سمير الفيل - البنـات

بعد خمسة وأربعين يوماً بالتمام والكمال في معسكر الأساس ، حصلنا على أجازتنا الأولى . أدركنا أن أصحاب الزي الكاكي لا يغادرون ثكناتهم إلا بتصريح ممهور بإمضاء رئيس العمليات ، والخاتم الأسود على هيئة نصف دائرة حاملاً كودي الوحدة .
بعد عودتنا تم توزيع الجزء الأكثر عدداً على الكتائب الميدانية على ضفة القنال ، وسيناء . لم يكن قد مرّ عام كامل على حرب 1973 ، وفوجئنا بقوائم المميزين تُدفع إلى الأخصائي .
سألنا عما يعنيه تعبير " الأخصائي " ، فكان الرد أكثر إبهاماً : ستذهبون وتعرفون .
كان المعسكر في نفس المنطقة ، لكن القشلاق أوسع بكثير ، والنظام فيه أحسن ما يكون . هنا يتم تدريب سرايا المشاة المتعاونة : الهاون 82 مم ، الرشاشات الخفيفة ، الـ م / ط ، الـ م / د . . وغيرها .
الصيف على وشك الاندحار ، ولم تعد تخوفنا طوابير التمام ، والتدريب ، والمهارات الأساسية في فك وتركيب البندقية الآلي ، ولا تنظيف الماسورة ، والسونكي صباح كل يوم .
في " الأخصائي " ، صرنا أكثر هدوءاً ، وأقل صخباً . والبكاؤن كفوا تماماً عن النحيب . والنعرة الكذوب عن الأصل والفصل توارت تماماً ، فالكل أولاد تسعة . ومهما قلبت الأمر على وجهه ، فلا وجود للعدل المطلق ، أو الراحة الأكيدة .
لأن العسكري يكدره أومباشى ، والأومباشى يضعضعه صول ، والملازم يفعل بما هم دونه رتبة كل ما يمكن تصوره ، أما اليوزباشى أو الرائد فهي نجوم ونسور تمشي على الأرض بالكاد .
سنعرف فيما بعد ، وحينما نذهب إلى الكتائب القتالية أن كل ذلك سيتبدد ، ليس تماماً ، ولكن ستكون هناك ترتيبات إلهية من لدى حكيم مقتدر ، تجعل الرتب الكبيرة أكثر رحمة ، وأدعي إلى التسامح رغم الخشونة الظاهرة .
لكننا الآن في الأخصائي ، وقد تيقن كل عسكري أن الأمر قد اختلف الآن . ولا بد أن توجد " البنات " . في صور فوتوغرافية داخل الحوفظ الجلدية . بنات مثل العسل ، ترقد صورهن بين طيات الأوراق الهامة . وفي كل فرصة مناسبة ، وبلمح البصر يتم التوحد ، وتشهق الصدور المعذبة بفراق قسري لا راد له : في الأساس كانت هناك إشاعة قوية بأن القيادة تدس سائل الكافور في مشروبنا المبجل " الشاي " ، فتهمد الأعضاء ، وتسكن الأطراف .
في الأخصائي ، صار الأمر أسهل نسبياً ، فالحصول على تصريح بالمبيت يمكن مرة أسبوعياً ، وهي فرصة نادرة لشرب الشاي العادي في المقاهي ، والغرز القريبة حول القشلاق .
يمكن الآن الخروج خميس وجمعة ، وسيندفع الكل تجاه محطة المترو ، هناك يمكن رؤية البنات في أبهى صورة ، كل واحدة تحتضن حقيبة المدرسة ، وتخفي الصدر الناهد لحين .
أفراد المعسكر تغيروا ، وصار التعارف أسرع ، يبدأ بإشعال سيجارة ، ولا ينتهي إلا بالعودة للقشلاق بعد أربع وعشرين ساعة تشغلها حكايات عن البنات .
البنات في المناطق الملاصقة لمعسكرات التدريب كلهن حرص واحتراس ، كلما ابتعدت إلى الأطراف يمكن أن تعثر على بنت جميلة ، شعرها ذيل حصان ، ونظرتها حنان ووله . بنات ممشوقات يرتدن الكريب والحرير ، والبلوزات الصيفية المفتوحة حول الأعناق .
كل الحكايات تبدأ باصطدام صنعته صدفة ، واعتذار ، ثم تمشية على الكورنيش ، حيث يلعب الترمس دوره الخالد في تقريب المسافات بين العشاق ، فهو – أي الترمس – يصنع مسافة زمنية بين كل سؤال وجواب ، مسافة زمنية كافية تماماً لتدبير الكلام المناسب . وتصبح الوردة الحمراء ، أو عنقود الفل المرصع بالياسمين هو عربون المحبة .
كل رجال " الأخصائي " يبحثون عن البنات ، وعن قصص حب حقيقية أو زائفة . المهم أن تكون هناك فتاة تنتظرك كل خميس على رصيف المترو ، أو أمام سينما صيفية ، وربما في حديقة عامة مفتوحة .
لا أحد من العساكر يفكر في الحرام ، أن القلوب الكليلة لا تعرف الملاوعة ، والكذب . فتنة البنات تتجلى في لحظات الصمت الطويلة حين تتماس الأصابع ، وتسري الارتجافة من الأكف إلى الصدور .
ما حال ابن النفيس ، وهو يكشف عن الدورة الدموية للإنسان ، هل اكتشف فروق في الدرجة بين سريان الدم في قلوب المحبين ، وغيرهم ممن لم يدخلوا في تجربته ؟
هل للأفرول الكاكي سحر ، وهل للبيادة الســــــوداء الثقيلة فتنة ما ؟
لا أحد يظن هذا . ربما كان السر في تلك الأجساد الفتية التي تتفجر صحة وعنفواناً ، والأذرع المفتولة التي تعلن عن رجولة حقيقية .
أما الشعر المفلفل القصير بطول ربع بوصة ، فهو يخص القشلاق وقوانينه الصارمة لا الأفراد المغلوبين على أمرهم . كذلك فإن البشرة السمراء التي دبغتها الشمس فإن لها طابعاً شعرياً ، يخطف قلوب البنات خطفاً .
القلوب الغضة بحاجة إلى حب بريء ، يبحث عنه العساكر في أجازة الخميس والجمعة التي تستمر في " الأخصائي " لشهرين كاملين .
الضفائر الناعمة الطويلة ، والشعور المنسابة على الظهور تقوم بالفعل نفسه . فهي تومئ إلى طبيعة الشخصية . أما لغة العيون فهي الحد الفاصل بين الموافقة والامتناع . وتظل هناك منطقة محايدة ، تتقلب فيها القلوب ، بين الرفض والقبول ، فالحب بحر غويط ، يحتاج إلى غواص ماهر .
والعساكر ككل الرجال ، يحتاجون إلى البنات أكثر من غيرهم . فالحرمان الطويل يولد العطش . ولمسات قليلة من الطبيعة تحول البنت البريئة إلى فتاة باهرة الجمال .
لكن في ليل المعسكر ، لا أحد يبوح بسره ، لا أحد يسمح للآخرين بانتهاك سره ، حتى لو كان ذلك بالتلصص ، واستراق النظر إلى صورة فوتوغرافية ، فالمبدأ لا يتجزأ .
وهذا ما دفع عبده طه لأن يتشاجر مع زميله يوسف الفناجيلي حين كان يستحم في الخلاء بزمزميته ، وعاد ليجد صورة فتاته بين يدي صاحبه ، يحملق فيها بفضول غريب .
صعد عبده طه الأزمة ، وأقسم أنه سيثأر لكرامته ، وجلس في ركن الخيمة مقهوراً ، منزوياً ، يزم شفتيه في غل مكتوم.
بعد أسبوع واحد كانت صورة " نوال " بين يديه يقلب فيها بنفس الفضول ، بعد أن ذهب زميله إلى الأدبخانة وعاد بعد ربع ساعة .
حملق العسكري يوسف في الصورة ، وعلا صوته تسخيناً للمشاجرة ، فسارع خصمه بالحديث :
انتظر . . واحدة . . بواحدة .
وظل " الأخصائي " ضمن طوابيره المتعددة مطمعاً لكل عساكر المشاة المستجدين بحثاً عن نسمة هواء منعشة عصر كل خميس وجمعة ، ولكنه لم يكن يستحوذ إلا على المتميزين في فرز حقيقي واختبارات دورية في " الأساس " .
في هذا المعسكر كانت الأفرولات العسكرية قد تم تضييقها أو توسيعها لدى الترزية في كافة مدن وقرى القطر . وصار الزي أنيقاً ومناسباً ، بل أن البعض تفتق ذهنه عن حيلة بارعة ، وهي إخفاء زي خاص بالأجازة ، فيه كل فنون الموضة ، وأصحاب هذا الاتجاه كانوا فريسة دائمة لرجال الشرطة العسكرية في مطارداتهم الليلية المثيرة .
أما أبناء الريف ممن نهشتهم البلهارسيا ودودة الانكلستوما ، فقد كان لهم حريمهم ، من بنات العم والخال ، وعادة ما يتم عقد القران فور الانخراط في الجندية . ويسمى هذا " حبس " العروس لحين انتهاء فترة التجنيد .
قلت في بالي : حبس هنا ، وحبس هناك .
لا أحد سمعني ، وسيطرت علىّ فكرة : ماذا لو خلق الله الكون بدون بنات ؟
وماذا كان العساكر يفعلون في أجازاتهم بغيرهن . إن هذا الجنس اللطيف ، الآسر ، المعذب للرجال ضرورة . إن غموضهن ، وجمالهن الأكيد يدحض كل نزعة للجنون الخالص .
حمدت الله أنه خلق البنات ، للعساكر ، يحببهن في إخلاص ، وود عميقين .



سمير الفيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى