غادة هيكل - عين النّــار...

النار التي تجلس أمامها بالساعات، تولـج فيها عيدان الحطــب كلما خبت، هي مورد رزقها الوحيـد، عين النار تلهب جسدها، تترك آثار اللهيب على جلدهـا، ولكنها لا تشعـر به، تعــود إلى بيتهـا.. تغـتسل فتشعر بحرارة اللهب. تبحث عـــن بعض "النشاء" تضعه في بعض الماء، وتحركـــه بيدهــا حتى يــذوب، وبرفــق تُـمرِّره على جلدهـــا الملتهب. وفي آخر الليل عندما تضع رأسها المنهــك على وسادتها، تقرأ آيات قرآنها التي حفظته بالكُتّاب صغيرة، تعلــو شفتها ابتسامة تعقبها ضمة حاجبيها، ووجــــع على كـف يدهـا اليمنـى، مـن مسـك أداة الخبيز، وتحريكها للخبز دخولا الى النار وخروجا منها، ولكنها تذكرت عصا الشيخ الذي يضربها لسوء حفظهــا، تهمس لنفسها لم يكن رحيما بي لأن أمي أوصته بذلك، ظنا منها أن هـذا هـو السبيل الى تغيير مسار حياتي. التعليم سوف يجعلني بعيــدة عـن النـار التي تجلس أمامها بالساعات.. تغمغم، كان عندها حـق، نــار الشيخ التي ألهبت جلدي الصغير، جعلتني أتمردُّ عليـه وأرفض الحفظ والدرس، ولكني كنت سعيدة بنار الفرن التي اعتدت الجلوس أمامها مع أمي، تأخذني كي أعاونها في بيوت الأغنياء، أناولها عيدان الحطـــب، ثم أصبحت أناولها قطع العجين، ورويـدًا رويـدًا تعلمـت كيــــف أجلـس أمام الفرن. كنت سعيدة بلون الخبز المائل للحمرة وهــو يخرج مـن الفرن مبتسما، فأضحك له. تسألني أمي لماذا تضحكين؟ أقول لها: كلما ابتسمت للخبز استدار وتلوّن بهذا اللــون الاحمر، وكلما علــت النار نضج أسرع، كانت أمي تنظــر لي نظرة شفقة من القـادم الذي لا أعرفه وتقول: "ربنا يخبز لك العيش". الآن عرفت معنى عبارتها كلما تأخر علي زبائني، ولكني ما زلت أبتسم للخبز الطازج، ولعـين النار كلما علت وازداد لهيبها..
أنظر اليها من زاوية الخير الذي تجلبه علي. يعاودها الألم في جسدها.. تترك رأسها على الوسادة..
تغمض عيونها المثبتة على السقف.. وشـــفتاها تغمغم بآيات القرآن.

- فـــــــلاش بــاك...
لكل منا ذكريات من الماضي يعود إليها في وقـت مــا، وقد تسبب له بسمة فوق الشـفاة أو غصة في الحلـق. تجلس على المقعـد المقابل للرصيف منهكة من التعب، تشعر بحركة غريبة تحت المقعد، تنـظر وتمد يـــدها تلتقـط لفافـة يتحــــرك ما بداخلها، تفتحها فإذا به طفـل ينبض بالحياة تعلوه ابتسامة، تحملق فــيه جيـدا ثم تُـردِّد "لقيطة!" وتسرح في دنياها.

اللقطـــة الأولـــى...
أول مرة سمعتْ فيها هذه الكلمة، لم يكــن عمـرهـا يتعـدى الخامسة عشرة، تقف أمام المرآة، ترى عروسًـا مكتملــــة الأنوثــة، جسـدها الفوار.. ومن خلف الباب تسمع كلمة "لقيطة"، ومـع تعالــي صوت الموسيقـا لم تلق لها بالا.
حملها بين يديه القويتين، واختلــى بها، لم تـــر فيـه سـوى شارب، وعضو بارز يخترقها ليمزقها، ويتركها تــنزف بين الحياة والموت، وبعد النجاة بمعجـــزة من الله لم تفــــرح بها، عادت الى بيـت أهلها فوجدته موصدًا. سألت الجيران فقيل لها: إنهم باعوا البيت وسافروا، وهنـــا أدركـت لأول مرة ما سمعته وأهملته، لقد كانت من ضمن الأشياء المباعة.

اللقـطـــة الثـانـيـة...
تعبت من المسير، جلست على أول مـــقعـد، فـتشـت في جيوبها عن نقـود لتشتري طعاما فلم تجد. قرصها الجــوع، تكومت على المقعـد الخالي، الليل والوحدة والجوع وصــدى لقيطة، أخرجها كـف يربِّـت على ذراعها، أمسكها وسارت معه صامتة، شـــقة وســــرير وطعام وملبس ورجل خالٍ من الرحمة، شاذ الطلبـات، تسوقــه رغباتـه في الليل والنهار، وأمـــوال تُرمـى تحت قدميها تجمعها ليـوم الهـروب، صبرٌ انتهـى بمخلـب انغـرس فيها، ونزيف آخــــر ومعجــزة أخرى، وشارع تسير فيه بلا وجهة ولا أمـــل.

لقـطـــــة ثالثــــة...
على سـور الكورنيش، والوقـــت يقــترب من المغـيب، والليل يسدل ستائره، تتحسس نقــودها، وتفكــر في وجهتهـا، تجلس على أقـرب مقعد، حركة تلامس قدميها أسفل المقعد.. تنظر، تجــد لفافـة، تفتحها.. تنظـــر إلى أجمـل عينين رأتهما.. وابتسامة تنير ظـــــلام الليــــل..ووجـه ملائــكي لطفـــل وليــــد.. وفلاش باك لكلمة واحدة.. تحملها وتغـادر "لقيطة".



غادة هيكل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى