أدب المناجم احماد بوتالوحت - أسفل حائط "لكريني"*

* إهداء: إلى الذين قضوا في سبيل لقمة عيش نظيفة تحت أنقاض مناجم الفوسفاط باليوسفية

هناك أسفل حائط " لكريني" جلست, كان جليسك وأنيسك "بولبادر" يطل عليك من اللافتة اللاصقة على قنينة الشراب الاحمر الرخيص, وكان صاحبك قرطاس "الطايب وهاري"**، حملته معك من السوق الاسبوعي الذي يبعد نصف ميل عن الحائط, صحيح أنك تحب الأشفين البحري المقلي مع كؤوس الخمر التي كنت تجرعها, إلا أنك الآن لا تسطيع شراءه كما كنت تفعل قبل ذلك, نصف كيلو مصحوبا بقطع الليمون وأصابع الفلفل اللاسع رغم انه يهيج مؤخرتك ويجعلك تحك وتحك حتى تدمي طوق ثقبك. حسبك الآن الفول والحمص المسلوقين في الماء، المرشوشين بالملح والكامون، وسابقا كنت تهرب إلى مقبرة النصارى من ضجيج البيت الذي تكتريه مع الجيران , بروليتاريون مثلك يكدحون طوال اليوم من أجل لقمة
نعم إلى مقبرة النصارى ولم تكن قد عقدت بعد ألفة مع الحائط. تجلس بين القبور وتجالس موتى النصارى، كنت تكلمهم عن بؤسك, على رخامة قبر من القبور تضع قنينتك وتبدأ في إحتساء الاحمر القاني وتقضم من خبزة كمخذة, ألقيت داخلها بقطع الأشفين البحري, تشرب وتشرب, لكنك لا تترحم على الموتى, تعتبرهم مسؤولين عن بؤسك وضعفك, تقول عنهم أنهم إحتلوا بلدك ثم مدينتك ونهبوا خيراتها ولما غادروا تركوا خلفهم من هم أسوأ منهم, واصلوا نهبك وما تزال جيوب اللصوص كما تسميهم تمتلأ وأرصدتهم في البنوك تتضخم وأنت ما زلت كما كنت, فقط مائة الصلبان تصورتها تنبت على قنة رأسك , صلبان كقرون الأيائل," سيمون " معلمة الفرنسية قالت يوما << المسيح إختار صليبه >> لكنك انت لم تختر صلبانك, هم إختاروها لك وأنبتوها على راسك, ساقوك إلى الصلب وكل يوم يعاد صلبك، وكل يوم تعقد حولك حلقة لتتفرج على صلبك. كنت تشرب, ولما تحاصرك " بولة " تتبول على الصلبان, وكلما أفرطت في الشراب على معدة فارغة, أفرغت محتواها على الرخام، ولم تكن تعتذر من المضطجعين , لكن فيما بعد أيقنت أن هؤلاء الذين كنت تجالسهم وتريق كؤوس الخمر عند رؤوسهم أو الذين غادروا من النصارى كانوا أرحم على امثالك من هؤلاء. بعد سنين عدت تعتذر, لكنك لم تجد من يتقبل إعتذارك، لا لإن الهالكين صموا آذانهم واستغشوا ثيابهم -إن بقيت لديهم ثياب – بل لأن لا أحد منهم بقي هناك ، لمن تعتذر، لا تعتذر! نبشت القبور بحثا عن أشياء نفيسة, وطمعا في بيع الرخام, سرق باب المقبرة الحديدي, تأسفت كثيرا على جماجم لم يعد بها ما يغري على الإنتقام, جماجم بمحاجر فارغة تحدق في الفراغ.
- يا إلاهي‼ قالت نصرانية " جاءت تفتقد قبر قريب لها .
إنخرطت في موجة من النحيب, حملت بعض عظام القريب, عظامه أو عظام شخص آخر، إختلطت الهياكل, وضعت الرفاة داخل صندوق فاخر نقش على غطائه صليب كبير.
- يا إلاهي , لم تكتب على هؤلاء النوم في سلام‼ قالت بعد أن كفكفت دموعها .
لم يكن الذين تسلموا زمام الامور بعد رحيل النصارى رحيمين بك , فطبيب الشركة الأجنبي لما تزوره ليوافق على رخصة مرضك, يقول لك :
- بايت سكران, وبغيتي ترجع "تجبد عليها" ***
- راني امريض " تقول انت .
- انتِ مابيك والو, سير تخدم, أنتِ صخيخ خلوف. تتاحامل على نفسك , تلبس الجزمة المطاطية التي تقي رجليك من البلل والإصطدامات, وتستقل الحافلة إلى المنجم, أحيانا يركبك الكسل فلا تذهب للعمل, فيتم إقتطاع يومين من راتبك الهزيل " نهار بنهار " كما يقولون بلغة العمل, فقط يوم الاحد يوم العطلة الاسبوعية، في غرفتك الوحيدة "البرتوش" كما إعتدت أن تسميها, تعد طنجرة من العدس - حبيبات تعوم في الماء - تسمي الماء مرقا تغفل عن الطنجرة وانت تشرب وتدخل في مونولوڭ مع نفسك، يتبخر الماء من الطنجرة ينبعث نشيش ورائحة شياط، يحاصرك الدخان, يهرع الجيران إليك - بروليتاريون مثلك - الكفاف والعفاف والغنى عن الناس - تشتركون في المرحاض والامراض. تخرج لشراء الإشفين البحري المقلي من السوق وتكمل شربك تحت جدار حائط " لڭريني"
تشاركك في الفيئ أتان يحدث أن تفرغ مثانتها أمامك ’ يغمز لك فرجها وهو يعتصر آخر قطرات البول, تقول ماذا لو!؟ وسرعان ماتصرف الفكرة خوفا من الفضيحة التي ستضاف إلى فضائحك في ' الدوار ' ، تتذكر نفسك وانت تبحث عن أتان في عز الصيف, ضبطوك وأنت " تبردها " في الرمضاء لقبوك ب " بوحمارة " صاحبك اللقب حتى داخل المنجم ولم يسقط عنك إلا بعد حين.. نسيت أمر الحمارة التي غمز لك فرجها, عقلك كان عاطلا عن العمل وهكذا كان قبل ذلك, تشرب وتشرب, وفي الجهة الاخرى من الجدار يتسلل أحد اللذين جاءهم الغائط ، من السياج فتسمع قصفا , تقفز له .
هكذا انت تشرب وتشرب , لتعطل عقلك عن العمل يا بغل عربة " الكارو" هكذا كنت وانت تلميذ , كانت المعلمة 'سيمون ' تشرح مغزى قصيدة الشاعر- لافونتين - الغراب والثعلب . وانت كنت تأسر تحت قدمك كسرة مرآة كي ترى فيها أسفل سيمون حين تمر امام طاولتك. وقفت بجانبك , كشفت عن وجه المرآة , نظرت صدفة حيث نظرت أنت، رأت جذري فخديها في سماء المرآة , بكت حينها وقالت
Tu n’as que ça dans la tête - ?
أحالتك على المجلس التأديبي , فصلوك عن الدراسة , وهكذا لم تستوعب لغز حكاية ' الغراب والثعلب ' وضيعت الجبنة أيها المغفل . لو انك فقط يابغل! قلت لها أكشفي عن سرتك , اريد ان أرى بياضها الثلجي لاني لم ارى بشرة كبشرتك لأنثى في الدوار, لرحبت بطلبك واشفقت عن حرمانك ومتعتك ببياض بطنها وربما اكثر من ذلك . ولأنك مغفل , لم يقبلوك في المنجم إلا في الاعمال الشاقة بعد أن جربوا قدرتك وقوتك على سحب جردل الحديد إلى الأعلى وهكذا أثبتوا أنك لا تصلح إلا لأعمال البغال, والكل يعتقد ذلك في الدوار. ' نجمة ' صديقة والدتك رثت لحالك حين زرت الدوار تحمل لوالدك بشرى قبولك في المنجم وقالت :
- الله يحسن أعوانك , يا وليدي !
تذكرت الذين ذهبت باطرافهم ناقلة الفوسفاط , كما تذكرت الذين ينهار عليهم الجبل من حين لآخر وهم ينقبون عن الذهب الاصفر, فيقضون تحت أنقاضه .
- يطول عمرو , قالت والدتك, بحدسها المعهود لها,فهمت ماعنته نجمة بكلامها .
في المنجم قضيت اربع سنين تكدح تحت الارض وفي اول عهدك بالعمل , تركت الاعمال الشاقة أثرا على كفيك ، كشط الرفش جلدهما , دلتك نجمة , على وصفة ناجعة , لبخة الحناء , فيما بعد صارت كفيك كالصخر , فاصبحت تستغني عن الليفة في الحمام حيث تتمدد وتتمرغ كحمار في'' مرمضة '' ، الارض الساخنة تخفف من آلام عضلاتك, ولما تؤوب من الحمام وتشرب شايك المشحر–براد باكمله– حتى تسافر في نوم , تتخاصم فيه مع '' الكابران أحماد '' فيرفع التقرير إلى" الجنيور" ليطردك هذا الاخير, تفيق اخيرا مذعورا , فتجد ان وقت الذهاب إلى العمل أوشك ان يقترب . فتلعن الكابران الذي ايقظك . لم تفلح في شغلك كالدين تسميهم " البوڭر" ، بنوا لهم دورا وحرصوا على مكافئاتهم السنوية
وانت بددتها على الشيخات ( الراقصات ) تزنر أحزمتهن بالأوراق النقدية يهتز وسط الشيخة اكثر وتغني :
- ها الجاوي ، ها صلبان واللي فيه الحال إبان .
تنبري أنت كمن يريد ان يبارز ثورا . تصعد على " القعدة " وتجلدها بمشطي قدميك وتتصور أنك تدوس على ' الكابران ' وهناك في الدوار كان والدك ينتظر نصيبه من مكافئتك السنوية الاولى , وكانت السنة سنة جدب ومحل , شح المطر, باع العجوز أغلب رؤوس اغنامه واحتفظ بنعجتين , هاجر الناس إلى المدن للبحث عن عمل ، بعضهم لبث في الدوار يعيش على الدقيق المدعم , طحين اسود, تلوك خبزه وكأنك تمضغ مطاطا لا يدعن للمضغ , ولا يلين , في تلك السنة هربت اكياس الدقيق المدعم , وضع بعض التجار الاغنياء أياديهم على الدجاجة التي تبيض ذهبا , بمساعدة المقدمين والشيوخ الذين إستفادوا بدورهم , لكن والدك لم يستفد من مكافئتك الأولى ولا التي ستأتي خلال الثلاث سنوات التي قضيتها في المنجم , وقال حين علم من بعض معارفه أنك تبدد مكافئاتك على الخمر والشيخات :
- مااولدت غير لحلالف .!
وخلال السنة الرابعة التي قضيتها في المنجم , حدثت الكارثة , والمصيبة لما تحدث ، لا تعلن عن نفسها مسبقا , فجأة جاءت ، دون إنتظار , دخل العمال في إضراب لا محدود عن العمل دون تخطيط مسبق , بعض المناديب الحالمين ، والأكثر إندفاعا مثلك , ساقوا العمال إلى الكارثة , حقا لم تكن ضد تحسين ظروف العمل والزيادة في الأجور لكن وجدتها فرصة سانحة لتستريح من العمل ومن صداع''الكابران '' ومن طبيب الشركة الذي بهدلك أكثرمن مرة لما زرته من أجل إجازة مرض.
تفرغت خلال أيام الإضراب لإحتساء الخمر والسهر مع الطرب والغناء . كان برد ديسمبر تلك السنة لاسعا كالإبر ولم يكن سلاما على الذين إعتصموا داخل المنجم حتى تلبية مطالب العمال كما لم يكن سلاما على الذين ساروا تحت حلكة الليل محتمين بمعاطفهم الثقيلة , وطاقيات تخفي وجوههم , وأحتذوا الأحذية الثقيلة التي تمنحها الشركة للعمال , يحملون الاغطية والمؤن والسجائر للمعتصمين , يلقون بها من آبار نافذة إلى داخل المنجم , لا أحد كان يعرف من اين تصل الإمدادات , رغم الحصار المضروب على مدخل المنجم من طرف قوات "السيمي " المدججين بالسلاح والهراوات والدين تفرقوا كذلك في طرقات المدينة المنجمية , يحرسون منشآت الشركة, السلطات أغلقت مقر نقابة الإتحاد, أنت لم تكن تتابع تطورات الإضراب, ماكان يهمك هو السهر في "اعزيب العبدي" هناك! كنت تتابع إهتزاز أرداف الشيخات، بعت كل متاعك في 'البرتوش' ولم تحافظ إلا على وابور غاز صغير وعلى حشية مهترئة وقذر وطنجرة صغيرة وبراد لإعداد الشاي ، سوده السخام . يهتز ردف الشيخة حتى يلامس خصرها ثم يصدح صوتها بالغناء :
" فين ايامك آ بن ڭرير
ياك الغبرة والكور يطير
لا خزانة لا عود بقا
اللي تهرس ها لكرارس
واللي تفرم يبقا تما
واللي بغا اللامة يتعاما"
تذكرت دواوير الرحامنة فساحت دموعك وزنرت وسط الشيخة بالاوراق النقدية وصببت لها لتشرب مزيدا من الخمر , ونسيت نفسك , أوهمك بعض المناديب أنه لا رجوع للعمل دون تحقيق جميع مطالب العمال . فك الإعتصام بعد أن وضع أفراد " السيمي " أياديهم على " السبيدرـ مان " الذي كان يمد المعتصمين بالمؤونة , هكذا يقولون , تصورت "السبيدرـمان " ينسج خيوطا من خلفيته كخيوط العنكبوت يتنقل بها في فضاء المدينة , وينفذ من خلال الآبار إلى المنجم, ويقوم بنقل رسائل المعتصمين إلى اهاليهم . إلتحق العمال بعملهم بعد مهلة حددتها إدارة الشركة ، كانوا يتسللون واحد واحدا, ومباشرة بعد إنتهاء المهلة شطبت إدارة الشركة على الذين تخلفوا وكنت أنت ما زلت تتابع سهراتك في "اعزيب العبدي".



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إسم حائط نسبة إلى شخص يدعى لكريني
** فول وحمص مسلوقين
*** تريد أن ترجع لتنام


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى