، وصادف أن الذي رآه هو الحارس ذاته الذي اشتراه لنا وسربه إلينا؛ ولما كان يقف بين زملائه الحراس وهو خائف أن يفتضح أمره، هجم على زميلنا مخبئ الجهاز، فأخرجه من تحت ملابسه، وصار يمطره بأقذع الشتائم مهدداً إياه بالضرب وإضافة مزيد من القيود الحديدية إلى ساقيه ووضعه في "المطبق" (حجزٌ انفرادي)؛ وكان الحارس في هذه الأثناء ذاتها، ينظر إليَّ بعينين مذعورتين راجيتين ألاَّ أكشف أمره لزملائه، فأنا الذي دبرت معه شراء جهاز الراديو وتسريبه إلينا، فأومأت للزميل أن يحتمل ثورة الحارس المذعور، وفي ذهني خطة جديدة لتدبير جهاز بديل بواسطة الحارس نفسه، فتحمل الزميل من التعنيف والقيد ما تحمل، وسرعان ما تشفعنا له بالإحسان الخلقي والبذل المالي حتى صفح عنه مدير السجن، ثم تدبرنا جهاز راديو بديلاً من ذلك الجهاز المصادر.

أما الحادثة الغريبة فهي واحدة مما كان يصل إلينا من خلال وسائل الاتصال بالخارج، عما يبثه الأعداء من شائعات (وهم في الحقيقة أعداء للنظام الجمهوري وليسوا أعداءنا فحسب)، وهي قولهم إننا ملحدون شيوعيون ندعو إلى إشاعة أموال الناس ونسائهم وقتل كبار السن منهم، وما كان لهذا أن يصير غريباً لدينا، فقد سبقته إشاعات الإمامة، التي نسبت الكفر والشيوعية إلى كل المصلحين الدينيين في حركة 48، وهم مَن هم في المكانة الدينية فقهاً وورعاً، أقول: ما كان لهذا أن يكون غريباً لدينا لولا أن أحد الثوار الذين فجروا ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وهو أحد جيراني، طالما أحببته ثائراً، فصار

-سامحه الله- يردد هذه الإشاعات بحذافيرها، ولم أكن لأصدق أحداً لو نقلها إليَّ غير والدي رحمه الله، الذي أكد لي أن هذا الجار الثائر هو من أخبره بأنني أدعو، ضمن ما أدعو إليه، إلى قتل كبار السن، لأنهم لم يعودوا صالحين للحياة ومنهم والدي ووالدتي، لكنهما لم يصدقاه بل سفَّها قوله هذا تسفيهاً صارخاً على الأشهاد، فهما أعلم الناس كيف تغرورق عيناي بالدموع، عند مشاهدتي فعلاً غير إنساني، حتى أنني أتوارى مبتعداً عند ذبح دجاجة. إن موقف الأسرة هذا قد أكد لنا ونحن في السجن، قناعتنا القاطعة بضرورة الاهتمام بالأسرة، التي تشكل السياج الطبيعي لحماية أفراده من مثل هذه التهم الظالمة، وفي قلب هذه الأسرة المرأة، التي يجب على الثورة التركيز على النهوض بها معرفيا حتى تكون هي موئل الثورة ومنطلقها؛ ولم نكن مخطئين، في قناعتنا هذه، فقد أثبتت الفتيات اللواتي صارت الجامعات تمتلئ بالكثير منهنّ، أثبتن جدارتهن وقدرتهن على حماية المجتمع من زيغ القول والتخلف.

أما المسألة الثانية، وهي كما قلت محاولة توفير ذلك الكم المهم من الكتب، وكان أمراً مهماً جداً لؤلئك الفتية الذين آمنوا بضرورة التغيير من خلال أهداف فعلهم الثوري، سبتمبر وأكتوبر، ثم زادهم السجن هدى فهيؤوا أنفسهم للنضال، من أجل هذا التغيير، من خلال وحدة شطري وطنهم أولاً، بكونها الضمانة الحقيقية لإكساب النظام الجمهوري مضامينه الشعبية التامة. وقد ضم ذلك السجن فتياناً من جميع مناطق شطري الوطن.

أقول: أما مسألة إدخال المطبوعات إلى السجن، فقد كانت عصية، ودونها -كما يقال- خرط القتاد، لاسيما أن كثيرا من المسؤولين في السلطة آنئذ قد آمنوا إيماناً راسخاً، أن القراءة والمزيد من المعرفة هما سبب إفساد عقول هؤلاء الفتية وجعلهم يتمسكون بتلك الأهداف الثورية التي يستحيل، في نظرهم، تحقيقها ولم يستطيعوا النظر إليها إلا بكونها إعلاناً إعلامياً، أو تقليداً للخطاب الثوري الذي ساد تلك الفترة.

أخي العزيز :

إن مسألة توفير الكتب إلى السجن لها حكاية أخرى سأختم إليك هذه الرسالة بإيجازها؛ غير أني قبل ذلك أود الإشارة إشارة سريعة إلى بعض الإيجابيات الهامة التي أمكن الاستفادة منها أثناء الحياة اليومية في السجن، ومن أهمها التعرف على عديد من أمزجة البشر وطرق تفكيرهم واكتشاف مواهبهم وثقافاتهم المتعددة، وأهم من ذلك التعرف على معظم -إن لم يكن كل- مكونات وجذور العقل الجمعي اليمني. فقد كان السجن فاتحاً أبوابه أمام الناس أجمعين، إلا من أمسك بيديه السلطة السياسية أو الاجتماعية أو المالية (كان بعضهم يقع أحياناً)، فأنت ترى في السجن مختلف الشخصيات يأتون من مختلف أنحاء اليمن، ومنطقي أن يدخل إليه كثيرٌ من مرتكبي الجرائم أو المتورطين في ارتكابها؛ كما يدخل إليه أيضاً كثير من المظلومين والضعفاء الذين رمت بهم الأقدار إليه رمياً أعمى. ويدخل إليه كذلك أصحاب النزاعات المستحكمة، بمختلف أصنافها. بالإضافة إلى أن السجن كان هو المكان الذي يؤي أهم وأخطر مجانين اليمن. فأمكن من خلال ذلك كله معرفة توزع القبائل والأسر اليمنية على مناطق الوطن الجغرافية، فضلاً على العادات والتقاليد المتبعة في مختلف المناطق، الخاصة بالفلاحة ومواسمها، وأثناء الاحتفال بالأعراس والمواليد وتأبين الموتى، والأحكام القبلية الخاصة بفض النزاعات، والأغاني والرقصات الشعبية التي كان يؤديها السجناء عملياً ويتعلمها منهم غيرهم. كما تم اكتشاف الرواة الشفهيين الذين يقدرون على مواصلة القص ساعات طويلة، لأشهر عديدة، كل ذلك يؤلفونه من بنات أفكارهم. فضلاً على أنه أمكن التعرف على أهم أنماط الجرائم السائدة في اليمن، وأهم الأسباب الداعية إليها، وما هي مسببات المظالم الكثيرة التي يرتكبها الأقوياء ضد الضعفاء، لاسيما في الريف اليمني وفي الأوساط الشعبية المنتشرة في أهم المدن الرئيسية. بل أمكن التعرف على كثير من الأسباب التي تفضي بكثير من العقلاء إلى الجنون.

لقد كان لدى أكثر السجناء مهارات عديدة، حتى أن بعضهم -على سبيل المثال- قد صنع آلات الطرب، كالعود والربابة والناي، ووسائل اللعب، كالشطرنج والأوراق والدومينو، بأساليب مبتكرة لا تخطر على بالِ أحد، إلا إذا كان سجيناً؛ صنعوها من المواد المحدودة المتوفرة في السجن فحسب. وإضافة إلى ذلك فإن كثيراً من السجناء اكتشفوا إمكانياتهم الإبداعية، فصاروا ينظمون القصائد التي تتضمن أهم مآسي اليمنيين، وأحلامهم، فصارت أغانيَ يرددها الفنانون اليمنيون الكبار. وأذكر من هؤلاء على سبيل المثال الشعراء: أحمد قاسم دماج ومحمد الجنيد وعثمان أبو ماهر ومحمد العديني، ولا أنسى كذلك الفنان التشكيلي الكبير عبد الجليل السروري، والروائي محمد عبد الولي. أما قادة الأحزاب والسياسة والفكر والجيش، والمناضلون، فإن صفحات هذه الرسالة لا تتسع لذكر أمثلة منهم، لكنني أرجو من الله

-وادْعُه معي- أن يعطيني سعة من العمر تمكنني من الكتابة الضافية عن هذه التجربة الحياتية الهامة.

أخي العزيز :

أما الآن فأعود إلى ما وعدتك به في حيز سابق من هذه الرسالة، وهو إيجاز الكيفية التي أدخلنا بها الكتب إلى السجن، بعد أن كنا ننظر إلى هذا الأمر بكونه أمراً مستحيلاً. وقد تم ذلك أيضاً من خلال قصة ظريفة تضمنت هروبي من السجن الأول؛ فبعد أن أدرك كثير ممن يمثلون الاتجاهات الجمهورية المختلفة، ومنهم معظم أجنحة حزب البعث ومعظم قيادات ثورة سبتمبر، الذين مازالوا إلى ذلك الوقت يحتلون مراكز هامة في الدولة، ومنهم على وجه التحديد وزير الداخلية حينها الأخ المناضل أحمد الرحومي، ونائبه الأخ المناضل محمد الخاوي، وكثير غيرهما، ممن كان يضمهم اتجاه جمهوري عريض، أدركوا أن الهجمة العسكرية التي نفذت في أغسطس كانت قد دبرت خارج اليمن، وأنها لم تكن هجمة على يسار متطرف، قدر ما كانت بداية هجمات متسلسلة، تريدها قوى محلية وإقليمية ودولية معادية للثورة، كان الغرض منها هو القضاء على النظام الجمهوري ذاته، أو على الأقل إفراغه من محتواه الشعبي إفراغاً تاماً، من خلال تصفية اتجاهاته المختلفة، ابتداء من يساره وحتى أقصى يمينه، إن كان له يسار ويمين. فحين أدرك هؤلاء الإخوة هذه الحقيقة، صاروا يضغطون باتجاه إطلاق سراح المساجين من قلعة صنعاء، غير أن القيادة السياسية، التي تمخضت عنها آنذاك مصالحة الحكومة مع الطرف المناوئ للجمهورية، ظلت تقاوم هذه الضغوط، لكن ضغوط الاتجاهات الجمهورية المختلفة استمرت متزايدة ومتنامية مع الأيام، معلنة أن من غير العدل أن يتولى العائدون، من الطرف الآخر، مواقع مهمة في النظام الجمهوري، في الوقت الذي يبقى أهم المدافعين عنه نزلاء السجون. فاستجاب رأس الدولة لهذه الضغوط ووافق على إطلاق سراح بعض القادة السياسيين المدنيين تباعاً. أما العسكريون فقد ازداد التشدد عليهم، وبخاصة من قبل قيادة الجيش. وبسبب هذا التشدد لم يجرؤ أحدٌ على إطلاق أي من الضباط المسجونين. واختراقاً لهذا الحاجز قرر وزير الداخلية ونائبه أن يحضرا بقية السجناء، واحداً تلو الآخر، إلى الوزارة بحُجّة التحقيق معهم، على أن يتم إطلاق كل من لم يثبت عليه شيء. وكنت أول المطلوبين للتحقيق معي، فأثار ذلك غضب القيادة العسكرية، وأُمر بإعادتي إلى سجن القلعة، لكن وزير الداخلية ونائبه أحضراني، على وجه السرعة، إلى مكتب الوزير، وأفهماني أنهما كانا بصدد تنفيذ خطة إطلاق كل المعتقلين من الإخوة العسكريين، ومن تبقى من المدنيين، لكنهما تلقيا من القيادة العسكرية أمراً حاسماً بالتوقف عن طلب الضباط، وإعادتي إلى القلعة، وأنهما في حرج من أمرهما، فهما لا يستطيعان مخالفة الأوامر العسكرية، ويكرهان إعادتي إلى السجن مجدداً، فبادرت بالقول إني، بسبب الاعتقال الطويل، صرت أعاني من عدة أمراض يلزم معها إرسالي إلى المستشفى للمعاينة وتقرير العلاج اللازم، وليس لديَّ مانع، بعد ذلك، من العودة إلى السجن رفعاً لهذا الإحراج الذي وقعا فيه. فوافقا على طلبي فوراً، وأمرا بإرسالي إلى المستشفى، تحت حراسة غير مشددة أتيح لي معها الهرب والاختفاء في المنزل فترة يسيرة، ثم ظهرت لأجد أن الأجهزة الأمنية لم تعد تلاحقني، وكان أول عمل أقوم به بعد ذلك أن سافرت إلى تعز لمقابلة رئيس المجلس الجمهوري، الذي كان يقضي معظم أوقاته هناك؛ سافرت لغرض مراجعته من أجل إطلاق من تبقى من الزملاء في السجن. وفي تعز كنت قد ذهبت أولاً إلى رئيس الأمن الداخلي السابق، الأخ سلطان القرشي، الذي صار وزيراً للتموين، وأخذت منه مذكرة مرفوعة إلى رئيس المجلس الجمهوري، يخطّئ فيها اعتقالنا من الأصل، ويستنكر استنكاراً شديداً، بقاء من بقي في السجن، لاسيما وقد تمت المصالحة مع الملكيين وصاروا يحتلون مراكزَ هامةً في الدولة. وحين عرضتها على رئيس المجلس، لاحظت أنه بسبب هذا الإحراج الذي أوقعته فيه المذكرة، قد اشتطَّ غيظاً، وغضب على صاحبها غضباً شديداً، فأدركت أنني سأعود بخفي حنين، فحولت موضوع حديثي إليه، وصرت أعرض عليه أحوال المساجين السيئة، وأنه لا يجوز أن يصير السجن في عهد النظام الجمهوري أسوأ مما كان عليه في عهد الإمامة، فكيف يصح الآن -على سبيل المثال- أن تُمنع المطبوعات عن السجناء، وقد كان سجن حَجَّة الذي كان هو أحد نزلائه، مركزاً للتدريس والقراءة، ومنبراً للعلم، وقد تخرج منه كثير من المثقفين الوطنيين!؟ فما كان منه إلا أن أصدر أمراً كتابياً إلى وزارة الداخلية يقضي بأن تسمح للسجناء أن يدخلوا المطبوعات إلى سجونهم. فعدت إلى صنعاء فرحاً بما معي، ومضيت في استكمال الإجراءات الرسمية من أجل إدخال المطبوعات للإخوة الباقين في السجن. والغريب أن بعض الضباط، وكانوا من الحاملين ثقافة ملكية متخلفة، كادوا أن يرفضوا تنفيذ هذا الأمر، لولا أن وقف وزير الداخلية ونائبه موقفاً حاسماً وأمرا إدارة السجون بتنفيذه على الفور. وبعد أخذ ورد، في إدارة السجون، تمت الموافقة من كل الجهات على دخول المطبوعات إلى سجون اليمن كافة. فمضيت إلى القلعة ومعي مجموعة كثيرة من الكتب، وأقنعت مدير السجن بما تيسر من البشاشة والمال، فأدخلها، ولكني فوجئت بما أذهلني حقيقة؛ إذ وجدت الأخ سلطان القرشي قد زُجَّ به في السجن بأمر من القيادة السياسية آنذاك، فأدركنا أن تلك المذكرة التي حرر فيها شهادته الوطنية حول السجناء، كانت هي السبب الرئيس -إن لم يكن الوحيد- وراء اعتقاله. كما أدركنا أن وضعه المتعمد بين هؤلاء السجناء، رغم أنه واحد ممن سعوا إلى اعتقالهم، ما كان إلا نكاية به، غير أن الذين أرادوا النكاية به لم يدركوا أن الحركة الوطنية صارت الآن أنضج مما يظنون، ولم يعد هؤلاء قادرين على إيقاع العداوات بين صفوفها، لاسيما أننا قد تابعنا جميعاً التغييرات السياسية التي أفضت إلى هذه المواقف الوطنية النقية لكثير من اتجاهات الجانب الجمهوري، ومنهم سلطان القرشي ذاته، وهو الأمر الذي جعل الإخوة السجناء في القلعة يستقبلونه استقبال أحد المناضلين الأبطال.

أخي العزيز:

من بعد هذا اليوم، الذي تحقق لنا فيه إدخال الكتب إلى السجن، أمكن تزويد الإخوة السجناء بالكتب المختلفة، ابتداء من كتب التراث، وانتهاء إلى أحدث كتب العصر، في كل مجالات العلم والمعرفة، وعلى رأسها تلك الكتب الخاصة بالمواضيع التي مررت على ذكرها في هذه الرسالة، والتي أفادوا منها فائدة كبيرة في سد كثير من الفراغات الثقافية والمعرفية التي أحسسنا بها خلال كل الندوات والمحاضرات والأحاديث التي جرت فيما بيننا خلال سنوات السجن الطويلة. وأما بالنسبة إليَّ فأظن، أيها الأخ العزيز، أنني قد أفدت من دخول المطبوعات إلى السجن أكثر من الزملاء، غيري، الذين لم يترددوا بعد ذلك -مثلي- على السجن مرات عديدة؛ فحين دخلت إلى السجن المرة التالية، كنت قد التحقت قبلها بكلية الشريعة والقانون، وصرت منتظماً في السنة الثانية. ومن حسن حظي أن علاقتي بحراس ومسؤولي السجن قد أصبحت -مع طول المعرفة- طيبة، وبسببها فقد أسكنوني غرفة منفردة، في السجن، تطل على كل ساحاته وزنزاناته، هي في الأصل مخصصة للحراسة أو للسجناء المميزين، فأحلت هذه الغرفة إلى مكتبة زاخرة بالكتب، التي كان يزودني بها الأصدقاء والزملاء، وكان على رأسهم مفتي الجمهورية الشيخ الجليل أحمد زبارة، والقاضي الفاضل عبد الوهاب السماوي، رحمهما الله تعالى. وقد أنجزت في هذه الفترة، التي استمرت سنة على وجه التقريب، استظهار القرآن الكريم، وقراءة أمهات كتب التفسير، وكتب الفقه، أصولاً وفروعاً، وكتب اللغة والتراث الأدبي والنقدي، وأمهات كتب الفلسفة منذ طفولتها اليونانية حتى اشتداد عودها في العصر الحديث، مروراً بالإسهامات العربية والإسلامية في مجالها. وقد قمت بتدريس النحو والصرف، لمن أراد من السجناء المثقفين، معتمداً على ألفيةِ ابن مالك وشروحها، وعلى كتب ابن هشام الأنصاري. كما قمت بقراءة علم أصول الفقه وتفسير القرآن المجيد لمن كان له معرفة فيهما، معتمداً في الأول على كتاب "غاية السؤول في علم الأصول"، وفي الثاني على كتاب "الكشاف" لعالم المعتزلة الشهير جار الله الزمخشري. وقرأت لهم كتاب مقدمة بن خلدون؛ هذا الكتاب الذي استوقفنا كثيراً أمام ملاحظات كاتبه الفذة، حول قوانين سير التاريخ وماهية الأصول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية التي تتحكم في طرق سيرها. كما قمنا بقراءة إنتاج الفيلسوف الألماني العظيم هيجل، وكثير من إنتاج الفلاسفة الحديثين الذين صدروا عن فلسفته، وأنشؤوا تفرعاتها المعاصرة المتعددة. وأستطيع القول -يا أخي العزيز- إن هذه السنة التي قضيتها في سجني الثاني كانت هي فاتحة مسيرة حياتي الثقافية والمعرفية، سواء في فترات السجن التي تتالت، أم خارجه، والتي مازلت راحلاً فيها حتى الآن، وهي الرحلة التي أدركت من خلالها، وما زلت وسأظل أدرك، مدى سعة جهلي هذا الذي لن ينقضي إلا قليلاً منه، بمزيد من القراءة وتتبع العلم والمعرفة في كل المظان التي تعددت وتنوعت واتسعت وتعمقت، لاسيما بعد تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، وأبرزها شبكة الإنترنت، التي صرت أتابعها بشغف رغم أنها لم تستطع بكل عظمتها أن تتجاوز الكتاب والمجلة والصحيفة، التي نجد فيها زادنا الإنساني الوفير. فادْعُ لي يا صديقي العزيز أن يزودني الله بكثير من الصبر والقوة حتى أتمكن من تحصيل هذا الزاد الإنساني، وأن يجعله ويجعلني خالصين لوجه الله والوطن والثورة.

وفي الختام أريد أن أهمس في أذنيك أمراً غير قابل للتداول، وهو أني لاحظت خلال السجون المتعددة أن كثيراً من النشاطات السياسية والحزبية لم تنقطع أثناءه، بل كانت تمارس في السجن أكثر مما تمارس خارجه، وكان السجن يشكل مصدراً لتخريج كثير من السياسيين والمناضلين المزودين بالثقافة والمعرفة الواسعتين. وأظن أن هذا هو شأن السجون عبر التاريخ. ولو علم الحكام بهذا الدور الذي يقوم به السجن، لكرهوا أن يكون لهم سجناء فكر أو سياسة.

وأخيراً، وليس آخر القول فيما بيننا، أزف إليك عظيم تمنياتي على الله أن يمنحك مزيداً من التقدم والنجاح في مشروعك الأدبي التحديثي المستمر، خدمة للوطن والأجيال الآتية. وعليك منه تعالى جزيل السلام، وشامل الرحمة، وعظيم البركة، ثم دُمْ، لأخيك وصديقك، أخاً عزيزاً وصديقاً وفياً.


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى