رسائل بين راينر ماريا ريلكه و مارينا تزفيتاييفا

- رسائل بين راينر ماريا ريلكه و مارينا تزفيتاييفا


* من تزفيتاييفا إلى ريلكه

9 آيار/مايو 1926

راينر ماريا ريلكه!
هل أناديك على هذه الصورة؟ تعرف من دون شك، وانت الشعر مجسدا في رجل، أن اسمك وحده قصيدة، راينر ماريا أصوات تذهب بنا إلى الكنيسة – طفولة – فروسية. اسمك لا يوافق هذه الحقبة، يأتي من زمان من قبل ذلك وبعده، ومن كل زمان، هذا ما طلبه اسمك، وأنت اخترت اسمك. (نحن نختار اسماءنا – هذا ما يحدث، هذا ما يتبع)…

لست عندي الشاعر الأعلى ( فالشاعر الأعلى رتبة) أنت ظاهرة طبيعية لا تحدث لي، ولا أقوى إلا على حبها، بل مواجهتها وحسب، وهي (يا لنقص التعريف، مرة أخرى) العنصر الخامس مجسدا: الشعر نفسه، أو ما يصدر عنه الشعر وأكبر منه.

لا أقصد بذلك ريلكه – الإنسان (الإنسان: ما نحن مرغمون عليه)، بل الروح – ريلكه التي هي أكبر من الشاعر نفسه، والتي لها اسم ريلكه لي وحدي – ريلكه ما بعد الغد…

ما يستطيع الشاعر عمله بعدك؟ فشاعر معلم (مثل غوته) نسعى إلى تخطيه، أما تخطيك فيعني (وسيعني) تخطي الشعر نفسه. فالشاعر هو من يتخطى (من يجب أن يتخطى) الحياة.

أنت للشعراء القادمين مهمة مستحيلة. والشاعر الآتي بعدك يجب أن يكون أنت ما يعني أنك ملزم بإيجاد بإنجاب نفسك من جديد. تعطي الكلمات معناها الأول، والأشياء، كلماتها الأولى (وقيمها)،
كان بمقدوي قول هذا كله بوضوح بالروسية، ولكنني آثرت أن لا أدعك تترجمني وأنت تقرأني، بل فضلت أن أترجم نفسي وأنا أكتب إليك..

بقيت في براغ ثلاث سنوات، من 1922 إلى 1925، وانتقلت إلى باريس في تشرين الثاني/نوفمبر 1925. أكنت فيها في ذلك الوقت؟
ولو كنت فيها:
لماذا لم أتجه صوبك؟ لأنك الكائن الأعز عندي. بكل بساطة ولأنك لا تعرفني أيضا. لنوع من الاعتزاز المؤلم، لاحترام الصدف. وربما لجبن في النفس، ولتجنب مواجهة نظراتك الغريبة عند عتبة غرفتك. (ذلك أنك لن تقوى على النظر إلي في طريقة مغايرة! وبما أنك لا تعرفني، ستبقى نظراتك مساوية لي ولغيري، أي: غريبة على الرغم من كل شيء).
وهذا الشيء أيضا: ستشعر في أعماقي دوما روحا روسية، وسأجد أنا فيك تجليا إنسانيا محضا. هذه هي عقبة قوميتنا المربوطة بأشخاصنا: كل ما يعين النفس فينا يسميه الأوروبيون روسيا…

قرأت رسالتك على ضفة المحيط، وكان المحيط يقرأ معي، وكنا نقرأ معا. هذا القاريء، ألا يضايقك؟ لن يكون هناك قاريء غيره. فأنا غيورة جدا (عليك، بل متوقدة).

هل تعرف كيف استقبلت اليوم (في العاشر) كتبك؟ كان الأولاد نائمين بعد (في السابعة صباحا)، نهضت (من فراشي) فجأة، وهرعت إلى الباب. في اللحظة نفسها – كانت يدي على المزلاج – قرع ساعي البريد على الباب، على يدي تقريبا.
وما كان علي سوى استكمال حركة يدي على الباب، والتلقي باليد نفسها، التي لا تزال تقرع الباب، الكتب.
لم أفتحها (رزمة الكتاب) بعد، ذلك أنني لن أقوى على إرسال رسالتي هذه اليوم – هذا ما أرغب به، وعلى جناح السرعة.
لما كانت ابنتي (أدريانا) صغيرة بعد – في الثانية، أو الثالثة من عمرها – كانت تسألني قبل أن تذهب إلى النوم: “هل ستقرأين راينريكيه؟”.
راينريكيه، هكذا هو اسمك في سمعها الطفولي، راينر ماريا ريلكه. فالأطفال لا يحسنون التمييز بين الانتقالات.

سويسرا أغلقت حدودها دون الروس. على الجبال أن تنزاح (أن تذوب)، لكي نقوى على التسلل، بوريس وأنا، للوصول إليك !


(لو أخذنا على مقتضى ختم البريد، لقلنا بأن الرسالة أرسلت في الثامن من أيار/مايو، لا في العاشر منه، مثلما كتبت مارينا. وهذا يعني أنها أرختها في اليوم الذي سيستلمها فيه ريلكه، وتكون بذلك قد غلبت الزمان والمكان، الفاصلين بينهما. وسطور ريلكه الأولى في رده الجوابي تؤكد هذا الشعور، بل نجاح محاولة مارينا).

===========================

* من ريلكه إلى تزفيتاييفا

10 أيار/مايو 1926

مارينا تزيفتاييفا،
أما كنتِ هنا منذ وقت؟ وأين كنت أنا؟ إنه العاشر من أيار/مايو أيضا – يا للشيء الغريب، يا مارينا، يا لهذا التاريخ الذي وضعته بيدك (وأطلقته عبر الزمن، صوب هذه اللحظة الواقعة خارج الزمن حيث لي أن أقرأك) فوق السطور الأخيرة من رسالتك! ففي العاشر اعتقدت أنكِ استلمتِ كتبي، بعد أن أدرت الباب (مثلما ندير صفحات كتاب)…؛ وفي العاشر عينه، اليوم، في حاضر الروح الأبدي، في هذا اليوم، استقبلتكِ في قلبي، يا مارينا، في وعيي كله الراجف بك، لمجيئك، كما لو أن صديقك الكبير في القراءة، المحيط هرع صوبي معك، موجاً في القلب. أنزلت يديك، يا مارينا، دورا بعد دور، مضموة ومانحة، أنزلت يديك في قلبي كما في حوض نهر متدفق: الآن، مهما أبقيت يديك في قلبي، فسيبقى المجرى المستديم جاريا صوبك… اقبليه، ماذا أقول لك؟ كلماتي كلها (كما لو أنها كانت موجودة في رسالتك إزاء خشبة مسرحية)، كل كلماتي تبغي الجريان صوبك في الوقت عينه، من دون أن يخلي هذا لذاك دوره. وإذا كان المتفرجون يتدافعون، مثلما يحصل لهم عند الخروج من الصالة المسرحية، أفلا يعني ذلك أنهم ــ أمام عرض مماثل، ما عادوا قادرين على تحمل نزول الستارة؟ هكذا لا أقوى بدوري، بل بأسى، على قبول انغلاق رسالتك (مرة واحدة، ولو كانت واحدة!) ولكن، انتبهي، يمكن للستارة أن تواسينا: إلى جانب اسمك الجميل، والاسم العذب للمدينة التي تقيمين فيها…
أتشعرين، أيتها الشاعرة، كيف خطفتني، أنتِ ورفيك الرائع في القراءة، وأكتب مثلك، وأخرج مثلك من الجملة لكي أنزل على الدرجات القليلة التي تؤدي إلى طابق واقع بين هلالين، فيه سقوف واطئة على عطر الورود القديمة، المستديمة أبدا. مارينا: كم سكنتُ رسالتك. ويا للدهشة عندما سقط نرد كلماتك، بعد انطلاقه، على درجة أدنى، مظهرا الرقم الإضافي، النهائي (والأكبر في غالب الأحوال). أهي قوة من الطبيعة، يا عزيزتي، هذه التي تقف خلف العنصر الخامس، لإثارته، ولتجميعه؟… وبدا لي من جديد أن الطبيعة، عبرك، أيدتني، وأن حديقة بكاملها تردد ((نعم)) حول ينبوع…

————-

* المصدر: كتاب الوصية ترجمة وتقديم شربل داغر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى