رسالة حسن مطلك إلى فارس السردار

14 - رسالة من حسن مطلك إلى فارس السردار

فارس الصديق جداً.

لقد ولدتني كلمة، ومضيت حياتي أعجن الفكرة لأحولها إلى شكل فأنفخ فيها فتصير كلمة، أنا أيضاً أحب الباذنجان كالقطيع، إنما لا يميتني شيء كالكلمة، الكلمة.
كل شيء، كل عبث أحببته، كل تخريب ضد الضمير ـ الحصاة، الذي وهبني إياه الآخرون، كل الميتات التي متها، الزيجات اللاشرعية، الحرف الأول من توقيعي الذي أحببته حب التجار لأوراقهم… ربما كل ذلك يذهب بعيداً، ربما يعلق بسنارات المغفلين، غير أنني "سأبقى ضبعا ..الخ" كما قال عني رامبو. أو أبقى شبيها لأليوت "أيها النمر القارئ المرائي.. يا شبيهي، يا أخي".
أعرف بأنك، حين تكتب إلي، وباختصار، إنما تحثني على أن ألعنك، لعلك اشتقت إلى لعناتي كثيراً، وأعرف بأنك تعرف بأنني أعرف نفسي حين تواجه القلم والورقة البيضاء الرهيبة، إنما تقوم بفعل التخديش الذي يعلو على الانفعال والبكاء شوقاً إلى أصابع الأم. يا صديقي الجميل: إنها العبارة القديمة، لطالما أضحكتك: "أنا أملك طاقة لا أعرف كيف أبددها".
والآن مرت طائرة من فوقي، وارتفع صياح المؤذن، ولأنني بدأت أنظر إلى الله بحياد، ربما لأنني أقتعد صخرة من صخور الفلاحين السذج، حيث الأشياء الوحشية، أشياء الأخوة البشر، وحيث الذعر الدائم من مخالب الأنثى الرقيقة.
أرفع سبابتي أمام عينيك، أهدد وأحتج: من قال بأنني هُزمت وأن العبارة، أصبحت خربشة؟ إذا سمعت أن حسن مطلك توقف عن العبث والقلق والكتابة فاعلم أنه قد توقف عن التنفس. قال لي نقيب حقير:
ـ كف عن هذه القصص التافهة.
ـ سيدي، إن قرار إعدامي أسهل من هذا الطلب الذي جاء بصيغة الأمر.
حسن مطلك يكتب ويكتب، ولا يؤجل. المرأة والكلمة والصديق هي عناصر لحياتي، أو ألوان أساسية في رأسي.
ذات ليلة خرجت شمس الجنوب من الأدغال، حارة لتوها، كأنما خرجت من فرج عذراء، كذلك كانت لزجة، رغبت أن أكون كئيباً، وهكذا أصبحت. أردتك، ربما أردت صديقاً آخر. لا شيء، لا شيء غير العدم. كان محاوري يتحدث عن النساء بصيغة الافتراس، وكنت على يقين بأنني سأقتله بعد دقائق إذا استمَر. ولأربعة أيام صمت عن الطعام والحديث، لم تنفع محاولة الأخوة السذج في إقناعي، لا بتقديم الشَربَت، ولا بإعداد الشاي على خشب صناديق العتاد.
أردت أن أخرج من ظلمتي، وأمزق ردائي الكهنوتي العاهر، فتذكرت منفى دستويفسكي، في رواية (ذكريات من بيت الموتى)، وقارنت، ثم خرجت عندما سبقني العريف دستويفسكي بالرتبة والكآبة. شكراً دستويفسكي لقد فتحت شهيتي فشربت كل زجاجات الشربت الصناعي المزيف.
كتبت رواية أطلقت عليها اسماً يشبه عناوين الأفلام. هكذا (دخول الأفعى المجنحة).. كتبت في آخر صفحة "انتهت" وختمتها بتوقيعي الجميل.. قالوا لي سنفحصها ثم نبت في أمر نشرها. قلت افحصوها. وهم يفحصونها الآن لتقرير صلاحيتها للنشر.
وإذا كانت أخباري قد انقطعت في الجرائد فهذا ليس ذنبي، لدي قصص كثيرة مقدمة للنشر، في (الأقلام) و(الطليعة الأدبية)، ماذا أعمل إذا كان الموظفون في مؤسسة الأدب يخافون على رزقهم بسبب افتتاحي لدكان صغير يبيع الكلمات في نفس الشارع، ربما لأن بضاعتي أفضل فقد حجبوها عن المشتري، لا تتأسى على كل حال، أنا أستطيع صناعة "قنبلة نووية" وإبادتهم، ولكنهم مزقوا قميصي.. وبقلمي وحده.. ربما بقلم رصاص أستطيع تخديشهم حد الموت.
كانت أجمل قصة كتبتها، وهي نائمة من ستة شهور في سجل الوارد لمجلة (الأقلام). قصة (ولدان وبنت حلوة).. كانت قفزة من قفزاتي حسب تقديري ومن خلال مراقبة نفسي. آخر ما كتبت قصة حربية سميتها (مستوى النار) وستعلن النتائج في نهاية شهر آب القادم ولن أفوز لأنهم لم يفهموها.
الآن أصبحت لي لغة خاصة، لكن لم تصبح لي قناعة خاصة بشأن شيء... ربما بعد حين ستسمع بأنني غيرت اسمي وتاريخ ميلادي، أنا الفتى الأخضر السعيد، كنت سعيداً، والآن صار من المحتمل أن أكون سعيداً، وربما في المستقبل أقول لك: من المحتمل بأنني كنت سعيداً. كل ما أعطتني إياه العسكرية هو خمسة كيلوات من اللحم، أضفته إلى وزني السابق. وأخذت مني كل شيء: الأصدقاء، الحبيبات، البهجة.. ومنعتني من مواصلة كتابة الرواية القديمة التي تسال عنها. وأنا أعتبرها مشروع الانتصار، أو القنبلة التي ستخرب دكاكين الأدب على رؤوس أصحابها. إنها تحتاج إلى كذا سنة من التفرغ والاحتراق، ولكن لا يمكن أن أخلعها من رأسي لحظة واحدة، مثلما لا يمكن محو الذكريات التي تحمل رائحة زهر البرتقال وطعم القطيفة القروية.
يا صديقي يا صديقي. أردنا أن نخوض خضم الأدب، وصعب علينا الرجوع إلى الضفة. لقد خلقنا الله أدباء، ولن يميتنا إلا أدباء، كما مات (فتز جيرالد) على أرصفة أمريكا، أو (إدغار الان بو) مات متيبسا على مقعد في حديقة، أو يقتلنا الخمر كما قتل صموئيل بيكيت وجه البومة.
لا شيء أشق من الكتابة، ولا شيء أصعب من نكرانها أو نسيانها، ولا شيء أصعب على الإنسان من الصدق والبراءة، ولقد ربطنا حلف بأقلامنا بأن نظل أطفالاً حتى سن التسعين، إذا لم نمت بالسكتة القلبية فلن نموت بالسكتة الأدبية... هذا هو حسن مطلك.
اكتب أيها الفارس، لوث الورقة، قل أي شيء، ولا تمهد للسكوت الأبدي، فإن من يعود نفسه على الكسل فإنه يحبب إلى نفسه الموت. اطمئن، وأريد أن أطمئن عليك.. أُريدك فوق مستوى اليوميات، والمشاريع المؤجلة، لقد زرع الله اللذة في المرأة وزرع في الرجل الطموح.
والســلام.

حسن مطلك

في 19/7/ 1984

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى