عزة رشاد - الياسمين الشائك

للمانجو أسماء وأصناف عديدة، وبشكل عام فجميعها جميلة ومرغوبة، ينتظرها الناس باشتياق، أما في بيتنا فربما يكون الأمر أبعد من ذلك؛ ففي حملها الأول توحمت ماما على المانجو الهندي، كان ذلك في منتصف شهر “طوبة”، حيث ثمار المانجو حبات زلط مالحة وملتصقة بأغصانها، تحير أبي ثم أفضى بهمه إلى رجل طيب كان مسافراً إلى بلد كان يصعب على ماما تذكر اسمه في كل المرات التي تعيد فيها علينا، بانشراح، هذه الحكاية، حيث عاد الرجل الطيب بقفص مانجو هندي مازالت هي ممتنة لحلاوتها باعتبارها السبب الرئيسي في جمال مولودتها، واعترافاً بهذا الفضل اختارت لبِكريتها اسم “هند”.
هند، أو “مانجايتي”، كما تناديها ماما، أجمل وأكثر سحراً من فاتنات مجلات الأزياء النسائية الشهيرة، وهذا ما جعل خطابها.. يصطفون على الباب.
أثناء حملها بي توحمت على سمك السردين، وتؤكد إنه رغم انشغال أبي بالجرد السنوي في ذلك الوقت لم ينس حاجتها، خوفاً من أن تطلع في وجهي وحمة بهيئة سردينة أو أن أطلع رخوة أو زفرة الرائحة، وإمعانًا في تحاشي الزفارة اختاروا لي اسم “ياسمين”، ومع ذلك تحب ماما أن تناديني: يا سردينة يا صغيرة. كنوع من المداعبة، لكن عندما تكون غاضبة وتنطقها بكرمشة أنفها يداهمني ذلك الهاجس، فأنزوي لأتشمم جسدي وأمرر الصابون فوق وجهي مرات ومرات.
تقرب ماما أنفها من ثمرات المانجو الناضجة ثم تتنهد بحسرة:
– بقت كتيرة.. بس لا ريحة ولا طعم!
لم تقل تعليقها هذا أمام “هشام” عندما أتى حاملاً قفصاً كبيراً قبيل العيد الفائت، بل شكرته وأثنت على كرمه، وبعد ذهابه ارتفع صياحها بالدعاء على الغش والغشاشين.
ماما كانت تعامل هشام بلطف، ما جعله يتخلى عن خجله الريفي وينطلق في الكلام والضحك كأنه بين أهله، تبتسم وهي تأخذ من يده “دكر” البط وكريات الزبدة البلدي، ثم تبدأ ساعاتها بالمطبخ لتعد لنا أشهى الطعام، ينتهي من الأكل ويقبل يدها ممتناً، فيما تصعد أبخرة المحمر والمشمر إلى أنف “أم حمزة” بالطابق العلوي، فيدفعها الحسد إلى أن تستوقفني عند البقال بأسئلتها الخبيثة عن موعد زواج هند، عندئذٍ كانت الرائحة الزفرة تعود لتهاجمني، فأنكمش في نفسي وأتلعثم عاجزة عن الرد، كان ذلك عندما كنت صغيرة، الآن صرت أتراجع إلى الوراء مشمئزة من رائحة عرقها التي لا تقارن بعطر الياسمين الذي صرت أضمخ به ثيابي كما أمعن في غيظها بنظرة مناكفة، مختلفة عن الأخرى المهمومة في هذه الصورة التي التقطها لي هشام لحظة أهداني الموبايل عندما انتبه لشغفي بالتصوير، فقد كنت لحظتها أفكر في الوقت الذي سيمر قبل أن يتراجع هذا “الكريم: هشام” عن تقديره لتلك الفضيلة، ثم سرعان ما أنساني فرحي بالكاميرا مثل هذه الهواجس. في الصورة التالية تظهر أطراف أصابع هشام وهي تضغط يد هند أثناء إلتقاطه الأطباق منها، أما هذا الجلاديولس الفاتن فقد اخترته من باقات “سعيد”. كان طيبًا، رومانسيًا، ومتيمًا بهند، كأنه يقدم لها مع الورد قلبه، فيما هي تبتسم ابتسامة متكلفة ثم ترمي الورد بضجر بعد ذهابه، فتنحني ماما لتلملم الوريقات القطيفية المتطايرة، ما اضطرها، بعد فترة، للصياح في وجهه مؤكدة أن شراء الورد حرام…
– مالوش فايدة يا حبيبي. يدوبك سواد الليل ويطلع عليه النهار دبلان.
حملق، بحرج، في الورود، ثم قرر أن يدعها فوق أغصانها ويقطع الطريق إلى مدرستي ثم إلى مصلحتيّ الكهرباء ومياه الشرب ليسدد فواتيرنا المتأخرة، لكن لا الورد ولا الإيصالات نجحا في تغيير ابتسامة هند المتكلفة. تطوح شعرها الأسود الطويل فيفوح العبير الآسر لثمرة مانجو ناضجة على عودها تنتظر القطاف، تتعلق بها العيون والقلوب فيما هي تخطو بعينيها الناعستين كالتائهة، تبحث ولا تعرف عما تبحث، تمضي، بتأرجحات مروعة في المزاج، مرحة في بعض الأوقات، وضجِرة في أغلبها؛ لأقل سبب تزمجر وتصب غضبها عليّ أنا وماما التي تحتملها بسعة صدر مذهلة، فيما أجدني ألوذ بكاميرتي التي لم تعد تفارقني. هند لم تحب التصوير، بل تدمن مطالعة صورتها في المرآة من زوايا مختلفة – مع أنها جميلة في كل الحالات !! – فهي لا تهتم سوى بنفسها ولا تطيق الوقوف بالمطبخ لأكثر من خمس دقائق، الشيء الآخر الذي يستهويها هو سماع الأغاني العاطفية، إذ تتماهى مع أحلام يقظتها، وترسم صوراً لفارسها المنتظر الذي، لم تجده في هشام الذي أظهر تخليه عن خجله طابعه الريفي المغاير لأحلامها، ولا في سعيد الهائم بحبها حد حصارها وإضجارها، بينما أنا أحببتهما كليهما، كما أحب كريم الآن وتمنيت أن تتزوج أياً منهم. ماما أيضاً شملتهم بلطافتها لأنها طيبة ولطيفة مع كل الناس، عدا.. عندما يتطلب الأمر غير ذلك، مثلما حدث مع “رءوف اللبان” عندما انقلب من ملاك إلى شيطان حسب قولها. هند، من البداية، لم تحب رءوف، بل اعتبرته دنيئاً وصدقت ما لم تصدقه ماما عن بودرة السيراميك ومحلول الفورمالين وغيرها من مواد ضارة يقول الناس إنه يغش بها اللبن.
تقول ماما إن الخطوبة اختبار، كلهم يدخلون بيتنا بفرح، تطيب الليالي وتعمر السُفرة بصنوف الأطعمة وترن الضحكات، وأعتاد على الواحد منهم كأنه أحد أقاربنا، إلى أن تظهر هي بتلك السحنة الغامضة:
– شقة تمليك باسمها. أبوها زارني ليلة امبارح وحكم بكده.
عندئذٍ يتقوض الحلم، وتعلّق نتيجة الامتحان.. لم ينجح أحد.
لا أعرف سر زيارته لماما في هذه الأوقات، عندما يبدأ الواحد منهم اعتياد البيت، ويحاول أن يأخذ أكثر مما تسمح به لجنة الامتحان.
عادة ما تترك هند خدّها للواحد منهم يقبله، كأن هذا الخد لا يخصها، وفي أغلب الأحوال تلتفت وتمسح القبلة باشمئزاز، تحد ريبة بحيث وقعت القبلة في مرمى بصرها تماماً، لم يبد أنها رأتها. كانت المسكينة سرحانة تفكر بما بينها وبين أبي، فهمومها تفوق طاقتها وتصقل صوتها بنبرة آسية حينما تلوم أبي:
– إخص عليك يا عبد الرحيم. ارتحت وسيبتلي الهم ده كله لوحدي.
وأحياناً تنتحب: اللي مات جوزها.. يا غلبها وعوزها.
تبدو لي ضعيفة في هذه اللحظات، وينسدل جفناها مكرمشين فوق عينيها، وهو نفس ما يحدث حينما تعاملها هند بقلة احترام، وتصدر لها أوامر واجبة التنفيذ، بإعداد عشاء مخصوص أو بغسل ثيابها، فتطيع أوامرها، بينما أمضي أنا وراءها كظلها، تدفعني شفقتي عليها إلى تحمل الأعباء عنها، وفي بعض الأحيان أحس بغصة عندما أراها تعود وتتذلل لهند على نحوٍ عصي على التبرير، أو عندما تكرر عليّ حكايتها المحفوظة عن الداية الغشيمة التي ضغطت صدر بكريتها الطري وهي تسحبها من رحمها كسببٍ يجعل هند.. غلبانة “خلقها ضيق”. تقول ذلك فيما ينسدل جفناها أكثر وتمشي كالمغمضة، على خلاف باقي الأوقات، فما أن يعلن الواحد من هؤلاء العرسان عجزه عن تقديم مهر هند كما أمر أبي، حتى تتسع عيناها ويتعاظم صوتها وتستميت في الدفاع عن حقنا في الذهب…
– إنت اللي فسخت الخطوبة. تبقى الشبكة من حقنا يا ابن الأصول.
– أنا اللي فسخت!!
رءوف هو الوحيد الذي لم يطلع من أولاد الأصول، إذ رج صوته البيت:
– حقكم!! آه يا نصابين يا نَور!!
اضطرت في النهاية أن تتنازل عن الشبْكة، وابتلعت إهانات غشَّاش اللبن كي تلملم الموضوع ولا ننفضح في الحارة. يكفينا طول لسان أم حمزة، إضافة إلى ما يبعثه مشهد الشقة – التي يتناقص، بالأخص، القطع شبه الثمينة من أثاثها – من تشاؤمٍ لازمنا إلى أن دق كريم الباب لكي يخطب هند، فعادت لبيتنا الروح. لم نحب رءوف، أما هشام وسعيد فكانا طيبين، تركا كل شيء وخرجا من سكات، وبعد أكثر من عام صافحني هشام بمودته المعهودة عندما التقيته مصادفة في الشارع، ولسوء حظي كان الموبايل في يدي، ووقعت عينه عليه، لا أعرف بمَ فكر؟ فهو لم يقل شيئاً. أنا أيضاً لم أقل شيئاً لماما عن الحرج الذي داهمني في تلك اللحظة، يكفيها ما تعانيه، فعندما أشكو لها لسان أم حمزة الطويل تجحظ عيناها وتصيح: ماحدش له حاجة عندنا. مؤكدة أن أحداً لم يساعدنا فى الأيام الصعبة.
لم أسألها بكم باعت الذهب؟ وهي لم تذكر، في أي مرة، أنها باعته.
في الشرفة التي تحتل حزم الثوم والبصل أحد جدرانها، يوجد على أرضية جانبها الآخر كرسي من الخيزران كان يجلس عليه رجل أسمر طويل القامة، ذو وجه مستطيل وعيون عسلية، اعتاد أن يقص للناس أمتار الكستور ويزيد عليها عدة سنتيمترات وابتسامة بشوشة. كان طيباً وكريماً، واسمه عبدالرحيم، يحرص، في أغلب الليالي، على أن يجلسني على حجره ويحكي لي حواديت “عقلة الصباع″ و”علي بابا والأربعين حرامي”. لم أكن أستوعب كل حكاياته لكن البهجة التي يدفعها حنانه بداخلي كانت تجعلني أقهقه برنين عالٍ؛ الآن تبدو ضحكاتنا غريبة وجوفاء، وأضبط نفسي، في سكون الليل، حريصة على أن لا تصدر مني أية حركة، بينما أراقب هند تتقلب في فراشها صامتة، وأصغي لوقع خطوات ماما الهامس في الصالة، فأشعر بأننا شركاء في لعبة، تتظاهر كل منا بأن كل شيء على ما يرام، كأن هناك من وعدنا بأننا إذا فعلنا هذا سيصبح كل شيء على ما يرام بالفعل، لكنها ليست غلطة ماما، فقد مات أبي ولم يترك سوى نصيبه في دكان القماش الذي يستأثر به عمي الآن، ويرمي لنا أول كل شهر مبلغاً ضئيلاً متعللاً بالسوق النائم والحال الواقف، بينما نسمع من الناس عن أرباحه الوفيرة التي يبددها على نزواته ويدعي لزوجته التي يخافها “موت” ويعمل لها ألف حساب أنه يقتل نفسه في الشُغل!! لم تكن غلطة ماما فقد عملت كل ما في وسعها من أجلنا، لذا كرهتُ رءوف الذي سبها وفرّج علينا الحارة وتسبب في شماتة أم حمزة، وبتدبير الله فقد نال جزاءه عندما أغلقت الشرطة دكانه بالشمع الأحمر، أم حمزة هي الأخرى ما كان يجب أن تثرثر بأكاذيبها مع البقال أو أن تتسحب على السلم وتتنصت على جيرانها، لو بقيت في بيتها، كافية خيرها وشرها، لما انزلقت فوق قشرة الموز وانكسرت ساقها، لو أنها فقط أبقت فمها مغلقاً..!!
مع أن الفرق بيني وبين هند لا يزيد عن أربع سنوات إلا أن ماما تحسبني مازلت الصغيرة التي تختبئ في طيات الستارة أو تحت المائدة، تحسبني لا أفهم ما بينها وبين هند من أسرار تجعلها تتوقف عن الكلام عند ظهوري أو تسارع بصرفي، على الفور، بحجة ما، وهو ما كان يغضبني، عدا أني كنت أمسك لساني عن الصياح: أنا هنا، ربما لا أكون قليلة النفع إلى الحد الذي تحسبينه. الآن لم أعد أغضب بل أضحك منها لكونها لا تعرف شيئاً عن أسرار سردينتها الصغيرة، وفي الغالب كنت سأظل صغيرة بل لقمة سائغة لولا مَدرسة الثانوي وحكايات البنات التي أكسبتني الكثير من الخبرات التي يعيش بعض الناس عمرهم كله دون أن يدركوها، إضافة إلى مهارات أخرى، أكثرها إثارة فنون الدفاع عن النفس وأكثرها نزقاً لعبة تحويل البوصة إلى عروسة بأبسط الأدوات، مادام هناك دماغ يكدح، حيث بلغت من المهارة حد أن الأمر لم يعد يستغرق سوى دقائق خمس أقضيها في بئر السلم، أخرج، بعدها، للعالم في غاية الجمال ولا أنسحق أمام زميلاتي المتكبرات بجمالهن كما كان يحدث في العام السابق، الآن صارت لي مكانة انتزعتها بكدي، أما الشيء المؤسف فهو أنني وحيدة، ثمة شئ داخلي يفضل الابتعاد والاختباء وراء هذه الكاميرا التي صارت صديقتي.. اللدود.
أقضي اليوم أتجول في الممرات وألتقط الصور، وثقت مواقف طريفة وأخرى طائشة للبنات والمدرسات، أشياء لا يصدقها عقل، ولم أُرِها لأحد؛ يكفيني وجودها بحوذتي الذي يمنحني شعوراً بالزهو، وأحياناً بالأمان.
أكثر من نصف الصور لأمي.. وداعة عنقها المسترخي أثناء النوم، أناملها الرفيعة المتفننة في تقطيع الخضار، الرقة التي تتحرك بها شفتاها هامسة: “من شر حاسدٍ إذا حسد” وهي تسرح شعرها الطويل الذي ابيض أغلبه، تموجات ذراعها تدور بالمبخرة قبيل صلاة الجمعة، قطرات الدمع المنزلقة فوق كرمشات جلد ما تحت عينيها حينما ترفع صوتها بالدعاء على من ظلمنا، ضحكتها الذابلة أثناء حكيها عن أبي، ثم عضها على شفتيها. لقطات جميلة لا يفسدها إلا اقتحام هند الذي يجعل يدي ترتعش فتأتي الصورة مهتزة ويظهر وجه هند، على الأخص، منبعجاً من أحد جانبيه بشكل يضحكني ويغيظها، لذا عوضتها بصورة منفردة، رائقة.. بفرع ياسمين أضاء وجهها وشعرها وجعلها أكثر رقة من ملكة متوجة تأمر فتطاع؛ طلبتُ منها ذات مرة أن تصورني فلم تفلح، بينما نجحتُ أنا في تصوير نفسي بكادرات تظهرني في غاية الجمال حازت إعجاب زميلاتي، وعمدتني، لديهن، فنانة حقيقية، أما أحب الصور لقلبي فهي التي تظهر ذكاء سردينة صغيرة تنجح في المروق سالمة من هجوم شرس لعدد من الدلافين الضخمة. التقطتها في يوم رحلة مدرسية لمتحف الإسكندرية للأحياء المائية. أعجبت مُعلمة الفلسفة بهذه الصورة، لكنها بعد أن قلّبت باقي الصور شحب وجهها، وأرغمت نفسها على الابتسام وهي تثني على موهبتي، ثم رمشت عيناها مرتين قبل أن تتنهد وتحذرني من مغبة عدم إدراك الهدف الأخلاقي للفن. لا تعرف هذه المرأة كم أحبها، وكم أكره أن أكون مثلها، يُحملها زملاؤها حصصاً زائدة وأعباء فوق طاقتها فلا تعترض؛ تسمعهم يتندرون على طيبتها أو “عبطها” فتبتسم متظاهرة بالصمم ثم تميل كي لا يرى أحد بكاءها على “القيم التي انعدمت”، أو تأتي لتعطيني محاضرة لمجرد أنها ضبطتني بإصبع “الروج” في يدي أعلم إحدى زميلاتي درساً في أسرار التجميل؛ لا أريد أيضاً أن أكون مثل أمي رغم حبي التعس لها الذي يجعلني أخضع لإصرارها على معاملتي كطفلة، وأتقبل سماحها لهند بأشياء كثيرة تمنعها عليّ، فحتى المرة الوحيدة التي رأتني فيها بالماكياج كان ذلك رغماً عني، كنت مغلقة عليّ باب غرفتي كي لا تشعر بي، وأصغيت، رغماً عني، لنقارهما الصاخب بشأن كريم:
– خلاص روحي اتجوزيه. واحنا لنا ربنا. قالت ماما، فردت هند:
– لأ مش هأسيبكم. بس لازم نرجعله الشبكة. بلاش تصغريني قدامه أكثر من كده.
بدأ الموال المضني. لا تريد ماما أن تقر بأن هند أحبت كريم بالفعل، فهو الوحيد الذي صارت قبلته تعنيها، الوحيد الذي أحسستُ منذ اللحظة الأولى لدخوله بيتنا بقدرته على تلبية شروط قلبها وتمنيتُ أن تتزوجه وتريحنا، ولم يتطلب الأمر سوى لفت نظره لطبيعتها الحالمة المختبئة وراء كبريائها اللعينة، لكن ماما عصبت رأسها بعصابة داكنة وبدأت تشكو من قشعريرة بعمودها الفقاري بمجرد أن طلب كريم التعجيل بالزواج، فيما عايشتُ أنا كرنفالاً من المشاعر، بدأ بالتشفي في هذه المتكبرة، ثم الحسد الذي ضبطته يغشاني وأنا أراقب العاطفة المتأججة أثناء تبادلهما قبلات ندية، طويلة ومدهشة، حتى انتهى بالشفقة على الوجه القمري الذي انكمش ودكن مثل رغيف بائت؛ وبالرغم من أن معاناتها قد قللت من تطاولها على ماما إلا أن هذا لم يبد مبشراً بخير، فالنظرات الجهنمية التي راحت ترشقها بها كانت تنذر بانفجار وشيك ومدمر لثمرة مانجو جميلة وناضجة.. ولا عقل برأسها. نزلت هند على بوزها وأربكت ماما التي أغلقت عليها باب غرفتها ونامت طويلاً ثم صحت وأملت على كريم طلبات أبي المعتادة.
– زيه زي غيره. قالت ماما، فردت هند بانفعال:
– لأ مش زي غيره. إنتي اللي ربنا عامى عنيكي.
أعرف أن ماما كثيراً ما تغمض عينيها، لكنها ليست عمياء، بل شاخت فجأة، فقدت حيويتها المعهودة وحماستها لإعداد المأكولات الشهية، وراحت تسهو وتجرح أصابعها وهي تقطع الخضار كما رأيتها تغلق أذنيها متألمة من بقبقة الخنفساء المستوطنة للبدروم منذ سنوات، التي اعتدنا صوتها كموسيقى تصويرية مكملة لصورة لحياتنا، لذا أزعجني تمادي هند في إهانتها وهذا ما جعلني أندفع خارجة من غرفتي وأصيح غاضبة:
– سيبيها تتجوزه وتريحنا. أنا معاكي ماتخافيش.
حدقت إلىّ، بفزع، بداية من المشابك اللامعة بشعري حتى طلاء أظافر قدميّ – لسوء الحظ كنت قد بالغت لأشغل نفسي عنهما – ثم صاحت:
– إيه الزفت اللي إنتي عاملاه في روحك ده!!؟ إجري إغسلي وشك.
مازال لساني يحتفظ بعطر الياسمين ممزوجاً بطعم بودرة ظل الجفون وأحمر الخدود اللذين أسالهم ماء الصنبور في تلك اللحظة، فيما كانت أذني مشرئبة نحو صوت أمي وهي تبتلع إهانتها وتستكمل توسلها إلى هند.
كثيراً ما أغضب من أمي وقد أثور عليها، قد أتوعدها في خيالي، لكنني لا أسامح من يسئ لها، وبفضل الله فقد نال كل منهم جزاءه العادل دون أن تعلم هي شيئاً عن إصبع الموز المغربي الذي أكلته بتلذذ ثم رميت قشرته أمام الباب، أو عن الشكاوى التي حملها البريد وأسلاك التليفونات إلى مصلحة الغش الصناعي وجمعيات حماية المستهلك، ثم ظهر عقبها البوليس وأغلق دكان رءوف، ما كبده أضعاف ثمن الشبكة أتعاباً لمحامي عُقر حتى أخرجه من القضية بسلام، أما عندما سيأتي عمي ويسلم أمي حقنا كاملاً فسأشاركها دهشتها وفرحها ولن أذكر شيئاً عن العاملة الشابة الغلبانة التي أحتفظ بصورة عمي باركاً فوقها في خلفية الدكان. كانت إرادة الله وحده أن تذهب سردينة صغيرة لتطلب منه مبلغاً بسيطاً من المال، ولو على سبيل القرض، هكذا أوصتها أمها، فوصلتْ في هذه اللحظة كي ترى ما رأت، لم تسمح لها أخلاقها بإخبار زوجته عن أفعاله المشينة، وكان الأفضل أن يعيد المال لأصحابه.
في الأيام الآتية سنرتب، أفضل ما يكون، لزفاف هند حتى بيت زوجها وريثما نعود، أنا وماما، لبيتنا، سيكون موسم الياسمين على الأبواب.


القاهرة


عزة رشاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى