رسالة من د. علي الحضرمي إلى د. عبد العزيز المقالح

- رسالة من د. علي الحضرمي إلى د. عبد العزيز المقالح

العزيز الأعز
الدكتور عبد العزيز المقالح..

ثمة من الأحلام ما يذبل وتنطفئ شعلته دون أن يلامس أرض الواقع. وثمة منها -وهو قليل، بل يكاد يكون نادراً- ما يجد مدى يتوهج فيه بوصفه حقيقة لها أثرها في توجيه مسار المرء في علاقته بالحياة على اختلاف وجوهها.

عند هذه النقطة يتحوّل الحلم إلى بذرة حيّة تقتضي من صاحبها أعباءً جمّة كي تعطي ثمارها وكي تستمر في العطاء. هكذا كان حلمي بالدراسة في باريس، وهكذا كان شعوري إزاء تحقق هذا الحلم.

لقد حصلت على البذرة، فإلى أي مدى -وهذا هو الأهم- سيكون بمقدوري الوفاء بأعبائها كي تعطي ثمارها؟

وقد كانت رعايتكم الكريمة، التي رافقت هذا الحلم منذ نشأته، ولا تزال، بمثابة الهواء والماء الذي تحتاجه البذرة كي تتشكل وتنمو وتعطي ثمارها.

فهل سيكون بمقدوري الوفاء بحق هذه الرعاية؟

لعلكم تتذكرون أن رحلتي إلى فرنسا لم تكن لتتخطى الصعاب والعقبات التي واجهتها منذ البداية لولا جهودكم الحثيثة والمخلصة. فمنذ البداية كان أمر الابتعاث مشروطاً بحصولي على إفادة بقبول الإشراف على الأطروحة التي أنوي إنجازها من أحد الأساتذة المعتمدين للإشراف على الرسائل العلمية في الجامعات الفرنسية، وأنَّى ذلك لطالب لا تصله بفرنسا سوى بضع دورات في اللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي بصنعاء، وهي دورات قصيرة لا تكاد مدة الدراسة الفعلية فيها تصل إلى مائة ساعة؛ لولا أن هذا الشرط جاء مشفوعاً بمنحة قصيرة مدتها ثلاثة أشهر لرفع مستوى التحصيل اللغوي في مدينة "بيزانصو" الفرنسية.

وهنا جاء اقتراحكم الذي كان بمثابة الخطوة الناجعة لمجاوزة عقبة الحصول على قبول، وهو اغتنام فرصة السفر بموجب هذه المنحة ومقابلة كلٍ من الأستاذ جمال بن الشيخ، والأستاذ ميشيل باربو الذي أرشدنا إليه صديقنا العزيز الدكتور عبدالملك مرتاض، والحديث معهم بشأن هذه المسألة.

وكان أن اتجهت إلى "بيزانصو" عبر باريس في منتصف شهر نوفمبر 2006، حاملاً خطابيكم إلى كل من الأستاذ ابن الشيخ، والأستاذ باربو.

مكثت في "بيزانصو" قرابة شهرين تخللتها إجازة الاحتفال بعيد رأس السنة. ومع ما حققته من تقدم في مجال دراسة اللغة، فقد كنت مسكوناً بقلق شديد إزاء مسألة الحصول على قبول الإشراف، فلم يكن لديَّ سوى مصدرين للأمل: أولهما الأستاذ ميشيل باربو، وثانيهما الأستاذ جمال بن الشيخ.

اتجهت بدايةً إلى الأستاذ باربو حاملاً إليه رسالتكم ومعها رسالة من الدكتور مرتاض، وأخرى من الأستاذ سليمان العيسى الذي كان على معرفة به من أيام دراسته (أي باربو) في دمشق.

غير أن باربو أفاد بأن أمور القبول تناقش رسمياً ابتداءً من شهر يونيو، مبدياً استعداده لمناقشة الأمر مع أحد زملائه في القسم وإبلاغي بالنتيجة عبر البريد على عنواني في "بيزانصو"؛ فلم يبقَ أمامي سوى أمل واحد هو الأستاذ ابن الشيخ. وما أن بدأ العمل في المدارس والجامعات إثر عطلة رأس السنة حتى اتجهت إلى باريس لمقابلته.

كنت قد احتفظت بعنوان الفندق الذي أنزلني فيه مكتب الخدمات الطلابية في باريس عند مجيئي إلى "بيزانصو"، فاتصلت بهم للحجز عبر التليفون، ولسوء الحظ حينها لم يكن لديهم غرف شاغرة، لكنهم أبدوا استعدادهم لحجز غرفة لي في أحد الفروع التابعة لهم في مكان آخر من باريس، وكان أن قبلت مع أنني لا أعرف المكان الذي يقع فيه هذا الفرع.

وقد تبين لي عند وصولي إلى باريس أنه يقع في الطرف الشرقي على مسافة بعيدة من قلب المدينة حيث تقع جامعة "السوربون".

كان الوقت عصراً حين وصلت إلى الفندق. وما إن وضعت أمتعتي حتى اتجهت إلى الحي اللاتيني لتحديد مكان الجامعة حتى يسهل عليّ الوصول إليها في اليوم التالي. استغرق مني ذلك وقتاً طويلاً، إذ أن خبرتي باستخدام خريطة المترو الذي يعد الوسيلة الأسرع للتنقل في باريس كانت بسيطة حينها.

بعد أن وصلت إلى محيط الجامعة أخذت أدوّن أسماء الشوارع ولافتات المحلات التجارية الواقعة بين الجامعة ومحطة المترو القريبة منها والاهتداء بها في الوصول إلى الجامعة.

في اليوم التالي كنت في الساعة التاسعة والنصف في جامعة "السوربون" حيث وجدت من دلّني على مكتب الدراسات العربية الذي يتواجد فيه الأستاذ ابن الشيخ. حينها تنفست الصعداء. عرّفته بنفسي مقدماً إليه خطابكم. وما إن قرأه حتى تفهّم المسألة وأعطاني موعداً في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي حيث سيكون لديه الوقت الكافي للحوار معي حول موضوع الأطروحة.

وبدافع الحرص ومراعاة الدقة في الوعد قررت تغيير مكان إقامتي وخرجت أبحث عن فندق في منطقة الحي اللاتيني ليكون قريباً من الجامعة.

ومن جميل ما أتذكره أنني وجدت غرفة شاغرة في فندق صغير يقع في الواجهة المقابلة للجامعة.

كان الفندق -على بساطته- جميلاً، يوحي بأجواء الأماكن التي نجدها في الروايات الكلاسيكية. وكانت تديره سيدتان على قدر غير يسير من الأناقة واللياقة.

أعطتني إحداهما مفتاح الغرفة التي تقع في الدور الخامس وهو الدور الأخير، فإذا بي أجد نفسي في غرفة سقفها محدّب، أثاثها معمول على الطراز الكلاسيكي الجميل، حيث تبدو كل قطعة منها وكأنها تحفة فنية. بالإضافة إلى ذلك كانت الغرفة تطل على واجهة الجامعة. مما يجعلها تبدو وكأنها جزء من مبنى الجامعة نفسها.

أمضيت بقية النهار ومطلع المساء في منطقة الحي اللاتيني ما بين ضفة نهر "السين" وجادة "سان ميشيل"، حيث تتخذ الحياة صوراً شتى من الجمال والفتنة والسحر، فالطبيعي والإنساني في حال تمازج حيوي حر ينبض فيه قلب الحياة مشعاً بتوهجات الروح الكلية الكامنة في أعماق كل جزيء من جزيئات المشهد الكبير: النهر والسماء والشجر والحمام الأبيض الذي يحط على أكتاف رواد المكان أمام كاتدرائية "نوتردام" حيث يتوافد الحشود من مختلف جنسيات العالم.

حركات العروض الفنية ما بين رقص وحركات بهلوانية يطلق فيها الفنانون وأصحاب المواهب من أفراد وجماعات العنان لمهاراتهم المتنوعة.

الرصيف الطويل الممتد بمحاذاة النهر من باعة الكتب والأعمال الفنية النادرة. وثمة ما يقابلها من الشوارع المتنوعة من جادة "سان ميشيل"، حيث يقف العديد من هواة الفن التشكيلي على رسم لوحاتهم الفنية التي تتنوع وتختلف من فنان إلى آخر، فيتفرد كل فنان بنمط خاص يختلف في أسلوبه وأدواته وألوانه عن غيره من الفنانين، فمن يرسم على الورق ومن يرسم على أرض الرصيف مباشرة.

وثمة واجهات المحلات التجارية على اختلاف تشكيلاتها وأكثرها حظاً من الجمال تلك التي تعرض التحف الفنية وأعمال «القص» (الجبس) والعقيق والمرجان منظومة ومتناثرة بأشكال بديعة وألوان زاهية. وثمة المباني المشرفة على كل هذا بجمال عمارتها المزخرفة بالتماثيل والنقوش ذات الطابع الكلاسيكي.

ومع أنني من ذوي الولع الشديد بتأمل الأشياء والمناظر والمشاهد الفنية وملاحظة ما توحي به من معاني القيمة الجمالية، فإن الكثير من المشاهد التي عشت معها يومذاك لم تكن لتأخذ مني كل ما تستحق من الاهتمام والتأمل؛ لقد كنت أمرّ بها مثل من يطالع فهرس كتاب سيقرؤه بإمعان في وقت لاحق.

كان ذهني حينها مشدوداً برباط خفي إلى موعدي في اليوم التالي مع جمال بن الشيخ، وما سيفضي إليه اللقاء بشأن إمكان قبوله الإشراف على الإطروحة.

لذا كان عليّ أن أعود إلى الفندق في وقت مبكر وكسب الوقت في مراجعة بعض القضايا التي يفترض أن تكون موضع تركيز في مناقشة موضوع الأطروحة مع ابن الشيخ. وكان حرصي الكبير على مراعاة الدقة بشأن هذا الموعد قد تحول لديّ إلى ما يشبه الهاجس المقلق.

وبدافع من هذا الحرص كنت قبل خروجي للنزهة قد سألت إحدى السيدتين القائمتين على أمر الاستقبال في الفندق إذا كان بالإمكان إيقاظي عند السابعة من صباح اليوم التالي، فردّتْ بالإيجاب عن طيب خاطر، ذلك مع أنني قد اصطحبت معي ساعة بمنبه.

حال عودتي إلى الفندق بدت لي الغرفة من إطلالتها على واجهة الجامعة وفي ما تحتويه من أثاث معمول ومرتب على نحو من الحس الفني الرفيع والرصين، وكأنها جزء من الجامعة نفسها.

لم يكد يمر أكثر من ثلث الساعة حتى سمعت رنة ساعة معلنة الوقت. ظل ذلك الصوت يتردد في مسمعي عند رأس كل ساعة ومنتصفها. إنها ساعة "السوربون" تجرح الصمت والظلام وكأن أصداء مئات السنين من العلوم والمعارف والفنون والآداب تتردد عبر دقاتها.

أنجزت ما رأيته ذا أهمية لمواجهة موعد الغد، وأسلمت نفسي وعياً وشعوراً وخيالاً للسفر مع دقات الساعة في فضاء العبقريات التي تنفست خلف جدران "السوربون": ديكارت، باسكال، فولتير، كابانس، روسو، باسله، برجسون، سارتر، رولان بارت.

استيقظت عند الساعة السادسة والنصف صباحاً للصلاة والاستعداد لليوم الجديد. ومع السابعة تماماً سمعت صوت إحدى السيدتين القائمتين على شؤون الفندق تنادي: صباح الخير سيدي! إنها الساعة السابعة. شكرتها مبتهجاً، وبقيت في الغرفة متشياً برائحة الصباح حتى انقشع الظلام. ومع الساعة التاسعة كنت في مكتب الأستاذ ابن الشيخ، وقد منحني من الاهتمام ما أتاح لي عرض القضايا التي تسعى الرسالة، إلى معالجتها؛ لقد وجدت نفسي في حضرة عالم جليل يتمتع بجدية صارمة وقلب ودود. وما أن فرغت من حديثي حتى بعث فيّ روح الطمأنينة. وكان أكثر ما استأثر باهتمامه من بين القضايا التي عرضتها جانب التصوف في الشعر العربي المعاصر، فأسدى حديثاً غنياً بمعرفة دقيقة في هذا الجانب مع ذكر أسماء بعض الشعراء ذوي الصلة بهذه المسألة. وقد علق في ذهني من الأسماء التي ذكرها اسم الشاعر التونسي محمد الغزي.

على إثر ذلك طلب من سكرتيرة القسم الذي يرأسه تحرير إفادة بقبوله الإشراف على الأطروحة بعد استكمال دروس اللغة الفرنسية.

تسلمت القبول بمشاعر متأججة. لقد حصلت على مفتاح العالم الجديد.

وللتو عدت إلى "بيزانصو" لا ألوي على شيء سوى إرسال نسخة من القبول عبر الفاكس إلى السيد نيلسون، الملحق التعليمي بالسفارة الفرنسية في صنعاء، والاستعداد للعودة إلى اليمن لحزم حقائب الرحلة الكبرى.

كان المفترض بحسب التفاهم مع السيد نيلسون أن يتم ابتعاثي في حال الحصول على القبول مع بداية إبريل 1997، لمواصلة دروس اللغة الفرنسية حتى سبتمبر من العام نفسه، موعد التسجيل في الجامعات؛ غير أن الأمر جرى على نحو آخر من الترتيب: لقد أجّل الفرنسيون موعد السفر حتى بداية سبتمبر، وهو الوقت الذي سيكون فيه ابن الشيخ قد ترك التدريس إلى التقاعد.

وبسعيكم الحميد تم التواصل مع ابن الشيخ عبر الأستاذ فيصل جلول، والدكتور مصطفى عبود لشرح متغيرات الأمور، كان أن أثمرت هذه المساعي تفاهم ابن الشيخ مع الدكتور بطرس حلّاق المحاضر بجامعة "السوربون" باريس(3) على انتقال أمر الإشراف إلى الدكتور حلاّق الذي أرسل إفادة القبول الرسمية، وبها تواصلت إجراءات الموافقة على السفر من قبل الإدارة الفرنسية. ومع منتصف سبتمبر 1997 عدت إلى "السوربون" للتسجيل تحت إشراف الدكتور حلاّق الذي غمرني بجميل رعايته ورفيع أخلاقه العذبة وجم تواضعه، فلم يبخل بكل جهد في سبيل الموافقة على تفرغي لاستكمال دروس اللغة على مدى ستة عشر شهراً: تسعة أشهر منها في مدينة "فيشي" والبقية في معهد "السوربون" بباريس.

كانت فترة التأهيل اللغوي غنية بما لم يكن في الحسبان: لقد أُتيح لي فيها ما لم يكن ليتاح لي في فترة إنجاز الأطروحة، من الانفتاح على مختلف وجوه الحياة في فرنسا فكرياً وفنياً واجتماعياً، وكسبت فيها أصدقاء من مختلف جنسيات العالم.

حقاً لقد نالني فيها الخير الكثير.

وحين ودعت هذه المرحلة، وعزمت على الشروع في إعداد الأطروحة فوجئت بأن ثمة نظاماً يقتضي سنة دراسية يتم فيها الحصول على دبلوم دارسات معمقة قبل الشروع في عمل الأطروحة.

ولما كنت قد التقيت من قبل بالأستاذ "ميشيل باربو" الذي كان للدكتور عبد الملك مرتاض فضل إرشاردي إليه، وكان لكم فضل مخاطبته بأكثر من رسالة تؤكد حرصكم على إقامة آصرة تواصل بينه وبين جامعة صنعاء من خلال مشاركته في دعم مشروعي للدكتوراه، فقد جاءت ثمرة هذه الجهود في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إليها.

لقد رأى الأستاذ باربو ضرورة إعفائي من هذه السنة الدراسية، كونها لا تضيف إلى مجال دراستي أية فائدة تذكر. غير أنه لم يكن ليمتلك المبرر القوي لطرح موقفه هذا والدفاع عنه، كونه ليس مشرفاً رئيساً على الأطروحة التي أسعى إلى إنجازها.

الأمر الذي اقتضى التفاهم مع الدكتور حلاّق على انتقال أمر الإشراف إلى الأستاذ باربو الذي تمتلك كلمته قوة تدعمها عشرون سنة من خبرة الإشراف على رسائل الدكتوراه في "السوربون"، ومثلها في "ستراسبورغ".

وكان موقف الدكتور حلاَّق إزاء هذه المسألة نبيلاً ومتسامياً. عندها تقدم الأستاذ باربو بوصفه مشرفاً رئيساً على الأطروحة بطلب إعفائي من السنة التمهيدية، مبرراً ذلك برسالة الماجستير التي أنجزتها في اليمن وبالبحوث الأدبية التي كنت قد نشرتها في مجلات عربية.

وكان أن أُعفيت من هذه السنة وشرعت في إنجاز الأطروحة.

مع الشروع في إعداد الأطروحة، صارت المكتبات هي المكان الرئيس لنشاطي العلمي المتمثل في جمع المادة ومن ثم الكتابة. بالإضافة إلى حضور بعض السيمنارات ومناقشات الرسائل العلمية وبعض ما له صلة بالأدب من المحاضرات التي كان يلقيها بعض الباحثين الوافدين إلى السوربون من جامعات أخرى وأحياناً من بلدان أخرى.

ومما كان له أهمية بالغة في اكتسابي خبرة الحوار والمناقشة العلمية تلك الحلقات التي تقام سنوياً في باريس وكذلك في "ستراسبورغ" بين طلاب الدراسات العليا وبخاصة طلاب الدكتوراه، حيث يقوم كل طالب بتقديم عرض لقضية ذات صلة بموضوع دراسته ويقوم الآخرون بمناقشته على نحو من الحوار العلمي الذي يعزز قدرة الطالب في هذا المجال.

وتمضي الأيام حافلة بالكثير من التجارب التي تثريها صورة الحياة في باريس بما لا يقل أهمية عن التحصيل العلمي.

كانت تجربة الدراسة في باريس من أهم التجارب التي منحتني قدراً كبيراً من القدرة على وعي الذات في تحررها من علائق الحياة الاجتماعية التي تضعنا فيها علاقاتنا بالآخر على نحو يحجب عنا شعاع الروح الذي يمكن أن يوقظ في أعماقنا الكثير من الأشياء والأحداث التي تصادفنا أو نمرّ بها في علاقتنا بالعالم الخارجي.

قد يتوفر لك نعيم الحياة في بيتك مع أهلك وبين جيرانك ومحيطك الاجتماعي الذي تصلك به الكثير من أواصر القربى والصداقة والمنافع المشتركة. غير أن هذا النعيم يقتضي منك الكثير؛ إذ يسلبك الشعور بما يستقر في قلبك والوفاء لما تشعر به من معانٍ جديدة للحياة.

الفضيلة في كل المجتمعات تقتضي منك أن تنسجم مع الآخرين في إطار السائد والمألوف، فوعيك محكوم بما يفكر فيه الناس وليس بما تفكر فيه أنت، وصوت المجتمع يحول دون سماعك لصوت الحقيقة الكامن في أعماق ذاتك.

أعود فأقول إن تجربة الدراسة في باريس قد منحتني الكثير مما لم يكن في الحسبان، بعد الوفاء بما تقتضيه شواغل الهم الدراسي. كانت تمر بي لحظات أشعر فيها بما يشبه الفراغ الذهني. وشيئاً فشيئاً يتوهج شعاع الذاكرة منكشفاً عما تركت الأشياء والأحداث التي صادفتها عبر رحلتي اليومية من صور ومعانٍ جديدة للحياة فكراً وفناً وسلوكاً، ليس على مستوى العلاقة بالجامعة والمادة العلمية فحسب، بل على مستوى كل ما أصادفه في الطريق وفي المطعم وفي الحديقة وفي المترو.

وهل أجمل وأكثر غبطة وسعادة من أن يكون بمقدور المرء أن يعيش حالة سلام مع نفسه!؟

حيث تصبح الغربة عن المحيط الاجتماعي المألوف شكلاً من أشكال العودة إلى الذات واكتشاف الأشياء من خلالها، وتضيق المسافة الزمنية بين مشاعر الأيام الأولى والأخيرة حتى تكاد تُمحى عند النقطة التي تكف الذات فيها عن إدراك ما عداها.

إنه يوم الدفاع عن الأطروحة والحصول على درجة الدكتوراه حينها يتقشع الجليد الذي كان يغطي المرج الأخضر على مدى سنوات، وتعبّر الروح عن نفسها عبر فيض من التداعيات الحرة للذكريات والمواقف والأحداث التي كان عناء البحث والمثابرة يحول دون الشعور بها.

وتتداعى في الذاكرة أسماء تلك الشخصيات التي طالما استأثرت بإعجابنا.

هل نحن محاطون بالأماكن التي تردد إليها طه حسين، ومحمد مندور، وزكي مبارك؟ وهل نحن عند مستوى اللحظة التي وقف فيها هؤلاء يدافعون عن أطروحاتهم كما نفعل اليوم؟

هنا: يكتسي الموقف شعوراً مهيباً بعظمة المسؤولية التي يتعين علينا الوفاء بأعبائها.

============================

* إشـــارة

الدكتور علي بن علي الحضرمي، أستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة صنعاء. يُعدّ واحداً من أهم شعراء اليمن. صدر ديوانه الأول "أبجدية الحب" في مطلع الثمانينيات. لم يجمع كتاباته الشعرية بعد لانشغاله بالتحضير لرسالتي الماجستير والدكتوراه. حصل على درجة الماجستير من جامعة صنعاء عام 1993، ودرجة الدكتوراه من جامعة السوربون - فرنسا عام 2005.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى