أربع رسائل بين محمد شكري ومحمد برادة

* من محمد شكري...

العزيز محمد...

أكتب لك من فراشي. دخلت الي شقتي في الخامسة مساء، الساعة الآن التاسعة. تعشيت جزراً وبصلاً وخرشوفاً وزيتوناً وجبناً عربياً. أشرب ما تيسر، أستمع الي برامز.
انتهيت منذ لحظة من مراجعة قصتي المستحيل . كتبتها عام 67 وأعدت كتابتها عام 70.
أستمع الآن الي ليو فرّي. الفأر الذي أتحدث عنه هنا كان يريد أن يكون صديق محمد زفزاف. كنت أسكن منزلاً أرضياً في طريق رابليه. كان زفزاف يحب النوم في المطبخ الكبير. الفأر يحب أن يلعب الاستغماية فوق وجه زفزاف النائم. ضاق زفزاف بهذه الغميضة . ينهض مراراً صارخاً طالباً مني أن أقتله. أمسكت هراوة صغيرة واختبأت له في ركن من المطبخ والنعاس يغلبني. زفزاف نائم وعلي وجهه فوطة. ظهر الفأر الصغير محدقاً فيّ بلا خوف. لم أستطع قتله. شيء نحيل! كان جميلاً ومسكيناً. لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك! فقد كف عن المجيء.. ربما أدركته حكمة الفئران.

أنا ماض في استنساخ القصص اللّيست مضروبة علي الآلة. اخترت 18 قصة، الأخري مزقتها. اثنتان منها نشرتا: بائع الكلاب في مجلة الآداب عام 69 و الجنين لم يتحرك في مجلة 2000 التي أصدرها عبدالجبار السحيمي. أيضاً مزقت رواية الليل والبحر التي كتبتها سنة 66. احتفظت بفصل منها. سأحوله الي قصة قصيرة بالعنوان نفسه. هل يتنكر الإنسان حتي لنفسه؟ نعم وحتي الموت!.
إنني أطهر نفسي. الكتب تنام معي. عادة اكتسبتها منذ سنين. القراءة والكتابة في الفراش. مذكرات اللص لجان جنيه أعيد قراءتها بالفرنسية والإسبانية. كذلك أقرأ تاريخ العلم لجورج ساتورن، شعراء المدرسة الحديثة لروزنتال، مجلة عالم الفكر العدد الخاص بالزمن . وقصائد حب علي بوابات العالم السبع للبياتي. غارق في القراءة، لكن الإحساس بالكتابة لم يغزني بعد.
أتردد علي مقهي روكسي أو إسكيما.
تحياتي.
م. شكري

***

* من د. محمد برادة...

العزيز شكري...

أثناء رحلتي الي الاتحاد السوفييتي الأخيرة قرأت كتاباً نقدياً بعنوان بين تولستوي ودوستويفسكي للناقد البريطاني ج. ستنير، أثار في نفسي إيحاءات خصبة ونبهني الي هذين العملاقين اللذين كنت أهتم بأحدهما دوستويفسكي وأكون حكماً سطحياً عن ثانيهما.. وقد عدت الي بعض مؤلفاتهما وإلي بعض الكتابات النقدية عنهما (ما كتبه لينين، وغوركي)، فوجدت أن الرواية الروسية في القرن ،19 تستحق اهتماماً أكبر لأنها تخرجنا من شرنقة الرواية الواقعية الأوروبية ومن وصفاتها المحددة الساعية الي فهم دينامية مجتمع دستوري رأسمالي بتصورات عقلانية .

هنا عند تولستوي، العودة الي الرواية - الملحمة، الممتدة الشاسعة، المهتمة بالحسي، وبالجسدي سعياً لفهم ما هو أوسع.. وعند دوستويفسكي، إحياء للتراجيديا الإغريقية بدون مسرح. هل حقيقة أن ما شغلهما هو الله فقط؟ أم أن الأمر يتعداه الي كنه الحياة؟ الي ملاحقة الحي في تناقضاته اللامنتهية، وفي جدليته الروحية علي حد تعبير تشيرنشيفسكي (صاحب رواية: ما العمل؟ ).

وجدتني أفكر في أدبنا المغربي. يخيل إلي أن هناك شيئاً كبيرا ينقصنا، ركيزة غائبة تجعل كل الكتابات معلقة في الفضاء.. قد يكون من المحتم علينا أن نبحث عن شيء يجعل انتاجاتنا ممتدة في الماضي وفي المستقبل من خلال مراهنة علي مسقط رأس لا يفسره العقل وحده، ولا الأرقام والاحصائيات ولا التحليلات الأيديولوجية.

ذلك الشيء الذي يتيح ل آناكارينا أو الجريمة والعقاب أو المهانون أن تنتصب شامخة أصلب من كل المؤسسات قبل الثورة وبعدها. تلك الثورة التي كانت ضرورة تاريخياً.

أردت أن أشركك معي في هذه الخواطر التي ترن في ذهني عبر ضوء الظهيرة الساطع، في يوم مشمس وسط الخريف، ومستجمع يبدو فاقدا لكل مبادرة حقيقية.

***

* من د. محمد برادة...

عزيزي شكري...

التحيات

أكتب إليك في نهاية هذا الصباح قبل أن أتوجه الي مسجد باريس لتوديع جثمان المناضل الفلسطيني عزالدين القلق، ممثل منظمة التحرير بفرنسا الذي قتلته رصاصات عربية!.

لقد كانت لي علاقة صداقة حميمية مع عز الدين وكنت أعرف نزاهته وكفاءته وخاصة تفتحه وذوقه الفني وخفة روحه.. ورغم أنه كان يعرف مطاردة عناصر أبي نضال الفاشيست له، فإنه لم يحم نفسه ولم يهرب من الساحة.. ألم كبير يستولي عليها جميعاً، وعلي ليلي التي كانت تعمل مع عز الدين هنا عندما كانت مسؤولة عن الطلاب الفلسطينيين.. إن الرغبة في فرض الوصاية عند الأنظمة العربية التقدمية ترمي الي خنق الثورة الفلسطينية وخنق كل أمل في تطور ديمقراطي تقدمي حقيقي، بالعالم العربي..

أجلت سفري الي بيروت في انتظار أن تنجلي الأحوال.. لم أتلق منك كلمة تطمئنني علي صحتك وعلي الأصدقاء وعلي الإشارة: هل صدر العدد 3؟ والرابع؟ ما هي أصداء مهرجان أصيلة؟.. المفروض أن يأتي الطاهر بنجلون الي باريس يوم 9 غشت.. إذا كانت هناك أعداد من الإشارة، أرجو أن تسلمها له.

في انتظار أن أقرأك، تحياتي وتحيات ليلي.

***

* من محمد شكري...

العزيز محمد...

أرسلت لك 21 قصة. ودون أن أدخل في التفاصيل فإن بعضها ترجمه بول بوولز ونشر في مجلات أمريكية وانجليزية. أنا علي يقين لو أني احتفظت بالقصص التي أرسلتها لك لمزقت بعضاً آخر منها. لا أبالغ إذا قلت لك بأني في حاجةدائماً الي من يحفزني علي العمل. فلولا بوولز لما كتبت سيرتي الذاتية، وجان جنيه وتينسي وليامز في طنجة المذكرات الأخيرة في حوزة الوكالة التي تشرف علي نشر أعمال تينسي. أكيداً سينشرونها مع تقديم له كما وعدني هو بنفسه عندما كان هنا منذ ثلاثة أشهر تقريباً . إنني مصاب بالكسل اللذيذ وأيضاً بهوس الكتابة الي حد الانهيار. في العمق أفضل الانهيار في الكتابة. ليس كل ما فيّ بليداً.

|||

أم كلثوم تغني علي بلدي المحبوب. اشتغلت حوالي أربع ساعات في منزلي. اشتريت أرنباً طبخته بالبصل والزبيب.. منذ أيام وأنا أعيش علي المعلبات. هذه عادة سيئة.
بدأت أتعود التنقيح علي الآلة. منذ أسبوع وأنا أحس بألم في جنبي الأيمن. كل شيء محتمل. صحيح انني استهلكت نفسي بما فيه الكفاية، لكن لولا ذلك لانتحرت منذ زمان.
ردك علي ما كتبه أحمد صبري أعجبني. إن الجزر قد بدأ يجرف بعضهم الي البحر الميت. الأدب المناضل. من يكتب الأدب المناضل بالمعني العميق في المغرب؟ هناك قصص، أشعار ومقالات. هذا لا ينكر هل عندنا من كتب شيئاً في مستوي الشرط الإنساني والأمل لمالرو أو لمن تقرع الأجراس لهمنغواي وأفول القمر لجون شتاينبك؟
أرجو أن تنشر يطو في المحرر حتي يتوفر لي بعض المال لأنني مفلس مادياً. طلبت من الفؤادي أن يبعث قصيدة الي آفاق. المهدي أخريف أطلعني علي قصيدته الأخيرة قطرات. أعجبتني.
كتبت الي عبدالله جبيلو الذي يترجم سيرتي الذاتية الي الإسبانية لكنه لم يجبني.
لم أفهم معني كلمة كتبتها لي في رسالتك تمحل؟ لم أجدها في المنجد الصغير. لا بد أن أشتري قاموساً كبيراً. أرجو أن تعينه لي لأني لا أفهم في القواميس.
هذا المساء، اخترت اسمهان. إنها أكثر حميمية من أم كلثوم. لا أحب إلا قديمها. لقد توقف ذوقي عند الأطلال والرباعيات وربما الآهات.
أقرأ تاريخ طنجة الوجيز.
كتاب حافل بالأحداث الاجتماعية والتاريخية عن طنجة، لكن أحكامه فاشيستية عن المغاربة البسطاء، وهو يقبل مؤخرات الحكام المغاربة المتعاونين مع الاستعمار الاسباني والفرنسي. مع ذلك فأنا أستمتع بقراءته لما فيه من معلومات، غير أنه ينبغي التعامل معها بحذر.
لا أملك إلا نسخة واحدة من الخبز الحافي. يلزمني استنساخها. وهذا يتطلب مائة درهم لا أملكها. سأدبرها.
الألم يخف في جنبي ثم يعاودني. طنجة لا يبدأ موسمها إلا في مارس. صارت لي عادة الاستيقاظ في حوالي الخامسة صباحاً أشرب كأساً من ماء التفاح المغلي. أدخن سيجارة أو اثنتين. أسمع الأخبار بالإسبانية. أسترجع حياتي وأتأمل حاضري ثم أعود الي النوم لأستيقظ قبل الثامنة دون المنبه لأنه منعطب. لقد صار الزمن يسكنني مثل صوت أسمهان الآن في موالها يا مصبرني علي بلواي ياباي ياباي!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (كتبت هذه الرسائل المتبادلة بين الروائي المغربي محمد شكري وصديقه الكاتب الناقد الدكتور محمد برادة ما بين سنتي 1978 و1980). وصدرت في كتاب بعنوان " ورد ورماد "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى