سلمى هشام - الشبح المربرب

اليوم يختلف عن كل الأيام الماضية. أصحو فأقفز من السرير في خفة، وبقفزة واحدة أجدني في المطبخ. اليوم أستطيع أن أدخل المطبخ بعد أن منعت نفسي عنه إلا للرحلات الضرورية حتى لا تجتذبني رائحة مربى هنا أو مكرونة هناك. لمدة 24 ساعة سأكون حرة لأجوس هنا وهناك وأعيث فسادًا في بطني التي جفت من الأكل الصحي والرجيم.

ياللحفاظ على صحة المتعب، إن حصولي على درجة نهائية في أي امتحان أقل عناءً من الحفاظ على تلك الصحة بكثير، لكن ذراعي المتهدل ورقبتي التي نبت لها لُغد بين ليلة وضحاها لا يرحمان، يذكرّاني بأنا التي لا أريد أن أكونها فضلاً عن مضايقات الرائح والغادي، لكن اليوم "فري" ولابد أن أكافئ نفسي على الجهاد الصحي الذي أعانيه.

أتت أمي بصينية بسبوسة أيضاً، أمقت حركاتها حين تأتي بشيء بهذا الجمال والإغراء في يوم لا أتمكن فيه من التهام قطع وفتات منها، ساعتها تصرح متذوقات فمي وتشط ريالتي، وأستعيد طعم هذه الحلوى الرهيفة التي تذوب ذوبًا في الفم.

استطعت اليوم أخيرًا النظر إليها وجهًا لوجه، واجهتها بعد الغداء المُعتبر فانعكس على سطع عيناي غلاف "السيلوفان" الجمل المشدود على قدّها الطري، بسبوسة سادة كما أحبها. مسطّح من اللون الذهبي المُحبب يتكسر بالشوكة كفتاة مائعة تتدلل على حبيبها وتسقط بين ذراعيه فيحس طراوتها، وهي تذوب ذرة ذرة في كيانه وكهف فمه.

أريد فقأ "السيلوفان" بأصابعي مثلما كنت أفعل وأنا صغيرة، ثم تقطيعه إربًا إربًا. تبدو البسبوسة جميلة بعد شهر من الاشتياق، وكلما زاد الشوق التهب الوجد، متمثلًا في صينية معدنية مستديرة تحيط بها وتسوّر أطرافها، كلما أخذت بالشوكة قطعة بان جزء من جسدها، مكتوب عليها شيئًا ما تغطيه البسبوسة، ترى ما هو المكتوب؟

تقاطر السكر حثيثًاً إلى معدتي حتى وصل إلى نُخاعي الشوكي فانتشيت واكتفيت زاهدة في حل ذلك اللغز لمعرفة المكتوب على الصينية. استكملت اليوم وأنا أمر من أمامها وخلفها، أنظر نظرات خاطفة صوبها حتى أمست.

صحوت في اليوم التالي وقد أصابني عُسر هضم، نظرت أمي إليّ بارتياب وكررت النظرات على وجه أخي، قالت وهي تزفر بقوة:

"ارتحتم .. أهو بان المكتوب على الصينية. ممكن تقولولي بقى مين فيكم اللي خلّص البسبوسة؟"

أنكرت بشدة وكذا فعل أخي، لكن ومضات برقت في وعيي رأيت عبرها شبحًا ضخماً يتسلل في الظلام، ظهر ظله فبدا بلُغد متضخم وذراعين متهدلين فاستعذت بالله، ثم مضيت إلى المطبخ أحضر كأس الماء المغلي والليمون لأبدأ به يومًا جديداً من النظام الغذائي الصحي، لكنني فجأة انتبهت وأمسكت ذراعي المتهدل ثم قرصته وأنا أتساءل، ترى من كان هذا الشبح "المربرب"؟




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى