ديوان الغائبين ديوان الغائبين : ريونوسكيه أكوتاغاوا - اليابان - 1892 - 1927

(ريونوسكيه أكوتاغاوا عملاق الأدب الياباني وصاحب الراشومون أشهر قصة يابانية في العصر الحديث والتي أخذ المخرج الشهير أكيرا كوروساوا اسمها وجزء منها مع قصته الأخرى "في غابة" أو "في علم الغيب" ليصنع منهما ذلك الفيلم الرائع "راشومون" الذي حاز على جائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم في مهرجان فينسيا السينمائي عام 1951 وكذلك على جائزة الأوسكار التقديرية لنفس العام كأول فيلم ياباني يفوز بهاتين الجائزتين، وُلد أكوتاغاوا عام 1892 (العام الخامس والعشرون من عصر ميجي) أي بعد ربع قرن من بداية حركة التحديث والتنوير اليابانية التي بدأت بأن أعاد قادة الساموراي مقاليد السلطة والحكم إلى الإمبراطور. درس أكوتاغاوا الآدب الإنجليزي بجامعة طوكيو الإمبراطورية وبدأ في الكتابة والنشر وهو لا زال طالبا بالجامعة. يقول عنه أحد أصدقائه إنه كان يستطيع قراءة ألف صفحة يوميا. انتحر أكوتاغاوا في سن الخامسة والثلاثين وهو في أوج مجده بتعاطي كمية كبيرة من الأقراص المنومة. بعد موته بثمان سنوات أطلق صديق عمره الكاتب والناشر "كان كيكوتشي" جائزة أدبية باسمه لتصبح أشهر جائزة أدبية في اليابان. ترك أكوتاغاوا ما يزيد على المئتين وخمسين عملا أغلبها قصص قصيرة. تعتبر أعماله قمة الأعمال الأدبية اليابانية التي كُتبت في بدايات القرن العشرين والتي لا تزال لها بريقها ورونقها حتى الآن.
المترجم
منقول

جسد امرأة
ترجمة: ميسرة عفيفي

استيقظ الصيني "يوبو" في إحدى ليال الصيف، بسبب حرارة الجو الشديدة والرطوبة العالية، وأثناء شروده في أوهام وخيالات لا معنى لها وهو يضع يده على خده، ويتكئ على أطرافه الأربعة، انتبه فجأة إلى وجود "قملة" تزحف على حافة الفراش. من خلال أشعة المصباح الخافت الذي ينير الغرفة، يشع ظهر القملة الضئيل وكأنه مسحوق من الفضة، ويبدو أنها تزحف بتلكؤ مستهدفة الوصول إلى كتف زوجته التي تنام بجواره. كانت زوجته نائمة عارية مولية وجهها منذ فترة تجاه "يوبو" وتصدر أنفاس نوم هادئة.
أخذ "يوبو" يفكر وهو يتأمل حركة تلك القملة شديدة البطء، في ماهية عالم تلك الحشرة الضئيلة. فما يمشيه هو في خطوتين أو ثلاثة خطوات، لا تستطيع القملة مشيه خلال ساعة كاملة. بل ونطاق تلك المساحة التي تستطيع السير فيها هي ما فوق الفراش فقط. لو كان يوبو وُلِد كقملة، لكانت حياته بالتأكيد في غاية الممل. ......
أثناء تفكيره عديم الجدوى بهذا الشكل بدأ "يوبو" يغيب تدريجيا عن الوعي، بالطبع لم يكن ذلك الذي رآه حلما. ولكن مع ذلك لم يكن أيضا واقعا. هو فقط كان يغوص رويدًا رويدًا في قاع شعور قلبي غريب بالنشوة. وأخيرا عندما اعتقد أنه استيقظ وعاد إليه وعيه فجأة، وجد "يوبو" نفسه وقد دخلت روحه في جسد تلك القملة، ووجد نفسه يزحف بتلقائية فوق الفراش المليء برائحة العرق الكريهة. ولأن الأمر في غاية الغرابة بالنسبة لـ "يوبو" فقد توقف دون وعي فجأة من فرط الدهشة. ولكن دهشته لم تتوقف عند هذا الحد فقط.
فقد وجد في الطريق التي أمامه جبلا عالي الارتفاع. يحتضن الجبل نفسه دائريا بدفء ويتدلّى منخفضا من مكان عال لا تراه عيني يوبو ويصل حتى سطح الفراش، أمام عيني يوبو مكونا ما يشبه متدليات الكهوف. الجزء الملتصق بالفراش، به جزء بلون أحمر شفاف يأخذ شكل حبة من بذر الرمان، تجعلك تظن أنها تخفي بداخلها نارا مضيئة، ولو استثنينا هذه، فالجبل الدائري كله، مهما أطلت النظر في أرجائه فلن تجد مكانا ليس أبيضا. وذلك البياض هو بياض ذو لون سلس به لدونة مثل الشحم المتجمد، وحتى التجويف في ذلك المنحدر الذي في جانب الجبل، وكأنه تماما مثل أشعة القمر التي تشير إلى الجليد، يشع فقط ظلا أزرقا باهتا. وأكثر من ذلك الجزء الذي يستقبل أشعة الضوء، يحمل داخله لمعانا ذائبا بلون العنبر الشفاف، راسما في السماء البعيدة خطا منحينا جميلا مثل القوس لا يمكن رؤيته في أية سلسلة جبلية أخرى. ......
فتح يوبو عيونه المنبهرة متأملا منظر ذلك الجبل الجميل. لكم كانت دهشته عظيمة عندما عرف أن هذا الجبل هو أحد نهديّ زوجته. لقد نسى الحب والكراهية وبل ونسى الشهوة الجنسية ذاتها، وظل يراقب ذلك الثدي العملاق الذي يشبه جبلا من العاج. ثم من فرط دهشته، ربما نسى حتى رائحة العرق الكريهة في الفراش، ولم يتحرك وكأنه قد تجمد في مكانه.
لأول مرة يستطيع يوبو أن يراقب جسد زوجته الجميل بهذه الحيوية وهذا القرب بعد أن أصبح قملة.
ولكن بالنسبة لفنان بارع، الأشياء الجميلة التي رأها كقملة، لم يكن جمال جسد امرأته فقط.



ريونوسكيه أكوتاغاوا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى