شيماء عبد الناصر - أمنيات الرجل المسكين

يضع الرجل رأسه على الوسادة والصداع ينشب أظافره الحادة في أنسجة مخه المسكين، التفكير التفكير، اللعنة على الحياة والدنيا والناس والعمل والبشر وكل شيء، ألا توجد هناك فرصة، أي فرصة للعيش بهدوء، والبعد عن كل تلك الصراعات، الذهاب للعمل بهدوء وأداء متطلبات الوظيفة في هدوء، والعودة للمنزل وتناول الغداء في هدوء، كل ما يتمناه الهدوء، العودة لعصر الكهف، تناول أطعمة لذيذة وطبيعية وهادئة، إن حتى الأكل الذي يتناوله هو وأسرته تشعر كأنه مصنوع من دقات الثواني، يهرع إليه في الصباح، ويهرع هو في المعدة بعد الظهر، يتمنى نوعية من الطعام تُشبع وتلذ، ويدع ظهره يستريح على الرمال، وأمامه شاطئ من خلاء، الخلاء هو ما يريد، يريد الراحة والنسيم العليل والهدوء والخلاء، النخل بدلا من البشر، السحر بدلا من الواقع، الخيال بدلا من الحقيقة، الوهم والضلال والهوى.

أين منه الابتعاد عن أمه وأولاده وزوجته، البلكونة حتى البلكونة ملوثة، يتربها الشارع الفرعي المترب، الذي يتربه الشارع الرئيسي المترب، الذي يتربه الوطن والقارة والكوكب كله، هل له من فرصة للسفر عبر كوكب آخر ليس به أتربة، تأتي له زوجته بصينية الغداء، ما هذا الطعام، إنه بدون طعم، بدون رائحة، بدون أي شيء، حتى بدون طعام.

يمسك الريموت ويتلوى أمام الشاشة بين قنوات وعوالم السحر والأفلام الوثائقية في الطبيعة الساحرة ويسأل نفسه: هل هذا موجود فعلا في الأرض؟ الأرض التي يعيش عليها هو وأولاده والبنت الوحيدة، الجيران والصديق الوحيد المسافر! زملاء العمل الذي يكرهونه، رئيسه الذي يتملقه، رئيس رئيسه الذي ينقل له أخبار رئيسه، هذه الطبيعة الساحرة هي نفسها التي تعيش معهم كلهم، يفصله عنها مجرد ساعات وقطعة حديد تسمى طائرة، أو قطعة خشب يسمونها باخرة، ونثرة خراء يسمونها نقود، اللعنة على الجميع.
قال لنفسه: أحتاج أن أكون سعيدًا، أتمنى أن أستعيد إحساسًا واحدًا من أحاسيس الفرحة الصادقة، حينما ولد لي أول طفل كنت سعيدًا حقًا، ولذلك أحبه أكثر من الجميع، لو افترضت أن إنجاب طفل جديد يعيد لي السعادة، تلك السعادة بعينها، لماذا لم يعدها إخوته الصغار؟ إنها أشياء لا تحدث سوى مرة واحدة، اللعنة على تلك الأحاسيس الوحيدة.

اللعنة على كل الوحيدين في الأرض، مع أني أريد تلك الوحدة، اللعنة على أنا أيضًا، لماذا جئت لهذا العالم؟ يغريه الآن الموت، ربما لأنه يحدث مرة واحدة سيكون له طعم مختلف، موته أو انتحاره سيثير الريبة أكثر من حياته، سيتساءل الزملاء عن سبب انتحاره، كيف ينتحر هذا الفظ الغليظ؟ ماذا أحزنه؟ هذا المخادع الماكر المتنمر؟ هل لديه قلب هو الآخر؟ يشكون في ذلك، أنا نفسي أشك في ذلك.
أخالني شخصين، ربما أنا مريض، لكن هناك روحًا ما تتلبسني لمجرد الدخول إلى مقر العمل، هذه الروح مليئة بالغل والكره والحقد العظيم، الذي يتغلغل في روحي وكياني كله، لا أطيق ابتسامة زميل، وأكره، آه كم أكره أن يستريح أحدهم أو يحكي قصة حلوة عن حياته، أتوعده في سري حتى أوقع به الشر، هكذا فقط أستريح وأهدأ، إنها لحظة السعادة التي مهما تكررت لا أملُّ منها، إنها تشبه ميلاد أول يتكرر كل مرة، ميلاد سعيدة بهيج أكاد أتحول لطفل مبتهج بملابس العيد الجديدة.

لكني أسأل نفسي: هل لو اطمأنت حياتي، لو أني حصلت على أمنية بسيطة، أن أجلس أمام بحر عظيم أو خليج أو حتى بحيرة ضخمة، أن أتنسم هواء نظيفًا، أن يأتيني عالم التلفاز وأفلام الطبيعة والبحار والأسماك الملونة، لو أني عشت فعلا في ذلك العالم، هل سأكون فعلا سعيدًا بمقدار سعادة التنكيل بزميل عمل رأيته سعيدًا، أو أضاف إنجازًا ما بدوني؟ هل سأفكر فيهم أصلا في تلك اللحظة، أو أني سأتحول حرفيًا لطفل صغير جدًا يلعب مع الأسماك، يبتسم في لطف غريب، سوف أتذكره حينما أعود، ويبدأ الصداع اليومي قبل النوم، في التحول دراميًا، إلى التفكير ومحاولة البحث عن ماهية هذه الابتسامة ومن أين أتيت بها؟ وهل كانت- برغم جمالها الفتان- حقيقة وصادقة، وأي الأسماك كانت ألطف وأجمل.

سوف يكون قراري النهائي قبل لحظة النوم الأخيرة أني سأشوي أي سمكة لم تكن لطيفة معي، سأتناولها عقابًا لها على عدم لطفها أو قلة جمالها مقارنة بالأخريات.


شيماء عبد الناصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى