رسالة من كمال أبو ديب إلى عبد العزيز المقالح

- رسالة من كمال أبو ديب إلى عبد العزيز المقالح

عبد العزيز،
أخي، وصديقي، وعزيزي.

مثلما تسعى قصيدة للولادة، تلوب من أجل أن تجد إيقاعها القادر على تجسيد النبض واللهفة والعشق، ولغتها التي في مستوى الألق المجهد في الروح، تحاول رسالة أن تكتب نفسها عني إليك. وإنني لأجد الرسالة على صعوبة القصيدة في هذا الفضاء الروحي، الفكري، الأسطوري الذي قذفتني إليه اليمن. لأسبوعين ما زلت ألهث بحثاً عن اللغة التي تستطيع بحثاً عن جسد من الورق والكلمات يكون في مستوى العظمة – السحر - الفتنة – الفيض - الدخول – الاحتواء – التيه، التي هي جميعاً اليمن: اليمن وأنتم– هذا التكوكب المضيء من الوجوه الحبيبة الأليفة النائية الدافئة الفيّاضة بالحياة التي هي وجوهكم جميعاً: أنتم الأهل والصحب والآل والرفاق – عبق تاريخ من القات والجبال والوديان والخطوط البيضاء التي تتسلق جدران صنعاء الكامدة بألقها الخافت البهي والذرى الشمِّ الصمِّ التي يتمجَّد في امتدادها وشموخها الصخر والحجر كما لا يتمجد صخر أو حجر في مكان من العالم – الوجوه التي تلفني حتى هذه اللحظة تطويني وتنشرني وأتلحفها بوله، فكأنما أنسحب ببطء ناعمٍ خَدِرٍ إلى رحم منه لم أولد ولا أريد منه أن أولد، بل أن أتَمشَّج فيه وأتواشج بعروقه الساخنة وفضائه الداكن المبهم المظلم السحري. أنتم الوجوه التي دخلت ، لكي لا تخرج، تاريخي الشخصي، الروحي، والفكري، والعاطفي، بوهج صاعقة بدائية ودبيب يدٍ تهدهد الجرح بأنامل لها نعومة الرمل المسترخي بانبساط ذاهل على مدى سهوب مأرب. أنتم الوجوه التي أريد أن أحصي وأسمِّي فأتلذذ بذاكرة الحروف والخطوط والألوان تنفتق وتنشر على مدى العين واللسان والأذن. أنتم الوجوه التي تتحلق الآن رضية ، غاضبة، متوترة، فرحة، مغتبطة، بائسة، في واحد من هذه التكايا الفردوسية التي تسمونها بتواضع يثير الحسد: «المقايل»، فتتركونني مثل قصبٍ جافٍ بارد إلى شيء من خشب ميت اسمه طاولة أو مكتب، وتنـزلقون إلى عوالم لم تحلم يد آلهة – حتى آلهة اليمن السعيد- بأنها قد تكون قادرة على نسجها لو شاءت . طوبى لكم، الحقَّ أقول لك ، هذا السحر الأخّاذ والتواهج الحميم، في عالم يسمع صوت انهياراته كتقصف عظام رمادية جوفاء ولا يستطيع أن يمدّ يداً ليسند أضلاعه المتكسرة! طوبى لكم هذا الغياب الوثني، في عالم تصعقه آلهة كل منها واحد أحد لكن كلاً منها خنجر يطعن الروح والعالم والجسد! طوبى لكم! طوبى!! وأتمنى أن تصغوا إلى كلمة رجاء لاهفة مني: لا تَدَعوا عالمكم الجميل هذا ينـزلق وراء أوهام «التقدم والتحضر» فيدخل في لجة انهيارات العظام المتعكسة المتقصفة التي هي عالمنا نحن. انحنوا فوق عالمكم الرحم هذا بأجساد حانية تدرأ عنه اغتيال العالم البشع الذي هو عالمنا نحن الذين نتعرى للرياح في شوارع مدن قبيحة، ومداخن النفاق والرياء والتكالب والنهم والجشع والزيف والبهتان، تصدُّ عن أنوفنا نداوة الهواء وعذوبة السماء وغبطة أن نتفاءل ونتهامس ونتشاجى ونتناجى ونتشابك ونتداخل ونتمازج لنتداخل من جديد في دفء شيء – بوتقة من بلور صافٍ يشبه ما تسمونه أنتم ببساطة: ((المقيل)).

-2-

كيف أقدر أن أكتب لك ما يسمو إلى جلال هذا العالم المذهل الذي كنتَ إليه دليلي ورفيقي ومضيء دربي!؟ كيف أقدر أن أشحن الكلمات بكل ما فيك أنت من عطاء ودفء ومحبة وفيض وصلابة وتفنُّن ومهارة في منح كل شيء نعمة تويجات الياسمين وصلابة صوّان الجبال!؟ كيف أقدر أن أختصر هذه الكينونات التي تعج بالحياة والخصب فأحيلها إلى كلام، ووجوهكم تطغى تزاحم الكلمات تفرقعها من بين يدي لتمثل مكانها على الصفحات!؟ عبد السلام صبرة، عبد الله صبرة، فأرى عالماً ينهار وعالماً أبياً معتزاً يتلهف لعجن المستقبل بصورته: صورة الحياة الواعدة الفياضة بدم الأرض التي تتعطش -كما بلقيس في معابدها- لألف إله جديد يجدد خصبها وبذرة العطاء في ذراتها. عبد العزيز المقالح، فأرى وداعة تنبع من ليونة التربة في الجبال الخضر، وأرى شموخ الصخر اليمني على الذرى الشاهقة ، وتوحد اليد التي تشق الأرض بالتربة التي تبدعها من بين ثنايا الصخور لتكون يمن القهوة والقات والزهور البرية و(الصعتر) وزهو الأرض بألف لون وعشبة وشجيرة، وأرى يقيناً ليس كمثله يقين بأن المستقبل للإنسان، وللثورة، وللفقراء، وللشعر، وللكلمة المبدعة الطيبة المقاتلة. إن الورق ليطفح بالوجوه والرموز والإشارات الخفية: محمد عقلان – تأتلق عيناي بفرح بدائي وهذا الوجه المكتنـز الحاد الطفلي يقدح الهواء بفطنةٍ تنشي؛ عبداللطيف، عبدالكريم، فأرى شراسة غضب قادر على أن يلغم اللغة والخطوط واليمن والعالم بفيضٍ وحشي حبيب يلمس شغاف القلب. تنثال الوجوه: حسان، محمد الفرح، غضاضة تقبض على عمق التاريخ والفكر ولا يؤودها حمله. وجه زيد الوادع الوديع، الحمَل الذي يخرج من إصحاحات الأناجيل ليسرد حكايات تبوح برموز أليفة لأعمق ما في الإنسان من نزوع ولهفة وخيبة وبراءة وعنفٍ وتوق إلى العطاء وتغيير العالم. تزدحم الوجوه على أوراقي تكاد تدفع بي من على حافة الطاولة التي عليها أكتب لأكفَّ عن محاولتي البائسة أن أختصرها في كلمات. يشرق وجه بلقيس التي لو لم تكن يمنية، وفي اليمن، لكتبت لك عنها بعضاً من أروع ما أطمح إلى أن أستطيع كتابته في امرأة. وجه أحمد المروني الهادئ كرسوخ الجبل ، الفياض بمودة إنسانية باهرة، والذي يختصر تاريخ شعب مناضل. وتتوالى الوجوه مثل موكب عجيب، كل واحد يعلمني شيئاً جديداً طيباً: أحمد دماج، عبدالصمد القليسي، إبراهيم، وعلي، وعلي، وعبدالرحمن، وعبدالله المجاهد الذي يشع محاطاً بأكاليل خضراء حمراء وصفراء تنبع من تربة حنّت عليها يداه. الوجوه المحتشدة في عشرات المقايل التي انصهرت فيها كما الشمع بمحبةٍ ودهشة، من مقيل عبدالملك زبارة، إلى مقيل علي مقبل، مروراً بأحمد جابر عفيف، وعبداللطيف، وحسان، ثم هذا الفيض الجميل الذي كان دائماً يزدهي به فنـزدهي به، مقيل على الحبوري، إلى ألفة بيت حسان (والشمس دائماً تنصب على وجهك تزعج فيه رقة الاستكانة ، لكن من يحارب الشمس؟ من يقدر على أن يرد الشمس؟) وفي وسط مقيل عبدالله صبرة يندلع صوت أحمد راشد، بعنفوان آدم الذي عصى، يقول حتى للجدران أن تصغي لأن في براءته المتشددة، المتكسرة، الرخية، المندفعة ألق الحياة وتفجرها بالغضب البدائي وبالحنوّ الأولي. فجأة تندلع الوجوه، بدلاً من أن تنثال، فتلفني، كأنما في حلمٍ، بلغة الغيم والمطر والريح والسماء المشرقة فوق تلال صنعاء الغربية، وعلى جبل النهدين تتمعج امرأة جميلة، غواية، اسمها اليمن، تنحل خيوط غلالتها في عبق الأعشاب التي أنت وأدونيس وأنا وأحمد – سائقك السمهري، التقطناها فغمرت حتى شعورنا التي تطايرها الريح في فوح تاريخها الأسطوري، تاريخ أروى، وبلقيس، وابن ذي يزن.

عقوداً ستغمرني هذه الوجوه، وعقوداً سأزدهي بروعة غمرها السخيّ. من يقول لعبد العزيز البغدادي، وضباطكم الذين يتقنون لغة الثقافة والفكر، وعبد الحميد الحدي، وحسن اللوزي، وكروم عنب اليمن، ووريقات قاتها الغضة الندية التي تفتح في المذاق أبعاداً لم يعرفها اللسان، وفي الرأس نشوة لا يعلوها إلا عبق العود المبخر الذي ينتشر في العروق الصاعدة إلى ذورة الجسد، إن عاشقاً جديداً سينسب اليمن إلى شغاف روحه منذ الآن، وسينسب عروقه إلى جبل صبر وقلعة حجة ومواسم مأرب؟ من يقول لشبح عبدالله حمران، حين يعود يطرق شبابيك البيت يفتش عن ذاكريه وأحبته إنه صار في موته وشبحيته، بعضاً في نسيج حيّ متألق يعيش في ذاكرة سوري من على الجبل وفوق تلال البحر اللازوردي؟ من يقول لنفرات شعرائكم الذين دون أسماء إنها كانت قبل يومين تتقافز بين أناملي والحجر الأبيض الذي عليه كتبت اسمي في صبايا فوق قمة الوادي في بلدي النائي عن صنعاء؟ ومن يقول لأطبائكم ومهندسيكم وسائقي سياراتكم إن وجه عبدالله الشايف وحاجب مركز الدراسات اليمنية ينسرب الآن في شرايين ينسرب فيها أيضاً ماء المنبع الجبلي الذي اسمه «عين الشرقية» على السفح قرب «تينا» الذي يستقبل ريح البحر القصي؟ ومن يقول إن منـزلاً عتيقاً شامخاً في صنعاء يتألق الآن مع وجه حسين مطهر في ذاكرةٍ تحتضن أيضاً صورة مزار النبي صالح في قمة سامقة في جبال سوريا الغربية؟ ومن يهمسُ لصنعاء: إنك تتمجدين الآن في البيوت الحجرية الجميلة، أختك الجبلية، على قمةٍ، فقمتين، فثلاث، تتدافع نحو البحر من الأعالي؟ ومن يقول لوجه يحيى الإرياني المنكب على مكتب بلون السنديان الفاتح إنه يستحضرني كل لحظة انكباب خلاق -وراء كتاب- عرفتها في حياتي؟ وسيُسْتحضر كلما عرفت لحظة جديدة في مستقبل هذه الحياة.

-3-

عبد العزيز،

يا أخي، وعزيزي، وصديقي.

قد أظل أكتب عنكم، عن اليمن، عن الأسطورة التي عشقها الشماليون، فاكتشفها قلبي اللاهف إلى الغرق في أسطورة جديدة حية، وقد أظل أتلمظ أسماءكم وأحاديثكم إلى أن يتلمظ جسدي التراب، لكنني دائماً سأفعل ذلك بمتعة متجددة، وثراء غير عادي.

وبالأسطورة، والاكتشاف، وأسمائكم، ووجوهكم، وتاريخكم، وتاريخي الجديد، أنا مدين بإطلاق لواحد فقط: أنت.

دعني أقول لك، إذن، ببساطة المحبة التي لا تعلوها بساطة: شكراً! ودون تنميقات: شكراً يا أخي، وصديقي، وعزيزي، يا عبدالعزيز!!

-4-

ستلاحظ دون أدنى شك أن ثمة وجهاً غائباً من الكلام، وستدرك لماذا!؟ لأنه الوجه الحاضر في القلب حضوراً ناصعاً مجللاً بالأسى، محترقاً بالدمع، فكأنني أخاف أن أتركه ينبثق على الورق فيحرق يدي التي تحاول أن تكتب ويشل قدرتها على قول أي شيء آخر سوى تقديس الحزن. إنه وجه عبدالفتاح عبدالولي، كأنما اليمن أبت إلا أن تدمغ تاريخها الجديد بسمة تاريخها الأولى: ازدواج الفرحة بالدمعة، اقتران القلاع التي هي سجون للأحرار، بقلاع الصخر التي هي مساكن للبشر الطيبين في ذرى جبالها الشامخة، اتحاد تاريخ الدم والعذاب والمأساة بتاريخ الغبطة والمجد والتمكين، كأنما اليمن أبت إلا أن تمنحني أصالة وجودها، وصدق تجربتها، فأصابت عبدالفتاح بما أصابته قبل يومين من سفري لكي تغمرني أنا العاشق الحقيقي، بماء جسدها الحقيقي.

عبدالفتاح الذي ترك دمغته في حياتي لمئة سبب وسبب كان آخرها هذا الثراء الإنساني الباهر الذي تدفق من شفتيه حين قال لي مودعاً ليلة سفري: "لقد أحببناك.. وإنني لآسف لأن زيارتك انتهت بمأساة".

تصور! عبد الفتاح المضروب بالفاجعة، يظل قادراً على أن يرى ويتحسس أسى الآخر بهذه الطريقة المذهلة. لو كان مقاله ختاماً لقصة كتبها لاتهمته بأنه يختلق إنساناً مذهلاً غير عادي. لكنها لم تكن قصة، كانت نبضاً فذاً بإنسانية الإنسان. يظل عبد الفتاح معي، وسأصلي من أجله، من أجل أن يمنحه الزمان رقة أنامله فيمسح جراحه.

لكل من تحدثنا إليه، أنت وأنا، أو رأيناه، أو سمعناه، حتى في حارات صنعاء، لكل الأخوة في الجامعة: محمد عبده غانم، أبو بكر، محمد عبدالجليل ومعاونيه... للسائقين، لحجارة صنعاء التي مررنا بها ، ولمهرجان صنعاء الأبيض المتموج في حركة أزلية على جدرانها الكامدة، ليَد عبدالرحمن الحداد، التي تعنى بصنعاء، وللأخوة الذين جالسونا وجالسناهم في المقايل كلها (سأستمر في تعداد الأسماء في رسالة قادمة – وأرجو ألا يرى أحد في غياب اسمه من حيف، فكل الأسماء والوجوه في دمي لكنها ستنبثق في رسالة تلو رسالة) محبتي، ومودتي، وامتناني، وشوقي. وللأخوة الذين لم يشاركونا المقايل أو شاركونا بعضها ، مسعود، ووهب، وفهد، مثل ذلك من محبتي ومودتي وشوقي وامتناني، وللشباب الآخرين: عبدالسلام، أحمد الكراعين، محمد رحومة، محمد بدوي، محمد سعيد... أطيب تمنـيـاتي وشــوقي.

أمَّا لك أنت،
فليكن ما أريد أن أقوله
سر الأسرار
مثل كلمة شعرية لا يباح بها.


=====================
إشـــــارات

الدكتور كمال أبو ديب، الناقد والمبدع. زار صنعاء لأول مرة بدعوة من جامعتها الفتية للمشاركة في «ندوة النقد العربي المعاصر» مع نخبة من النقاد العرب منهم: عز الدين إسماعيل، جابر عصفور، عبد السلام المسدي، عبد الله الغذامي، عبد الملك مرتاض، طه محسن بدر، إبراهيم غلوم، وهب رومية، فهد عكام، محمد بدوي، مسعود بوبو، وغيرهم. وتركت تلك الزيارة انطباعاً فاتناً تجلى في سطور هذه الرسالة – القصيدة التي بعث بها إلى صديقه الدكتور عبد العزيز المقالح. ويلاحظ أن عدداً من الأشخاص الذين أشارت إليهم الرسالة قد طواهم الموت أمثال: زيد مطيع دماج، وعبد اللطيف الربيع، ومحمد عقلان الشيباني، وأحمد راشد. وبذلك صارت الرسالة جزءاً من التاريخ، تاريخ اليمن وصنعاء والأصدقاء.

المحرر

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى