عشر رسائل نازك الملائكة إلى عيسى الناعوري ..

* الرسالة الاولى

* أيها الأخ: اني لا اسألك ان تكون مندفعا فتصدق كل حرف في رسالتي دون تمحيص (كما صدقت كل حرف في أقوال سواي دون تمحيص) فهذه قضايا جدية والضمير الأدبي يقضي عليك بأن تتثبت قبل الحكم وأنا أدعوك إلى ان تطلع على الصحف والتواريخ كلها قبل ان تحكم وان كان لي ان اطلب إليك شيئا آخر فسألتمس ألا تنشر رسالتي هذه على أية صورة على ان لك الحق ان تبدي رأيك متى شئت استنادا إلى النصوص المطبوعة.
أما إذا كنت رقيقا كعادتك وسمحت لي ان أعاتبك على الإدلاء برأي في قضية لا تعرف شيئا عن تفاصيلها فسيكون عتابي مريرا تخيل كيف يشعر عيسى الناعوري لو كان في مكاني؟ آه لو كنت تدري كيف يشعر المخترع الذي يتهمونه بأنه سرق اختراعه من مخترع آخر. يا إلهي، ماذا يقول السيد المسيح: «أبتاه.. اغفر لهم.. فإنهم لا يدرون ما يصنعون» وأنا اعلم انك لا تدري وكيف تدري؟
دعني إذن أحييك وأعذرك من أعماق نفسي

المخلصة نازك الملائكة

*****

* الرسالة الثانية

(بغداد في 1 ـ 12 ـ 1953)
الأخ الكريم الأستاذ عيسى الناعوري:
تحية جميلة

اني اقدر كثيرا رسالتك الطويلة التي بعثت بها الي هذا الأسبوع وشغلت نفسك فيها بقضية الشعر الحر، ويزيد تقديري علمي بأنك لا تحب هذا الموضوع الذي أعلنت في مقالات عديدة رأيك فيه وأنا ما زلت أثق من ان السماحة في معالجة قضايا الأدب شرط أساسي في مؤرخ الأدب وناقده.
أما كون رأيك في الموضوع يخالف رأيي فلعله انفع لك ولي وللأدب عموما. ماذا يقول الفيلسوف الفرنسي: «ان خير طريقة يرى فيها جماعة من الناس منظرا ان يقفوا ظهرا بظهر يحدق كل إلى جهة من الجهات» ان هذا هو عينه ما يحدث في حالة اختلاف الاراء بيننا، فأنا أرى من نقطة وأنت ترى من نقطة غيرها ومن ثم فإن كلا منا يرى جزءا من الحقيقة لعل الآخر لا يراها، وقد أكون أنا على خطأ كامل أليس كذلك؟ والمهم قبل كل شيء ان يستفيد كل منا من هذا الاختلاف والأديب إذا لم ينتفع بآراء معارضيه كان أديبا ضيق النظر. ان المعارضة هي المدرسة الكبرى في نظري وأنا شخصيا قد انتفعت طيلة حياتي بأحكام الذين يهاجمونني وكثيرا ما تعلمت دروسا حتى من ابنة عمتي الصغيرة التي تبلغ العاشرة من العمر وعلى هذا فإن الصلة الأدبية بيني وبينك باقية على خير والخلاف انفع لها وللأدب المعاصر الذي نسعى كلنا إلى ان نكسبه العمق والخصوبة والجمال.
اني أرجو ألا أكون قد «وقعت» في رسالتي السابقة في أحكام «قطعية» حول أي شيء فأنا عادة أتحاشى هذه القطعية في آرائي علما بسعة الحقيقة وتعاليها عن «الانضغاط» الصارم في أحكام قصيرة مباشرة والذي اذكره أنني رجوتك في إخلاص ألا تعتبر «أقوالي» نصوصا لا تقبل الشك وأشرت عليك في غير قليل من الإلحاح ان تراجع الصحف، ألم افعل هذا؟ كل ما صنعت أنني دعوتك إلى التحقق.
انك تتساءل في رسالتك ان كان السيد بدر شاكر السياب ـ و أنا احترم شاعريته كثيرا ـ قد نشر قصيدته (هل كان حبا) قبل صدورها في ديوانه الأول، والذي اعرفه أنا انه لم ينشر شيئا في الصحف قبل هذا الديوان على ان معرفتي هذه قد لا تكون هي الحقيقة كلها فلعله كان ينشر في صحف لا تصلني وأنا أود كثيرا لو عرفت جواب هذا السؤال.
أما رغبتك في نشر رسالتي فيؤسفني ألا استطيع إجابتك إليها ذلك أنها رسالة كتبت كما تكتب الرسائل واحتوت على ما تحتوي عليه أية رسالة مثلها من مشاعر وأراء عابرة غير منسقة إنها كلام أو جزء من حوار بيني وبينك وليست مقالا لتستأهل النشر. هذا فضلا عن أنني لو كنت اعتقد ان الموضوع يستأهل العناية ويهم القراء لكتبت مقالا رصينا ينال حظه من المراجعة والصياغة بحيث يستأهل ان يشرفه القراء بالمطالعة، ثم إنني لا املك شيئا أقوله غير الإشارة إلى النصوص المطبوعة المحفوظة فما الداعي إلى الكتابة في الموضوع؟ ان مؤرخي هذه الفترة سيحكمون بأنفسهم وكل ما اعرفه أنا أنني يوم كتبت قصيدة (الكوليرا) كنت لم اقرأ شيئا يماثل أسلوبها في الوزن في اللغة العربية وقد تبعت فيها أسلوب الشعر الإنكليزي مباشرة وإذا أردت ان تحتفظ برسالتي تلك وبهذه فافعل فقد يتاح لك نشرها بعد عشرين سنة (ان كان الجمهور إذ ذاك سيهتم بشيء مثلهما) ان انعدام الزمن هو وحده الذي يجعل للرسائل الشخصية قيمة وهذا هو السبب في أننا نقرأ اليوم باستمتاع رسائل فولتير وكيتس.
اكتب هذا وبغداد تعاني موجة شديدة من البرد وتكاد يدي تجمد على القلم وتجره يمينا وشمالا.
لقد سرني كثيرا ان اسمع انك ستعود إلى نشاطك الصحفي بالإشراف على إصدار مجلة جديدة، انه نبأ جميل فلتكن مجلتك ذراعا من الأذرع القليلة التي تبني بالقلم ثقافة جيل كامل بارك الله فيك ووفقك إلى إعلاء شأن الأدب. أما مساهمتي في المجلة فلعلك تعلم انه مما يسرني ان امنحها وأرجو ان تكون ظروفي انسب للمؤازرة العقلية.
وارجو اكثر ان تثق دائما من مودتي ومن ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية كما يقول شاعرنا.
ولك ختاما اجمل التحيات والتمنيات،

المخلصة نازك الملائكة

* في حاشية هذه الرسالة كتبت نازك:
لو علمت مدى ابتعاد موجة الشعر الحر عن الغاية التي كنت أنا اهدف إليها يوم ناديت به اول مرة سنة 1949 في (شظايا ورماد) لاكتشفت ان رأيك القاسي ليس بعيدا بعدا شاسعا عن رأيي. دعني أخبرك مثلا أنني منذ سنتين قد كتبت مقدمة لديوان ثالث من شعري لم يتح لي بعد إصداره وقد درست فيها موضوع الشعر الحر منذ صدور ديواني الثاني وأشرت إلى طائفة من الشروط والمزالق التي يتضمنها هذا التحرر وهي شروط لم يعبأ بها اكثر الشعراء ومزالق لم يدركوا وجودها فسقطوا فيها. وقد بعثت منذ اكثر من سنة بمقال حول الموضوع إلى مجلة (الأديب) لينشر في العدد الممتاز الذي اجل إصداره شهرا بعد شهر حتى هذه اللحظة وان انوي الكتابة إلى (الأديب) والإيعاز بنشر المقال قريبا.
واغلب الظن ان المقال سيرضيك أو دعني اقل «إلى حد ما» فلا شيء مما يتعلق بالشعر الحر يرضيك فيما يبدو يا أخي، ومن هنا يفترق طريقي عن طريقك، انه شعر موزون جاء على أوزان العرب تماما هذا في الأصل ولست مسؤولة عما صار إليه الشعر الحر اليوم فأنا اقرأ منه نماذج فظيعة في الصحف يضطرب وزنها و ينشز ويدور. سامح الله هؤلاء الشعراء.

********

3

بغداد في 1952/09/14

الأديب الفاضل الأستاذ عيسى الناعوري،
أرق تحية، ..

تلقيت العدد الأول من مجلتك المبشرة شاكرة لك أجمل الشكر، ووجدتها - كما أمّلت - قيمة، تستجيب للآمال التي عقدها عليها، ويعقدها معي أدباء كثيرون ولا مجلة تبدو لي اليوم أهم لثقافتنا وأدبنا المعاصر من مجلة تجعل هدفها الأول النقد الأدبي .. أقول هذا وأنا أتذكر أن صاحب "القلم الجديد" معنى منذ سنين بالنقد الأدبي، ولا شك أن مجلته ستخصص جهوداً كبيرة لهذا الفرع المهمل من فروع الأدب العربي ونعنى على الأخص، بتصحيح المفاهيم المغلوطة التي يحملها جمهورنا عنه .
وقد بلغني الأستاذ صالح جواد طعمة - مراسل مجلتكم في بغداد - دعوتك، ويسرني أن البيها، وسأرسل لعدد الشهر القادم قصيدة أو مقالاً .
ولمجلتك ختاماً تمنياتي، ولك خالص المودة والتقدير .

المخلصة نازك الملائكة

>>>>>>>






******

4

بغداد
في 1953/10/03

الأخ الأستاذ عيسى الناعوري:
أرق تحية وأجمل ..

تلقيت رسالتك مغتبطة وقد غمرتني فيها بثقتك الكريمة التي أعتز بها، وأرجو أن أحققها . ويسرني أن أشترك في جانب النقد الأدبي في المجلة، كلما أمكن لي ذلك، وإن كنت أرجو ألا تخلو أعداد المجلة من مقالاتك التي تعبر عن اتجاهاتك الذاتية الصرف .
(ويوشك نقدنا المعاصر أن يكون محض اتجاهات ذاتية، فيما أرى) ألا ترى معي أن المجلة التي يديرها ناقد أدبي تستطيع أن توجه النقد توجيهاً فعالاً ؟
تصحب كتابي هذا قصيدة لي عنوانها "السلم المنهار" ونسخة من صورة لي للنشر .
وختاماً أكرر تمنياتي المخلصة للقلم الجديد، وأبعث إليك بأجمل التحيات وأطيب المودة والتقدير .

المخلصة نازك الملائكة

*********

5

بغداد في 1953/02/ 06

الأخ الرقيق الأستاذ عيسى الناعوري،
تحية جميلة:

تلقيت رسالتك الكريمة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وكنت أود لو أجبت عليها في ظروف أنسب من الظروف التي أكتب فيها الآن على أن الكتابة الموضحة خير من السكوت التام الذي أرجو ألا يكون الأخ أساء به الظن فحسبه بروداً أو إهمالاً أو نسياناً، أو أي مصدر من هذه المصادر المتجنية . فمجلة "القلم الجديد" عزيزة عندي، وأرجو أن تثق دائماً من صداقتي ومؤازرتي .
والحقيقة أنني خلال هذه الفترة التي سكتُّ فيها عن الإجابة كنت مريضة ممنوعة من الحركة بسبب حادث وقع لي منذ عشرين يوماً فعرّض ساقي إلى جرح بليغ ورضوض مؤلمة ما زالت تعرقل نشاطي . وهذا يجعل من الحكمة أن أؤجل أي شئ للقلم الجديد أسبوعين آخرين، ومعنى هذا أنني سأدرك عدد نيسان وأرجو ألا تمانع في هذا التأخير .
أشكر لك أعداد المجلة التي بعثت بها إلي، أرق الشكر، ويؤسفني أن تعاني الصحافة ضغط الحكومات العربية، .. وما الذي كان في هذا العدد الذي منعته رقابتنا ؟ هذا يبدو مدهشاً على أن القلم الجديد لم تكن الوحيدة التي منعت، فقد عانت هذا مجلات كثيرة منها الثقافة التي قطعت عنا حتى توقفها تقريباً . أما موقف السيد محمود حلمي من المجلة فلا أدرى ماذا أقول فيه وقد سألته عن الأمر وأبلغته الشكوى، فقال إن من غير المعقول أن يسأل المشترون عن مجلة تتكدس أعدادها في مخزنه فيجيبهم بأنها لم تصل . هذا ما قال ولك رأيك، على أني أحسبه على حق، فمن مصلحته أن تباع الأعداد .
يعجب أبواي باتجاه مجلتك القومي إعجاباً كبيراً، وقد أنبأتني والدتي - وهي حالياً مريضة - أنها ستبعث إلى المجلة بقصيدة من شعرها في فلسطين، وأظنك تعرف شعر والدتي فقد أشرت اليه في مقالك عني كما أذكر، ولا شك في أنك تستجيب لشعرها أكثر من استجابتك لشعري أنا، لما بين اتجاهاتك واتجاهاتها من تقارب عام . والواقع أن أكثر شعر والدتي قومي وطني اجتماعي، والذاتي منه يستند إلى أسس تخالف الأسس التي يستند إليها شعري مخالفة تامة .
وختاماً، أيها الأخ الكريم، أرجو ألاّ تحسب أن من الممكن أن أظن الظنون بمجلة القلم الجديد، مهما تكن الظروف، كما أرجو أن تحسن الظن في مودتي، ولك خالص التحايا وجميل التقدير.

المخلصة نازك الملائكة

*******

6

بغداد في 09/03/1953

أخي الكريم الأستاذ عيسى الناعوري،
أرق تحية:

كم أشكر لك مشاعرك الأخوية النبيلة التي غمرتني بها متلطفاً في رسالتيك الأخيرتين، وفي عدد هذا الشهر من مجلتك التي أتابعها بسرور، وأشعر بمزيد من الاطمئنان إلى إخلاصها واندفاعها نحو مثلها . وقد كانت الكتابة إليك واجباً عزيزاً أحاول إنجازه فتحول الأعمال المتصلة دونه، والمرء لا يملك أن يصنع ما يحب دائماً .
صحتي قد تحسنت كثيراً الآن، ويؤسفني أنني لم أكن دقيقة في رسالتي السابقة، فأحدد نوع الحادث الذي سبب ذلك الجرح اللئيم في ساقي - ولعلي خفت أن أسئمك بالإطالة في الحديث عن نفسي - والواقع أنه كان حادثاً بسيطاً يؤيد القول الشائع بأن الأشياء التافهة كثيراً ما تسبب مزعجات كبيرة . فقد عثرت على درجة منخفضة من درجات سلم صغير لا قيمة له . وهذا هو الحادث كله . هو كما ترى حادث مضحك، وإن كان آذاني ذلك الإيذاء . إني أكرر شكري وامتناني للأخ الكريم على اهتمامه الرقيق، وأنتهز هذه الفرصة لأعبر عن مودتي الدائمة التي آمل أن تزيدها الأيام رسوخاً .
أبواي يبلغانك خاص تحياتهما، ويؤسفني أن والدتي مازالت متوعكة لا تستطيع أن تنسخ قصيدة للقلم الجديد وأظننا سنحل المشكل بأن أنسخ القصيدة بخطي أنا، أرجو على كل ألا تسئ الظن كثيراً بوعودي، وأنا أعدك بأن أكون أوفى في المستقبل . والحقيقة أن ظروفنا المنزلية لم تكن على ما يرام خلال الشهرين الماضيين بسب مرضي ثم مرض والدتي .
وللأستاذ ختاماً خالص مودتي وأجمل تحياتي وتمنياتي .

المخلصة نازك الملائكة

*************

7

بغداد في 1953/04/01
الأخ الأديب الأستاذ عيسى الناعوري،

أرق تحية أيها الأخ الكريم، ولك ولمجلة "القلم الجديد" التي يزداد تعلقنا بها، وإكبارنا لصلابة مبادئها، تمنياتنا المتصلة . أكتب هذا على عجل، فمما ترجوه رسالتي هذه أن تصل إليك على عجل حاملة القصيدة المرفقة من شعر والدتي . وقد نسختها بخطي كما يلاحظ الأخ، فما زالت صحة والدتي على غير ما ينبغي .
وإن كان مفيداً أن أحدثك عن هذه القصيدة بما أعرف، فسأقول إنها في الأصل أطول مما ترى بكثير، فهي تقع في أكثر من مائة وسبعين بيتاً، وقد يسميها بعض الشعراء الذين لا يتحفظون في تعابيرهم "ملحمة" وأظنني أنا المسؤولة عن اكتفاء والدتي بهذه المقتطفات من قصيدة طويلة . والواقع أنها قلما تحبذ البتر والاقتطاف، (ومعها الحق من الوجهة الفنية) . وللأستاذ ختاماً خالص المودة والتقدير .

المخلصة نازك الملائكة

************

8

بغداد في 09/ 05 / 1953

الأخ الكريم الأستاذ عيسى الناعوري،
أجمل تحية،

تلقيت شاكرة رسالتيك الرقيقتين بما فيهما من مودة نبيلة أعتز بها، كما تلقت والدتي رسالة منك كان لها في نفسها أثر جميل وقد كلفتني أن أشكرك كثيراً على لطفك وستكتب إليك حين تتحسن صحتها التي مازالت متوعكة إلى درجة تشغلنا وتقلقنا عليها، فهي تقضي نصف أيامها مريضة لا تقوى على الحركة . ولا شيء يزعزع الحياة النفسية في الأسرة مثل مرض الأم، ولذلك أرجو أن تعذر ما قد يبدر مني من تقصير وتباطؤ في الكتابة .
وخلال هذا وغيره من متاعبنا تبقى مجلة القلم الجديد رسول متعة وارتياح في أيامنا . إنها بحق مجلة عالية، ونحن في العراق نحسن تقدير مجهودك في إخراج صحيفة مثلها، لأننا نعلم بأن الأردن والعراق سيان في تأخر شؤون الصحافة والطباعة . وأنت تعلم أننا هنا لم نستطع بعد امتلاك مجلة تعبر عن الحركة الأدبية في البلد، وما زالت الصحافة تدور في مجال يومي صرف، ويلتف حولها كل من لم يتح له بعد أن يمرن قابلياته . على أن مجلتك مجلتنا أيضاً، وهذا عزاء كبير .
الجو عندنا حار هذه الأيام حرارة عالية لا تتيح كتابة الرسائل المترفة الطويلة، وبغداد تمر بفترة انفعال شديد نادر المثيل بسبب تتويج الملك العزيز، والحق أنني لم أشهد طيلة حياتي شعباً يحب ملكاً إلى هذا الحد، وقد كان منظر الجماهير الهائلة مثيراً في بغداد يوم أقسم الملك اليمين . إنه شيء تقصر اللغة عن وصفه وقد تضاءلت إلى جانبه مظاهر الزينة الفخمة التي كلفت الحكومة ثلاثة ملايين دينار، فما قيمة المهرجانات إلى جانب هذا النهر الجارف من حب جماهير الشعب ؟ لقد وقفت أرقب الكتل المندفعة من الناس في افتتان لا حد له، إنهم قوة هائلة هؤلاء الجماهير، ولو ألبسناهم أحذية وكسونا أجسامهم التي خشنها البرد والحر وثقفناهم .. ولكن دعنا من الأحلام المؤلمة التي لا فائدة منها ولنعد إلى الحديث عن الأدب والشعر .
لقد كان هذا خروجاً على سياق رسالة تكتبها شاعرة إلى صاحب مجلة أليس كذلك ؟ ولا أدري لماذا يخطر لي أن أرجوك ألا تنشر هذه الرسالة، على الرغم من أنك كنت مدركاً دائماً فلم تنشر رسالة مني .
رسائلي على كل حال فظيعة عادة بحيث لا يمكن نشرها وهذا هو الذي يحميني . لك ومودتي .

المخلصة نازك الملائكة

*************

9

بغداد في 05/06/1953

الأخ الفاضل الأستاذ عيسى الناعوري،
تحية جميلة،

وعذراً عن تأخري في الرد على رسالتك الرقيقة، فقد آثرت أن أنتظر "القلم الجديد" قبل الإجابة، لتحتوي رسالتي على تعليق أو تعليقين يملآن فراغاً فيها، فليس أبغض إلىّ من الرسائل القصيرة .
إني أشكر لك لطفك الذي جعلك ترسل إلينا نسخة من قصيدة والدتي قبل صدور العدد، وقد كلفتني والدتي كذلك أن أبلغك شكرها الخالص وتحياتها . ولم يصلني عدد المجلة بعد لأطلع على مقال الأستاذ علي السطاوي الذي تخبرني أنه ضمن مواد هذا العدد .
أما عتابك حول قلة ما نشر لي في المجلة فأنا أقدره، معترفة بأنني احتفظت لنفسي بمزايا القارئ دون واجب الكاتب المساهم على أنك ولاشك ألطف من أن تجعل العتاب لوماً . وإني لأرجو، مع تمنياتي للقلم الجديد أن أستطيع أن اقوم بالواجب الأدبي تجاهها .
صحة والدتي تتحسّن ولك الشكر على عنايتك بالسؤال، ولك من أبي التحيات والودّ، ومني خالص التقدير

المخلصة نازك الملائكة

***********

10

بغداد الجمعة 1953/07/10

الأخ الكريم الأستاذ عيسى الناعوري،

لا أدري كيف أشكر لك أيها الأخ عنايتك النبيلة بمواساتنا في الفاجعة المحزنة التي ألمت بنا ..، وغيرت وجه حياتنا، وتلاعبت بأحلامنا، فقد كان لرسالة التعزية التي بعثت بها إلىَّ وقعّ جميل على أحزاننا الحارة، فقرأناها وشكرنا حظنا الذي يهيئ لنا مثل صداقتك في مثل هذه الظروف القاتمة التي شاءت الحياة أن تمرّ بها . فلا شيء يمسح الأحزان مثل مودة الأصدقاء وعطف الإخوان، فشكرا لك يا أخي شكرا .
لقد كانت قصيدة والدتي التي نشرتها "القلم الجديد" آخر ما نشر لها حقا، وهو أمر يزيد إعزازنا للمجلة، وقد حملت العدد - وقد جاءنا به الأخ الأستاذ سرطاوي متفضلا - معي إلى لندن آملة أن تتحسن صحة والدتي الحبيبة فأطلعها عليه، ولكن الموت لم يمهلها فأغمضت عينيها قبل أن أريها إياه، وها أنا قد عدت به وضممته إلى حزمة الذكريات الأخرى العزيزة التي خلفتها أمي في وفاتها المبكرة المفجئة، التي لم يسبقها تمهيد ولا إنذار . أقول إنها كانت مفاجئة لأن مرضها الذي كنت أحدثك عنه كان رأي الأطباء وعكة عارضة منتظرة، ولم يخطر لأحد منهم أنه كان مرض الموت .
إنه لطف منك تخصص للكتابة عن فقيدتنا الغالية مكانا في العدد الخاص، وقد كان يسرني أن أبعث إليك بصورة للعزيزة المتوفاة، لولا أن كل شيء في المنزل لم يزل مضطربا، وقد عدت إلى بغداد منذ أسبوع بعد هذه السفرة الموجعة التي تركت في نفسي آثارا لا تمحى . وعلى هذا فأرجو أن نرجئ نشر الصورة حاليا، وسأفرغ قريبا لإعداد صور جيدة لها للنشر، ولا شك في أن إحداها ستكون للقلم الجديد . أما سيرة حياة والدتي فقد لخصتها في خطوط سريعة أرجو أن تكون كافية حاليا، فليس لي من السعة وصفاء الذهن ما أستطيع معه التفرغ للكتابة المقبولة الآن، ولعلك تقدر ظروفي على أن كتابة مقال ضاف عن والدتي واجب عزيز في عنقي نحو والدتي نفسها، ونحو مجلة "القلم الجديد"، فلنكتف الآن بهذا ونرجئ الباقي للمستقبل القريب .
لقد تركت والدتي إنتاجا شعريا ضخما، وكانت تنوي أن تطبع ديوانها الأول هذا الصيف، فأوقفت وفاتها المفاجئة كل شيء ولم يبق إلا أن نقوم نحن بالأمر: أبي وأنا .. وهذا ما قدرت لنا الحياة .. وإنه لعمل مؤلم، ولكنه أيضا سيكون لذيذا إذ نؤدي لفقيدتنا العزيزة واجبا واحدا نفي به بعض ذلك الدين الهائل من الرعاية والتثقيف والحنان والرقة والإنسانية مما غمرتنا به في حياتها الشابة القصيرة . لقد كانت أمي امرأة عظيمة ويشهد الله أنني لا أقول هذا لمجرد كونها أمي .
ومما يهمك أن تعلم، ولا شك، أن أكثر شعرها كان في "فلسطين" فقد عاشت وماتت وهي تلهج بهذا الاسم . أن الحيرة لتملكني وأنا أقلب مجموعاتها الشعرية المكدسة أمامي وأنا أكتب هذا، فهي قد كانت شاعرة فلسطين بحق، ولا أدري كيف يمكن أن يكون أي شاعر فلسطيني قد توجع لقضية بلاده الضائعة أكثر مما توجعت شاعرتنا الفقيدة . وسأرسل إليك بعض القصائد للنشر حالما يهدأ الألم الحاد الذي يشبع جو منزلنا ظلاما ووحدة .
تلقيت الكتابين اللذين أرسلتهما إلي شاكرة، وأرجو أن يتاح لي أن أبعث إليك بديواني والدتي وديواني الثالث في يوم قريب . على أن كتابا لأبي سيصلك قبل هذين . ولك ختاما خالص شكرنا وتحياتنا .

المخلصة نازك الملائكة

****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى